الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ومتى تجب الفطرة ؟ فيه قولان ( قال في القديم ) : تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر ; لأنها قربة تتعلق بالعيد . فلا يتقدم وقتها على يومه ، كالصلاة والأضحية ( وقال في الجديد ) : تجب بغروب الشمس من ليلة الفطر من رمضان ; لما روى ابن عمر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر من رمضان } ، والفطر من رمضان لا يكون إلا بغروب الشمس من ليلة العيد ; ولأن الفطرة جعلت طهرة للصائم بدليل ما روي : أن { النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين } ، وانقضاء الصوم بغروب الشمس ، فإن رزق ولدا أو تزوج امرأة أو اشترى عبدا ودخل عليه الوقت وهم عنده وجبت عليه فطرتهم ، وإن رزق ولدا أو تزوج امرأة أو اشترى العبد بعد دخول الوقت أو ماتوا قبل دخول الوقت لم تجب فطرتهم ، [ ص: 85 ] وإن دخل وقت الوجوب وهم عنده ثم ماتوا قبل إمكان الأداء ففيه وجهان ، ( أحدهما ) : تسقط كما تسقط زكاة المال ( والثاني ) : لا تسقط ; لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بموت المرأة ، ككفارة الظهار ، ويجوز تقديم الفطرة من أول ( شهر ) رمضان ; لأنها تجب بسببين ، بصوم رمضان والفطر منه ، فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر ، كزكاة المال بعد ملك النصاب وقبل الحول ، ولا يجوز تقديمها على ( شهر ) رمضان ; لأنه تقديم على السببين ، فهو كإخراج زكاة المال قبل الحول والنصاب ، والمستحب : أن تخرج قبل صلاة العيد ; لما روى ابن عمر : أن { النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة } ولا يجوز تأخيرها عن يومه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : { أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم } ، فإن أخره حتى خرج اليوم ، أثم وعليه القضاء ; لأنه حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه ، فلا يسقط عنه بفوات الوقت ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر الأول رواه مسلم بلفظه ، وأصله في الصحيحين .

                                      وأما حديث : أن { النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين } فرواه أبو داود من رواية ابن عباس بإسناد حسن .

                                      وأما حديث ابن عمر : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة } فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بلفظه .

                                      وأما حديث { أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم } فرواه البيهقي بإسناد ضعيف ، وأشار إلى تضعيفه . وقوله : ( لأنها قربة تتعلق بالعيد ) احترز به عن الزكاة وغيرها ، ولكنه ينتقض بغسل العيد على أصح القولين ، فإنه قربة تتعلق بالعيد ويدخل وقتها قبل الفجر .

                                      قوله : ( طهرة وطعمة ) بضم الطاء فيهما وقوله : ( أغنوهم عن الطلب ) هو بهمزة قطع مفتوحة ، وإنما قيدته ; لأني رأيت كثيرين ممن لا أنس لهم بشيء من العربية يضمونها ، وهذه غباوة ظاهرة ، والصواب الفتح ; لأنه رباعي ، فالأمر فيه بفتح الهمزة كأعطى [ ص: 86 ] وأنفق وأخرج . يقول : يا قوم أنفقوا وأخرجوا وأعطوا وأغنوا السائل بفتح الهمزة في الجميع ، مع قطعها . قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا } وأخرجوا أنفسكم ، وقال تعالى في أغنى رباعيا : { ووجدك عائلا فأغنى } ، ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل ( إحداها ) : في وقت وجوب زكاة الفطر ثلاثة أقوال مشهورة في الطريقين ( أصحها ) باتفاقهم : تجب بغروب الشمس ليلة عيد الفطر ، وهو نصه في الجديد ( والثاني ) وهو القديم : تجب بطلوع الفجر يوم عيد الفطر ، ودليلهما في الكتاب ( الثالث ) : تجب بالوقتين جميعا ، فلو وجد أحدهما دون الآخر فلا وجوب ، خرجه ابن القاص وضعفه الأصحاب وأنكروه عليه .

                                      قال أصحابنا : فلو ولد له ولد أو تزوج امرأة أو ملك عبدا ، أو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل الفجر وبقوا إلى الفجر لم تجب فطرتهم على الجديد والمخرج ، وتجب في القديم ، ولو وجدوا قبل الغروب وماتوا بين الغروب والفجر وجبت في الجديد دون القديم والمخرج ، ولو وجدوا بعد الغروب وماتوا قبل الفجر لم تجب بالاتفاق ، وارتداد الزوج والرقيق وطلاقها البائن كالموت ، ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل الفجر وجبت في الجديد والقديم ، وعلى المخرج وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره بناء على الخلاف المشهور : أن الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد والأصح : الوجوب ، ولو باعه بعد الغروب وملكه المشتري في الحال بانقطاع الخيار واستمر ملكه فعلى الجديد فطرته على البائع ، وعلى القديم على المشتري وعلى المخرج : لا تجب على واحد منهما ; لأن [ ص: 87 ] الوقتين لم يقعا في ملك واحد منهما ، ولو مات مالك العبد بين الغروب والفجر ، وانتقل العبد للوارث فعلى الجديد فطرة هذا العبد في تركة الميت وفي القديم على الوارث وعلى المخرج وجهان . ( الصحيح ) : لا فطرة على واحد ( والثاني ) : تجب على الوارث بناء على القول القديم ، ثم إن الوارث يبني على حول المورث ، ولو كان عبد بين شريكين بينهما مهايأة فغربت الشمس في نوبة أحدهما وطلع الفجر في نوبة الآخر ، وقلنا : باعتبار القولين قال إمام الحرمين : تجب الفطرة مشتركة بلا خلاف ، سواء قلنا : تدخل في المهايأة أم لا ; لأن أحدهما لم ينفرد به وقت الوجوب .



                                      ( والثانية ) لو مات المؤدى عنه بعد دخول وقت الوجوب وقبل التمكن من الأداء فوجهان مشهوران ، ذكرهما المصنف بدليليهما ( أصحهما ) : لا تسقط الفطرة وبه قطع ابن الصباغ وغيره ( والثاني ) : تسقط ، وأما إذا لم يمت المؤدي ولا المؤدى عنه لكن تلف المال بعد دخول وقت الوجوب قبل التمكن من الأداء ففي سقوط الفطرة وجهان حكاهما قال : ( أصحهما ) : تسقط كزكاة المال ( والثاني ) : لا ، والفرق : أن زكاة المال تتعلق بالعين بخلاف الفطرة ، وأما إذا تلف المال بعد التمكن فيستقر عليه الضمان بلا خلاف ; لتقصيره وقياسا على زكاة المال .



                                      ( الثالثة ) : قال أصحابنا : يجوز تعجيل زكاة الفطر قبل وجوبها بلا خلاف ; لما ذكره المصنف . وفي وقت التعجيل ثلاثة أوجه .

                                      ( والصحيح ) الذي قطع به المصنف والجمهور : يجوز في جميع رمضان ، ولا يجوز قبله ( والثاني ) : يجوز بعد طلوع فجر اليوم الأول من رمضان وبعده إلى آخر الشهر ، ولا يجوز في الليلة الأولى ; لأنه لم يشرع في الصوم . حكاه المتولي وآخرون .

                                      ( والثالث ) : يجوز في جميع السنة ، حكاه البغوي وغيره ، واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب : على أن الأفضل أن [ ص: 88 ] يخرجها يوم العيد قبل الخروج إلى صلاة العيد ، وأنه يجوز إخراجها في يوم العيد كله ، وأنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ، وأنه لو أخرها عصى ولزمه قضاؤها وسموا إخراجها بعد يوم العيد قضاء ، ولم يقولوا في الزكاة إذا أخرها عن التمكن : إنها قضاء ، بل قالوا : يأثم ويلزمه إخراجها وظاهره : أنها تكون أداء ، والفرق : أن الفطرة مؤقتة بوقت محدود ففعلها خارج الوقت يكون قضاء كالصلاة ، وهذا معنى القضاء في الاصطلاح ، وهو فعل العبادة بعد وقتها المحدود ، بخلاف الزكاة فإنها لا تؤقت بزمن محدود . والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في وقت وجوب الفطرة . ذكرنا : أن الصحيح عندنا وجوبها بغروب الشمس ليلة عيد الفطر ، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق ورواية عن مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وداود ورواية عن مالك : تجب بطلوع الفجر . وقال بعض المالكية : تجب بطلوع الشمس .




                                      الخدمات العلمية