الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : هذه الآية دالة على فضل العلم ، فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه ، فلو كان في الإمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم ، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول ، أما الكتاب فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ، ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة ، وذلك يدل على عظم شأن العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل أنه قال : تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : مواعظ القرآن ، قال في البقرة : ( وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة ) [البقرة : 231] يعني مواعظ القرآن ، وفي النساء : ( وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) [النساء : 113] يعني المواعظ ، ومثلها في آل عمران .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى : ( وآتيناه الحكم صبيا ) [مريم : 12] وفي لقمان : ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ) [لقمان : 12] يعني الفهم والعلم ، وفي الأنعام ( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم ) [الأنعام : 89] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الحكمة بمعنى النبوة في النساء : ( فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ) [النساء : 54] يعني النبوة وفي ص : ( وآتيناه الحكمة ) [ص : 20] يعني النبوة ، وفي البقرة : ( وآتاه الله الملك والحكمة ) [البقرة : 251] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : القرآن في النحل : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) [النحل : 125] وفي البقرة : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [البقرة : 269] . وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ، ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [الإسراء : 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلا ( قل متاع الدنيا قليل ) [النساء : 77] فما سماه قليلا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرا ، ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة ، والعلم لا نهاية لقدره وعدده ومدته ، ولا للسعادات الحاصلة منه ، وذلك ينبهك على فضيلة العلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله تعالى : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) [الزمر : 9] وقد فرق بين سبع نفر [ ص: 165 ] في كتابه ، فرق بين الخبيث والطيب فقال : ( قل لا يستوي الخبيث والطيب ) [المائدة : 100] يعني الحلال والحرام ، وفرق بين الأعمى والبصير ، فقال : ( قل هل يستوي الأعمى والبصير ) [الرعد : 16] وفرق بين النور والظلمة فقال : ( أم هل تستوي الظلمات والنور ) [الرعد : 16] وفرق بين الجنة والنار ، وبين الظل والحرور ، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذا من الفرق بين العالم والجاهل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء : 59] والمراد من أولي الأمر العلماء في أصح الأقوال ؛ لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس ، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) [آل عمران : 18] ، وقال : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [النساء : 59] ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين ، فقال تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) [آل عمران : 7] وقال : ( قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) [الرعد : 43] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [المجادلة : 11] واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف : أولها : للمؤمنين من أهل بدر قال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [الأنفال : 2] إلى قوله : ( لهم درجات عند ربهم ) [الأنفال : 4] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثانية : للمجاهدين قال : ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين ) [النساء : 95] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالثة : للصالحين قال : ( ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا ) [طه : 75] .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابعة : للعلماء ، قال : ( والذين أوتوا العلم درجات ) [المجادلة : 11] والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات ، وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات ، وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ، ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات ، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قوله تعالى : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب ، أحدها : الإيمان ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) [آل عمران : 7] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : التوحيد والشهادة ( شهد الله ) [آل عمران : 18] إلى قوله : ( وأولو العلم ) [آل عمران : 18] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : البكاء ( ويخرون للأذقان يبكون ) [الإسراء : 109] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الخشوع ( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) [الإسراء : 107] الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : الخشية ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) [فاطر : 28] أما الأخبار فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : روى ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين ، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة ، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ، ويمسي ويصبح مغفورا له ، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : عن أنس قال : قال عليه السلام : " من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم ، فيكون لله ، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله ، وإن بابا من العلم يتعلمه الرجل خير من [ ص: 166 ] أن يكون له أبو قبيس ذهبا فينفقه في سبيل الله " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : عن الحسن مرفوعا " من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة " .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أبو موسى الأشعري مرفوعا " يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يا معشر العلماء ، إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم ، انطلقوا فقد غفرت لكم " .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : قال عليه السلام : " معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور " .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أبو هريرة مرفوعا " من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء " .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : ابن عمر مرفوعا " فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عاما ، وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها ، والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : الحسن مرفوعا ، قال عليه السلام : " رحمة الله على خلفائي ، فقيل : من خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله " .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : قال عليه السلام : " من خرج يطلب بابا من العلم ليرد به باطلا إلى حق أو ضلالا إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عاما " .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن " لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب " .

                                                                                                                                                                                                                                            الحادي عشر : ابن مسعود مرفوعا " من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبيا " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني عشر : عامر الجهني مرفوعا " يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر " وفي رواية فيرجح مداد العلماء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث عشر : أبو واقد الليثي : " أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فإنه رجع وفر ، فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال : أخبركم عن النفر الثلاثة ، أما الأول : فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني : فاستحيا من الله فاستحيا الله منه ، وأما الثالث : فأعرض عن الله فأعرض الله عنه " رواه مسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية