الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما يتفرع عليه الأحكام المذكورة إذا مات المرتد على الكفر ، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت شيء من هذه الأحكام ، وقد تفرع على هذه النكتة بحث أصولي وبحث فروعي ، أما البحث الأصولي فهو أن جماعة من المتكلمين زعموا أن شرط صحة الإيمان والكفر حصول الموافاة ، فالإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا مات المؤمن عليه والكفر لا يكون كفرا إلا إذا مات الكافر عليه ، قالوا : لأن من كان مؤمنا ثم ارتد والعياذ بالله فلو كان ذلك الإيمان الظاهر إيمانا في الحقيقة لكان قد استحق عليه الثواب الأبدي ، ثم بعد كفره يستحق العقاب الأبدي ، فإما أن يبقى الاستحقاقان وهو محال ، وإما [ ص: 32 ] أن يقال : إن الطارئ يزيل السابق ، وهذا محال لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن المنافاة حاصلة بين السابق والطارئ ، فليس كون الطارئ مزيلا للسابق أولى من كون السابق دافعا للطارئ ، بل الثاني أولى ؛ لأن الدفع أسهل من الرفع .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن المنافاة إذا كانت حاصلة من الجانبين ، كان شرط طريان الطارئ زوال السابق ، فلو عللنا زوال السابق بطريان الطارئ لزم الدور وهو محال .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن ثواب الإيمان السابق وعقاب الكفر الطارئ ، إما أن يكونا متساويين أو يكون أحدهما أزيد من الآخر ، فإن تساويا وجب أن يتحابط كل واحد منهما بالآخر ، فحينئذ يبقى المكلف لا من أهل الثواب ، ولا من أهل العقاب وهو باطل بالإجماع ، وإن ازداد أحدهما على الآخر ، فلنفرض أن السابق أزيد ، فعند طريان الطارئ لا يزول إلا ما يساويه ، فحينئذ يزول بعض الاستحقاقات دون البعض مع كونها متساوية في الماهية ، فيكون ذلك ترجيحا من غير مرجح وهو محال ، لنفرض أن السابق أقل فحينئذ إما أن يكون الطارئ الزائد ، يكون جملة أجزائه مؤثرة في إزالة السابق فحينئذ يجتمع على الأثر الواحد مؤثرات مستقلة وهو محال ، وإما أن يكون المؤثر في إزالة السابق بعض أجزاء الطارئ دون البعض ، وحينئذ يكون اختصاص ذلك البعض بالمؤثرية ترجيحا للمثل من غير مرجح وهو محال ، فثبت بما ذكرنا أنه إذا كان مؤمنا ثم كفر ، فذلك الإيمان السابق ، وإن كنا نظنه إيمانا إلا أنه ما كان عند الله إيمانا ، فظهر أن الموافاة شرط لكون الإيمان إيمانا ، والكفر كفرا ، وهذا هو الذي دلت الآية عليه ، فإنها دلت على أن شرط كون الردة موجبة لتلك الأحكام أن يموت المرتد على تلك الردة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية