الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( وفي الحب الذي يخرجه ثلاثة أوجه . ( أحدها ) : أنه يجوز من كل قوت ; لما روى أبو سعيد الخدري قال : { كنا نخرج صاعا من طعام ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب } ومعلوم : أن ذلك كله لم يكن قوت أهل المدينة ، فدل على أنه مخير بين الجميع ، وقال أبو عبيد بن حرب : تجب من غالب قوته ، وهو ظاهر النص ; لأنه لما وجب أداء ما فضل عن قوته وجب أن تكون من قوته ، وقال أبو العباس وأبو إسحاق : تجب من غالب قوت البلد ; لأنه حق يجب في الذمة تعلق بالطعام فوجب من غالب قوت البلد ، كالطعام في الكفارة ، فإن عدل عن قوت البلد إلى قوت بلد آخر نظرت - فإن كان الذي انتقل إليه أجود - أجزأه ، وإن كان دونه لم يجزئه ، فإن كان أهل البلد يقتاتون أجناسا مختلفة ليس بعضها بأغلب [ ص: 91 ] من بعض ، فالأفضل أن يخرج من أفضلها ; لقوله عز وجل : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ، } ومن أيها أخرج أجزأه .

                                      وإن كان في موضع قوتهم الأقط ففيه طريقان ، قال أبو إسحاق : يجزئه قولا واحدا ; لحديث أبي سعيد ، وقال القاضي أبو حامد : فيه قولان ( أظهرهما ) : أنه يجزئه للخبر ( والثاني ) : لا يجزئه ; لأنه لا تجب فيه الزكاة فأشبه اللحم ، فإذا قلنا : يجزئه فأخرج اللبن أجزأه ; لأنه أكمل منه ; لأنه يجيء منه الأقط وغيره ، وإن أخرج الجبن جاز ; لأنه مثله ، وإن أخرج المصل لم يجزه ; لأنه أنقص من الأقط ; لأنه لبن منزوع الزبد ، وإن كان في موضع لا قوت فيه أخرج من قوت أقرب البلاد إليه ، فإن كان بقربه بلدان متساويان في القوت أخرج من قوت أيهما شاء ، ولا يجوز في فطرة واحدة أن يخرج من جنسين ; لأن ما خير فيه بين جنسين لم يجز أن يخرج من كل واحد منهما بعضه ككفارة اليمين لا يجوز أن يطعم خمسة ويكسو خمسة ، فإن كان عبد بين نفسين في بلدين قوتهما مختلف ، ففيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) : لا يجوز أن يخرج كل واحد من قوته ، بل يخرجان من أدنى القوتين ، وقال أبو إسحاق : يجوز أن يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته ; لأن كل واحد منهما لم يبعض ما وجب عليه ، ( ومن ) أصحابنا من قال : يعتبر فيه قوت العبد أو البلد الذي فيه العبد ; لأنها تجب لحقه ، فاعتبر فيه قوته أو قوت بلده كالحر في حق نفسه ، ولا يجوز إخراج حب مسوس ; لأن السوس أكل جوفه فيكون الصاع منه أقل من صاع ، ولا يجوز إخراج الدقيق .

                                      وقال أبو القاسم الأنماطي : يجوز ; لأنه منصوص عليه في حديث أبي سعيد الخدري ، والمذهب : أنه لا يجوز ; لأنه ناقص المنفعة عن الحب فلم يجز كالخبز ، ( وأما ) حديث أبي سعيد ( فقد ) قال أبو داود : روى سفيان الدقيق ووهم فيه ثم رجع ) .

                                      [ ص: 102 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : يشترط في المخرج من الفطرة أن يكون من الأقوات التي يجب فيها العشر ، فلا يجزئ شيء من غيرها إلا الأقط والجبن واللبن على خلاف فيها سنوضحه إن شاء الله تعالى ، وأهمل [ ص: 92 ] المصنف هنا اشتراط كونه من القوت المعشر ، وقد ذكره هو في التنبيه كما ذكره الأصحاب ، ثم إن جميع الأقوات المعشرة تجزئ في الجملة ، ولا يستثنى منها شيء ، قال الرافعي : وحكي قول قديم : أنه لا يجزئ العدس والحمص ، وإن كان قوتا لهما ، والمذهب : الأول ، وأما الأقط ففيه طريقان حكاهما المصنف والأصحاب .

                                      ( أحدهما ) وبه قال أبو إسحاق المروزي : القطع بإجزائه ; لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير وكبير ، حر أو مملوك ، صاعا من طعام ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب ، } رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ إحدى روايات مسلم ، والأقط ثابت في روايات في الصحيحين .

                                      ( والطريق الثاني ) : فيه قولان ( أصحهما ) : يجزئه ; للحديث ( والثاني ) : لا يجزئه ; لأنه لا يجب فيه العشر فأشبه اللحم واللبن ، وبهذه الطريقة قال القاضي أبو حامد المروذي : والصواب الأول ; لصحة الحديث من غير معارض ، ثم المذهب الذي قطع به الجماهير : أنه لا فرق في إجزاء الأقط بين أهل البادية والحضر ، وقال الماوردي : الخلاف في أهل البادية ، أما أهل الحضر فلا يجزئهم قولا واحدا ، وإن كان قوتهم ، وهذا الذي قاله شاذ فاسد مردود ، وحديث أبي سعيد صريح في إبطاله ، وإن كان قد تأوله على أنه كان في البادية ، وهذا تأويل باطل والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : فإن جوزنا الأقط فهل يجزئ الجبن واللبن ؟ فيه طريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وآخرون : يجزئه ; لأن الجبن أكمل منه ( والثاني ) : حكاه الخراسانيون وصاحب " الحاوي " على وجهين ( أصحهما ) : يجزئه ( والثاني ) : لا يجزئه ، وصححه الماوردي ; لأنه ليس معشرا ، ولا يدخر وإنما جاز الأقط بالنص [ ص: 93 ] وهو مما يدخر ، والخلاف مخصوص بمن قوته الأقط ، هل له إخراج اللبن والجبن ؟ هكذا قاله الماوردي والرافعي وغيرهما . قال صاحب " البيان " وآخرون : إذا جوزنا الجبن واللبن جاز مع وجود الأقط ومع عدمه ، وقطع البندنيجي بأنه لا يجزئه إلا عند عدم الأقط ، ونقله عن نصه في القديم ، ( وإن قلنا ) : لا يجزئه الأقط لم يجزئه اللبن والجبن قطعا . وأما المخيض والكشك والسمن والمصل فلا يجزئه شيئا منها بلا خلاف ; لأنها ليست في معنى اللبن وكذا الجبن المنزوع الزبد ، وسواء أكانت هذه الأشياء قوته وقوت البلد أم لا ، لا يجزئه بلا خلاف ، قال الماوردي : وكذا لو كان بعض أهل الجزائر أو غيرهم يقتاتون السمك والبيض فلا يجزئهم بلا خلاف ، وأما اللحم فالصواب الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والأصحاب في جميع الطرق : أنه لا يجزئ قولا واحدا .

                                      وقال إمام الحرمين : قال العراقيون : في إجزائه قولان كالأقط ، قال : كأنهم رأوا اللبن أصل الأقط وهو عصارة اللحم ، وهذا الذي نقله عن العراقيين باطل ليس موجودا في كتبهم ، بل الموجود في كتبهم مع كثرتها القطع بأن لا يجزئ بلا خلاف ، فهذا هو الصواب ، ( وأما ) الأقوات النادرة التي لا عشر فيها كالغث والحنظل فلا يجزئ بلا خلاف نص عليه الشافعي واتفقوا عليه .

                                      قال أصحابنا : وكذا لو اقتاتوا ثمرة لا عشر فيها كالتين وغيره لا يجزئ قطعا .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : لا يجزئ الحب المسوس ، ولا المعيب بلا خلاف ، قال إمام الحرمين وغيره : وإذا جوزنا إخراج الأقط لم يجز إخراج المملح الذي أفسدت كثرة الملح جوهره ، فإن كان الملح ظاهرا عليه ولم يفسده أجزأه ، لكن الملح غير محسوب ، ويجب أن يخرج قدرا يكون محض الأقط منه صاعا ، قال أصحابنا : ويجزئ الحب القديم ، وإن قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولا لونه ; لأن القدم ليس بعيب وهذا لا خلاف فيه ، ونص عليه في " المختصر " .

                                      [ ص: 94 ] قال الماوردي وغيره : وغير القديم أولى ، ثم الجمهور اقتصروا على ذكر الطعم واللون كما ذكرنا ، وقال الماوردي وغيره : لو تغير لونه أو طعمه أو ريحه لم يجزئه وهذا مراد الشافعي والأصحاب ، وإن لم يصرحوا بالرائحة . والله أعلم .

                                      قال الشافعي والأصحاب : ولا يجزئ الدقيق ولا السويق كما لا تجزئ القيمة . وحكى المصنف والأصحاب عن أبي القاسم الأنماطي : أن الدقيق يجزئ ; لأنه روي ذلك في حديث أبي سعيد الخدري : " { أو صاعا من دقيق } " رواه سفيان بن عيينة ، وغلط الأصحاب الأنماطي في هذا ، قالوا : وذكر الدقيق في الحديث ليس بصحيح ، قال أبو داود السجستاني في سننه : ذكر الدقيق وهم من ابن عيينة ، وروى أبو داود أن ابن عيينة أنكروا عليه ذكر الدقيق فتركه ، قال البيهقي : أنكر على ابن عيينة الدقيق فتركه ، قال : وقد روي جوازه عن ابن سيرين عن ابن عباس منقطعا موقوفا على طريق التوهم ، قال : وليس بثابت ، قال : وروي من أوجه ضعيفة لا تساوي ذكرها .

                                      وحكى الرافعي عن أبي الفضل بن عبدان من أصحابنا أنه قال : الصحيح عندي : أنه يجزئ الخبز والسويق ; لأنهما أرفق بالمساكين ، والصحيح : ما سبق أنه لا يجزئ ; لأن الحب أكمل نفعا ; لأنه يصلح لكل ما يراد منه بخلاف الدقيق والسويق والخبز والله أعلم . وقال الشافعي والأصحاب : لا يجزئ إخراج القيمة وبه قال الجمهور ، وجوزها أبو حنيفة ، وسبقت دلائل المسألة في آخر باب صدقة الغنم .



                                      [ ص: 95 ] فرع ) قال أصحابنا : في الواجب من هذه الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه ، أصحها عند الجمهور : غالب قوت البلد ، ممن صححه المحاملي والقاضي أبو الطيب والجرجاني في " التحرير " والبغوي وآخرون ، وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات ، ونقله المحاملي في " المجموع " وصاحب " البيان " عن جمهور الأصحاب ، ونقل الرافعي عن الجمهور تصحيحه قال الماوردي : وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي .

                                      ( والوجه الثاني ) : أنه يتعين قوت نفسه ، وهو ظاهر نص الشافعي في " المختصر " و " الأم " ; لأنه قال : أدى مما يقتاته وبهذا قال أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا فيما حكاه المصنف والأصحاب عنه ، وحكاه الماوردي عنه ، وعن الإصطخري وصححه الشيخ أبو حامد وأبو الفضل بن عبدان والبندنيجي وطائفة قليلة والجمهور على تصحيح الأول ، وتأولوا النص على ما إذا كان قوته قوت البلد ، كما هو الغالب في العادة .

                                      ( والثالث ) : يتخير بين جميع الأقوات فيخرج ما شاء ، وإن كان غير قوته وغير قوت أهل بلده ، لظاهر حديث أبي سعيد الخدري ، وهذا الثالث حكاه المصنف والجمهور وجها ، وحكاه أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب في " المجرد " والبندنيجي والماوردي وآخرون قولا للشافعي قال الماوردي : نص عليه في بعض كتبه ، وصححه القاضي أبو الطيب في " المجرد " اختيارا لنفسه بعد أن نقل أن المذهب غالب قوت البلد .

                                      قال المصنف هنا وسائر أصحابنا : ( فإن قلنا ) : يعتبر قوت البلد أو قوت نفسه ، فعدل إلى ما دونه لم يجزئه بالاتفاق ، ووقع في " التنبيه " و " الحاوي " و " المجرد " للقاضي أبي الطيب وغيرها : أنه إذا عدل إلى ما دونه ففي إجزائه قولان للشافعي ، وهذا النقل مؤول والذين أطلقوه لم يذكروا في أصل الوجوب إلا وجهين .

                                      ( أحدهما ) : يجب من غالب قوت بلده .

                                      ( والثاني ) : يجب من قوت نفسه ، ثم قالوا : فإن عدل عن الواجب إلى أدنى منه ، ففي إجزائه قولان ، ومرادهم : [ ص: 96 ] القول الثالث الذي يقول : هو مخير في جميع الأقوات ، فكأنهم تركوا ذكر هذا القول أولا ثم نبهوا عليه ، وأما الذين ذكروا في الواجب ثلاثة أوجه ثالثها التخيير ، فاتفقوا على أنه إذا قلنا : الواجب قوته أو قوت البلد ، فعدل إلى دونه لا يجزئه قولا واحدا ، فحصل من هذا كله أنه لا خلاف بين الأصحاب ، وأن في أصل المسألة ثلاثة أوجه بعضها منصوص للشافعي ( أصحها ) : الواجب غالب قوت بلده .

                                      ( والثاني ) : قوت نفسه .

                                      ( والثالث ) : يتخير بين جميع الأقوات ، فإن قلنا بالتخيير لم يتصور العدول إلى ما دون الواجب ، وإن قلنا بتعين قوته أو قوت بلده ، فعدل إلى ما دونه لم يجزئه بلا خلاف ، أما إذا عدل إلى أعلى من الواجب فيجزئه وهو أفضل ; لأنه زاد خيرا .

                                      هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والأصحاب في جميع الطرق إلا صاحب " الحاوي " ، فإنه ذكر في إجزاء الأعلى وجهين .

                                      ( أحدهما ) : قال وهو نص الشافعي : يجزئه ، كما لو وجب عليه سن من الماشية فأخرج أعلى منها .

                                      ( والثاني ) : لا يجزئه ; لأنه غير الواجب ، كمن أخرج حنطة عن شعير استغله أو دنانير عن دراهم أو بقرة عن شاة ونظائره ، والجواب عن هذا الدليل الأول : أن الحنطة لا تجزئ عن الشعير ولا الدنانير عن الدراهم في حال من أحوال الزكاة ، بخلاف الفطرة فإن الشخص الواحد قد يكون في وقت قوته أو قوت بلده جنسا ثم يصير غيره . والله أعلم .

                                      وفيما يعتبر به الأعلى والأدنى وجهان مشهوران .

                                      ( أصحهما ) : الاعتبار بزيادة صلاحيته للاقتيات .

                                      ( والثاني ) : زيادة القيمة ، فعلى هذا يختلف باختلاف الأقوات والبلاد قال الرافعي : إلا أن يعتبر زيادة القيمة في الأكثر ، وعلى الأول قال أصحابنا : البر خير من الشعير بلا خلاف ، قال الجمهور : والبر خير من التمر والزبيب ، ونقله القاضي أبو الطيب عن الأصحاب .

                                      وقال صاحب " الحاوي " في البر والتمر [ ص: 97 ] وجهان لأصحابنا .

                                      ( أحدهما ) : التمر أفضل وخير ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج منه ، وعليه عمل أهل المدينة ، قال : وبه قال ابن عمر ومالك وأحمد ، ( والثاني ) : قال : وإليه ميل الشافعي وبه قال علي بن أبي طالب وإسحاق بن راهويه البر أفضل ، قال : ولو قيل : إن أفضلهما يختلف باختلاف البلاد ، لكان متجها ، هذا كلامه ، والمشهور : ترجيح البر مطلقا ، والبر خير من الأرز بالاتفاق ، وفي التمر والشعير وجهان .

                                      ( أحدهما ) : وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني ترجيح التمر ، ( وأصحهما ) عند البغوي : ترجيح الشعير ، وهذا أصح ; لأنه أبلغ في الاقتيات ، وتردد أبو محمد في التمر والزبيب ، وفي الزبيب والشعير أيهما أرجح ؟ قال إمام الحرمين : والأشبه تقديم التمر على الزبيب ، وهذا الذي قاله الإمام هو الصواب المتعين ، والصواب : تقديم الشعير على الزبيب ، وإذا قلنا : المعتبر قوت نفسه كان يليق به البر ، وهو يقتات الشعير بخلا لزمه البر بالاتفاق ، وإن كان يليق به الشعير وهو يقتات البر ( تنعما ) فوجهان حكاهما البغوي وغيره ، هكذا وجهين وهو الصواب ، وحكاهما إمام الحرمين قولين : ( أصحهما ) : يجزئه الشعير .

                                      ( والثاني ) : تتعين الحنطة . والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا أوجبنا غالب قوت البلد فكانوا يقتاتون أجناسا لا غالب فيها ، أخرج ما شاء منها ، والأفضل : أعلاها ، هكذا نقله المصنف والأصحاب وجزموا به ، وهو ظاهر . والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا قلنا : المعتبر غالب قوت البلد : قال الغزالي في " الوسيط " : المعتبر غالب قوت البلد وقت وجوب الفطر لا في جميع السنة ، وقال في " الوجيز " : غالب قوت البلد يوم العيد ، قال الرافعي : هذا الذي قاله لم أره لغيره ( قلت ) : هذا النقل غريب كما قال الرافعي ، والصواب : أن المراد قوت السنة ، كما سنوضحه في الفرع الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) إذا اعتبرنا قوت البلد وقوت نفسه ، فكان القوت [ ص: 98 ] مختلفا باختلاف الأقوات ، ففي بعضها يقتاتون أو يقتات جنسا ، وفي بعضها جنسا آخر ، قال السرخسي في " الأمالي " : إن أخرج من على الأعلى أجزأه وكان أفضل ، وإن اقتصد وأخرج من الأدنى فقولان : ( أحدهما ) : لا يجزئه احتياطا للعبادة . وأصحهما : يجزئه لدفع الضرر عنه ; ولأنه يسمى مخرجا من قوت البلد أو من قوته .



                                      ( فرع ) إذا كان في موضع ليس فيه قوت يجزئ ، بأن كانوا يقتاتون لحما أو تينا وغيرهما مما لا يجزئ ، قال المصنف والأصحاب : أخرج من قوت أقرب البلاد إليه ، وإن كان بقربه بلدان متساويان في القرب أخرج من قوت أيهما شاء ، وهذا متفق عليه .



                                      ( فرع ) إذا اعتبرنا غالب قوت البلد وكان له عبد في بلد آخر قال البغوي وغيره : إن قلنا : إن الفطرة تجب على العبد ثم يتحملها السيد ، فالاعتبار بقوت بلد العبد ، وإن قلنا : تجب على السيد ابتداء فبقوت بلد السيد .



                                      ( فرع ) قال الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب : لا يجزئ في الفطرة الواحدة صاع من جنسين ، سواء كان الجنسان متماثلين أو أحدهما من واجبه والآخر أعلى منه ، كما لا يجزئ في كفارة اليمين أن يكسوا خمسة ويطعم خمسة ; لأنه مأمور بصاع من بر أو شعير وغيرهما ، ولم يخرج صاعا من واحد منهما ، كما أنه مأمور بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ، ولم يكس في الصورة المذكورة عشرة ، ولم يطعمهم . هذا هو المذهب ، وبه قطع الأصحاب في كل الطرق إلا إمام الحرمين ، فحكى وجها شاذا : أنه يجزئ إذا كان نصف صاع من واجبه ونصف أعلى ، وإلا السرخسي فقال : إن كان عنده صاع من أحد الجنسين لم يجز تبعيضه قطعا ، وإن لم يكن عنده إلا نصف صاع من هذا ونصف من هذا فوجهان .

                                      ( أحدهما ) : يجزئه إخراج النصفين .

                                      ( والثاني ) : لا يجزئه ، وقال الرافعي : لا يجوز صاع من جنسين وإن كان ( أحدهما ) أعلى من الواجب ، قال : ورأيت لبعض المتأخرين جوازه والمذهب ما سبق .

                                      [ ص: 99 ] قال أصحابنا : ولو كان له عبدان أو قريبان ، أو زوجتان أو زوجة وقريب أو وعبد ، فأخرج عن ( أحدهما ) صاعا من واجبه وعن الآخر صاعا أعلى منه أجزأه بالاتفاق ، كما لو كان عليه كفارتان فأطعم عشرة وكسا عشرة يجزئه عنهما جميعا بلا خلاف ، وكذا لو ملك نصف عبد ونصف آخر فأخرج عن ( أحدهما ) نصفا من واجبه ، وعن الآخر نصفا من أعلا منه أجزأه بلا خلاف ، صرح به البغوي وآخرون .

                                      قال أصحابنا : ولو ملك رجلان عبدا ، فإن قلنا بالقول الغريب : إنه مخير بين الأجناس ، أخرجا ما شاء بشرط اتحاد ، وإن أوجبنا غالب قوت البلد وكانا هما والعبد في بلد واحد ، أخرجا عنه من غالب قوت البلد ، وإن كان العبد في بلد آخر قال البغوي وآخرون : يبني على أن الفطرة تجب على المالك ابتداء ؟ أم يتحملها عن العبد ؟ فإن قلنا : بالتحمل ، اعتبر بلد العبد ، وإلا فبلد السيدين ، وإن كان السيدان في بلدين مختلفي القوت أو اعتبرنا قوت الشخص بنفسه أو اختلف قوتهما ففيه أوجه .

                                      ( أصحها ) وبه قال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة حكاه عنهما الماوردي وآخرون ، وصححه القاضي أبو الطيب ، وحكاه إمام الحرمين عن ابن الحداد : يخرج كل واحد نصف صاع من قوت بلده أو نفسه ، ولا يضر التبعيض ; لأنهما إذا أخرجا هكذا كل شخص واجبه من جنس كثلاثة كانوا محرمين فقتلوا ظبية ، فذبح أحدهم ثلث شاة ، وأطعم آخر بقية ثلث شاة ، وصام الثالث عدل ذلك أجزأهم بلا خلاف .

                                      ( والثاني ) : قاله ابن سريج : يخرجان من أدنى القوتين ، ولا يجوز التبعيض .

                                      ( والثالث ) : يجب من أعلاهما ، حكاه إمام الحرمين وآخرون .

                                      ( والرابع ) : من قوت بلد العبد ، ولو كان الأب في نفقة ولدين ، فالقول في إخراجهما الفطرة عنه كالقول في السيدين ، وكذا من نصفه حر ونصفه مملوك إذا أوجبنا نصف الفطرة على ما سبق ، والأصح : يخرجان من جنسين ( والثاني ) : من جنس .



                                      [ ص: 100 ] فرع ) في مسائل تتعلق بالباب .

                                      ( إحداها ) قال أصحابنا : لو أخرج إنسان الفطرة عن أجنبي بغير إذنه ، لا يجزئه بلا خلاف ; لأنها عبادة فلا تسقط عن المكلف بها بغير إذنه ، وإن أذن فأخرج عنه أجزأه ، كما لو قال لغيره : اقض ديني وكما لو وكله في دفع زكاة ماله وفي ذبح أضحيته ، ولو كان للإنسان ولد صغير موسر فحيث لا يلزمه فطرته فأخرج الأب فطرة الولد من مال نفسه جاز بلا خلاف .

                                      صرح به القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي والبغوي والأصحاب ; لأنه يستقل بتمليك ابنه الصغير ولو كان كبيرا رشيدا لم يجز إلا بإذنه ; لأنه لا يستقل بتمليكه ، والجد كالأب ، والمجنون كالصبي .

                                      قال الماوردي والبغوي : لو أخرج الولي فطرة الصبي والمجنون من مال نفسه تبرعا ، فإن كان أبا أو جدا جاز ، وكأنه ملكه ذلك ثم تولى الأداء عنه مما ملكه ، وإن كان وصيا أو قيما لم يجز إلا بإذن القاضي ، ، فإذا أذن جاز ويصير كأنه بالإذن كأن الصبي تملك منه ثم أذن له في الإخراج ، وكل هذا متفق عليه عند أصحابنا ، ونقله الماوردي عن الأصحاب : وقال زفر ومحمد بن الحسن : تجب فطرة الأطفال على أبيهم ونفقتهم في أموالهم . والله أعلم .



                                      ( الثانية ) قال أصحابنا : يلزم الولي إخراج فطرة الصبي والمجنون والمحجور عليه بسفه من مالهم ، وكذا فطرة عبيدهم وجواريهم وأقاربهم ، الذين يلزمهم نفقتهم كما يلزمه إخراج زكاة أموالهم وقضاء ديون وجبت عليهم بإتلاف أو غيره .



                                      ( الثالثة ) : لو تبرع إنسان بالنفقة على أجنبي ، لا يلزمه فطرته بلا خلاف عندنا ، وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود وقال أحمد : تلزمه .



                                      ( الرابعة ) : لو كان نصف الشخص مكاتبا ، حيث يتصور ذلك في العبد [ ص: 101 ] المشترك إذا جوزنا كتابة بعضه بإذن شريكه ، وجب نصف صاع على مالك نصفه القن ، ولا شيء في النصف المكاتب على المذهب . وفيه الوجه السابق في المكاتب ، ومثله عبد مشترك بين معسر وموسر يجب على الموسر نصف صاع ولا شيء على المعسر إذا كان يحتاج إليه للخدمة . هذا هو المذهب وفيه وجه سبق .



                                      ( الخامسة ) قال الجرجاني : في المهايأة : ليس عبد مسلم لا يجب إخراج الفطرة عنه إلا ثلاثة : ( أحدهم ) : المكاتب . يعني على المذهب وقد سبق فيه وجه أنه يجب فطرته على سيده ووجه أنها على نفسه .

                                      ( والثاني ) : إذا ملك السيد عبده عبدا وقلنا : يملك ، لا فطرة على السيد الثاني ; لعدم ملكه ولا على الأول ; لضعف ملكه .

                                      ( الثالث ) : عبد مسلم لكافر إذا قلنا : بالضعيف ، إنها تجب على المؤدي ابتداء والأصح : وجوبها كما سبق ، ويجيء رابع على قول الإصطخري وغيره فيما إذا مات قبيل هلال شوال وعليه دين وله عبد كما سنوضحه إن شاء الله تعالى قريبا ، ويجيء خامس وهو إذا لم يكن له وقت وجوب الفطرة إلا عبد يحتاج إليه للخدمة ، فإن الأصح لا يلزمه فطرة عن نفسه ولا عن العبد ، وقد سبقت المسألة واضحة في أول الباب . فهذه خمس صور مختلف فيها كلها ، ويختلف الراجح فيها كما ذكرناه والله أعلم .



                                      ( السادسة ) قال أصحابنا : لو باع عبدا بشرط الخيار فصادف زمن الوجوب زمن الخيار ( فإن قلنا ) : الملك في مدة الخيار للبائع ، فعليه فطرته ، سواء تم البيع أو فسخ ، ( وإن قلنا ) : موقوف ، فإن تم البيع فالفطرة على المشتري ، وإلا فعلى البائع ، ولو صادف زمن الوجوب خيار المجلس ، فهو كخيار الشرط ، ولو تم البيع ثم فسخ بعد وقت الوجوب بإقالة أو عيب أو تخالف ، فالفطرة على المشتري ذكره البغوي وغيره .



                                      [ ص: 102 ] السابعة ) : لو مات وترك عبدا ثم أهل هلال شوال ، فإن لم يكن عليه دين فالعبد للورثة وعليهم فطرته ، كل واحد بقسطه ، وإن كان عليه دين يستغرق التركة بنى على أن الدين هل يمنع انتقال الملك في التركة إلى الورثة أم لا ؟ والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور : لا يمنع ، وقال الإصطخري : يمنع ، فعلى المنصوص عليهم فطرته سواء بيع في الدين أم لا ، وأشار إمام الحرمين إلى أنه يجيء فيه الخلاف السابق في وجوب الزكاة في المال المرهون والمغصوب ، لتزلزل الملك ، والمذهب الأول ، وإن قلنا بقول الإصطخري ، فإن بيع في الدين فلا شيء عليهم ، وإلا فعليهم الفطرة ، وحكى ابن الصباغ وجها : أنه لا فطرة عليهم مطلقا ، وقال القاضي أبو الطيب : تجب فطرته في تركة السيد كالموصى بخدمته ، والمذهب الأول ، هذا إذا مات السيد قبل هلال شوال ، فلو مات بعده ففطرة العبد على سيده كفطرة نفسه ، ويقدمان على الميراث والوصايا كسائر الديون ، وفي تقديمهم على دين الآدمي طرق .

                                      ( أصحها ) وأشهرها : على الأقوال الثلاثة في اجتماع دين الله تعالى ودين الآدمي ( أصحها ) : يقدم دين الله تعالى .

                                      ( والثاني ) : دين الآدمي .

                                      ( والثالث ) : يقسم بينهما ، وسيأتي شرحها في قسم الصدقات حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى .

                                      ( والطريق الثاني ) : القطع بتقديم فطرة العبد لتعلقها بالعبد كأرش جنايته .

                                      قال الشيخ أبو حامد : هذا الطريق غلط ; لأن فطرة العبد لا تتعلق بعينه ، بل بالذمة ، وحكى الماوردي هذا الطريق عن أبي الطيب بن سلمة قال : وخالفه سائر الأصحاب فقالوا بالطريق الأول ، وفي فطرة السيد الأقوال .

                                      ( والطريق الثالث ) : القطع بتقديم فطرة العبد وفطرة السيد أيضا ; لأنها قليلة والمذهب في الجملة : تقديم فطرة نفسه ، وفطرة العبد على جميع الديون ، وهو نصه في " المختصر " ، فإنه قال : ولو مات بعد ما أهل هلال شوال وله رقيق فالفطرة عنه وعنهم في ماله مقدمة على الديون .

                                      [ ص: 103 ] قال الرافعي : وفي هذا النص رد على ما قاله إمام الحرمين في أول الباب ، في أن الدين يمنع وجوب الفطرة ; لأن سياقه يفهم منه ما إذا طرأت الفطرة على الدين الواجب ، وإذا كان كذلك لم يكن الدين مانعا ، وبتقدير أن لا يكون كذلك فاللفظ مطلق يشتمل على ما إذا طرأت الفطرة على الدين وعكسه . ومقتضاه : أن لا يكون الدين مانعا من وجوبها . هذا كلام الرافعي وهو كما قال .



                                      ( الثامنة ) أنه إذا أوصى لرجل بعبد ومات الموصي بعد دخول وقت وجوب الفطرة ، فالفطرة في تركة الميت ، فلو مات قبل الوقت ، وقبل الموصى له الوصية قبل الوقت ، فالفطرة عليه وإن لم يقبل حتى دخل الوقت ، فإن قلنا الموصى له يملك بمجرد موت الموصي - لزمه الفطرة - فلو لم يقبل ، بل رد الوصية فوجهان مشهوران .

                                      ( أصحهما ) : الوجوب ; لأنه كان مالكا حال الوجوب .

                                      ( والثاني ) : لا ; لعدم استقرار الملك .

                                      ( وإن قلنا ) : لا يملك إلا بالقبول ، بنى على أن الملك قبل القبول لمن ؟ وفيه وجهان مشهوران في كتاب " الوصية " أصحهما : للورثة ، فعلى هذا في الفطرة وجهان .

                                      ( أصحهما ) : على الورثة ; لأنه ملكهم ، ونقل صاحب " البيان " عن أصحابنا العراقيين أنها تجب في تركة الميت .

                                      ( والثاني ) : لا فطرة لضعفه .

                                      ( والوجه الثاني ) من الأولين : أنه باق على ملك الميت فعلى هذا لا تجب فطرته على أحد على المذهب .

                                      وحكى البغوي مع هذا وجها ضعيفا أنها تجب في تركته ، ( وإن قلنا ) : الملك في الوصية موقوف ، فإن قبل فعليه الفطرة ، وإلا فعلى الورثة ، هذا كله إذا قبل الموصى له أو رد ، فلو مات قبل القبول وبعد دخول وقت الوجوب فقبول وارثه كقبوله ، والملك يقع للموصى له الميت فحيث أوجبنا عليه الفطرة إذا قبل بنفسه فهي في تركته ، إذا قبل وارثه ، فإن لم يكن له تركة سوى العبد ففي بيع جزء منه للفطرة الخلاف السابق .

                                      الأصح لا يباع ، ولو مات قبل وقت الوجوب أو معه [ ص: 104 ] فالفطرة على الورثة إذا قبلوا ; لأنه وقت الوجوب كان ملكهم . والله أعلم .



                                      ( فرع ) لو وهب له عبد فقبل ، فأهل هلال شوال قبل القبض ، فالمذهب : أنه لا يملكه قبل القبض ، وفطرته على الواهب ، وفيه قول ضعيف : إن الملك موقوف ، ويتبين بالقبض أنه ملكه بالعقد ، فعلى هذا فطرته على الموهوب له ، هكذا ذكر المسألة الماوردي والبغوي وغيرهما .



                                      ( فرع ) قال الماوردي : لو اشترى أباه ولم يقبضه ، ولا دفع ثمنه حتى أهل شوال ، وكان ذلك بعد انقضاء الخيار ، قال ابن خيران : يلزمه فطرته ولا يعتق عليه ; لأن للبائع فيه علقة ، وهي حق الحبس لقبض الثمن ، فصار كعلقة الخيار .

                                      قال الماوردي : وهذا خلاف نص الشافعي في كتاب " الصداق " وغيره : بل المذهب أنه إن كان البيع لازما عتق ولزمه الفطرة ، سواء دفع ثمنه أم لا ، وإن كان فيه خيار فعلى الأقوال : في أن الملك في زمن الخيار للبائع أم للمشتري ؟ والفطرة على من له الملك .



                                      ( التاسعة ) قال الشافعي في " المختصر " : وتقسم زكاة الفطر على من تقسم عليه زكاة المال ، وأحب دفعها إلى ذوي رحمه الذين لا تلزمه نفقتهم بحال ، قال : فإن طرحها عند من تجمع عنده أجزأه إن شاء الله تعالى .

                                      سأل رجل سالما فقال : ألم يكن ابن عمر يدفعها إلى السلطان ؟ فقال : بلى ، ولكن أرى أن لا يدفعها إليه ، هذا نص الشافعي ، واتفق أصحابنا على أن الأفضل أن يفرق الفطرة بنفسه ، كما لو أشار إليه الشافعي بهذا النص ، وأنه لو دفعها إلى الإمام أو الساعي أو من تجمع عنده الفطرة للناس وأذن له في إخراجها أجزأه ، ولكن تفريقه بنفسه أفضل من هذا كله ، وممن صرح بهذا الماوردي والمحاملي في " التجريد " والبغوي والسرخسي وسائر الأصحاب . قال الماوردي : قال الشافعي : تفريقها بنفسه أحب إلي من أن يطرحها عند من تجمع [ ص: 105 ] عنده ، قال : فاحتمل ذلك : أن يريد به إذا لم يكن الوالي نزها ويحتمل أنه أحب ذلك بكل حال . قال : وهذا أولى . والله أعلم .



                                      ( فرع ) وأما مصرف الفطرة فقد ذكره المصنف في باب قسم الصدقات ، وهناك نشرحه إن شاء الله تعالى .



                                      ( العاشرة ) لا تجب فطرة الجنين لا على أبيه ولا في ماله بلا خلاف عندنا ، ولو خرج بعضه قبل غروب الشمس وبعضه بعد غروبها ليلة الفطر ، لم تجب فطرته ; لأنه في حكم الجنين ما لم يكمل خروجه منفصلا ، وأشار ابن المنذر إلى نقل الإجماع على ما ذكرته ، فقال : كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار لا يوجب فطرة عن الجنين قال : وكان أحمد يستحبه ولا يوجبه ، قال : ولا يصح عن عثمان خلافه .



                                      ( الحادية عشرة ) قال الشافعي في " المختصر " في هذا الباب : ولا بأس أن يأخذها بعد أدائها إذا كان محتاجا ، وغيرها من الصدقات المفروضات والتطوع ، هذا نصه ، واتفق الأصحاب عليه ، قال صاحب " الحاوي " : إذا أخرجها فله أخذها ممن أخذها عن فطرة المدفوع إليه إذا كان الدافع ممن يجوز دفع الزكاة إليه ، وقال مالك : لا يجوز أخذها بعينها ، بل له أخذ غيرها ، ودليلنا : أنها صارت للمدفوع إليه بالقبض ، فجاز أخذها كسائر أمواله ; ولأنه دفعها لمعنى ، وهو اليسار بالفطرة ، وأخذها بمعنى الحاجة وهما سببان مختلفان فلم يمتنعا ، كما لو عادت إليه بإرث فإنه يجوز بالإجماع .

                                      وقال المحاملي في كتابيه " المجموع " و " التجريد " : إذا دفع فطرته إلى فقير ، والفقير ممن تلزمه الفطرة فدفعها الفقير إليه عن فطرته جاز للدافع الأول أخذها ، قال : وكذا لو دفعها أو غيرها من الزكوات إلى الإمام ، ثم لما أراد الإمام قسم الصدقات - وكان الدافع محتاجا ، جاز دفعها بعينها إليه ; لأنها رجعت إليه بغير المعنى الذي خرجت به ، فجاز كما لو عادت إليه بإرث أو شراء أو هبة .

                                      [ ص: 106 ] قال في " التجريد " : وللإمام أن يدفعها إليه كما يجوز أن يدفعها إلى غيره من الفقراء ; لأنه مساو لغيره في جواز أخذ الصدقة ، وقال إمام الحرمين في تعليل المسألة : لا يمتنع أن يأخذها بعد دفعها ; لأن وجوب الفطرة لا ينافي أخذ الصدقة ; لأن وجوبها لا يقتضي غنى ينافي المسكنة والفقر ، فإن زكاة المال قد تجب على من تحل له الصدقة ; لأن الزكاة يحل أخذها بجهات غير الفقر ، والمسكنة ، كالغارم لذات البين ، وابن السبيل الموسر في بلده ، والغازي ، فإنهم تلزمهم زكاة أموالهم ويأخذون الزكاة ، فلا يمتنع وجوب الزكاة على إنسان وجواز أخذ الزكاة ، ( وأما ) السرخسي فقال : إذا لزمته الفطرة ، فإن فضل عنه صاع - وكان فقيرا ليس له كفايته على الدوام - فله أخذ فطرة غيره وغيرها من الزكوات ، ثم إن أخرج فطرته أولا ، فله أخذ فطرة غير المصروف إليه ، وفطرة المصروف إليه من غير الفطرة التي صرفها ، وهل له أخذ الفطرة التي صرفها هو ؟ فيه وجهان : ( الصحيح ) : جوازها .

                                      قال : وكذا لو أخذ أولا فطرة غيره ، ثم أراد إخراج فطرة نفسه من غيرها أو منها إلى غير دافعها جاز ، فإن أراد صرفها إلى دافعها إليه ففيه وجهان .

                                      ( الصحيح ) : الجواز ، وهذا الوجه الذي حكاه في المنع شاذ باطل مردود ، مخالف لنص الشافعي والأصحاب وللدليل ، فحصل من هذا كله أنه قد يجب على الإنسان الفطرة أو زكاة المال ، ويجوز له أخذ الفطرة والزكاة من غيره ، سواء أكان الأخذ من نفس المدفوع أو من غيره ، ومن الإمام أو من غيره . وفيه الوجه الشاذ عن السرخسي ، والله أعلم .



                                      ( الثانية عشرة ) قال الماوردي وغيره : ليس للزوجة مطالبة الزوج بإخراج الفطرة عنها ; لأنها واجبة عليه دونها . ووجوبها إما أن يجري مجرى الضمان أو الحوالة ، وكلاهما لا مطالبة به ، فإن المضمون عنه لا يطالب الضامن بالأداء ، ولا المحيل المحال عليه . وحكم القريب والمملوك حكم الزوجة .



                                      [ ص: 107 ] الثالثة عشرة ) روينا عن وكيع بن الجراح رحمه الله قال : زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة ، تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة .



                                      فصل في مسائل من مذاهب العلماء في الفطرة ، قد سبق جمل منها مفرقة في مواضعها . وأذكر هنا جملا من مهماتها . وإن كان بعضها مندرجا فيما مضى .

                                      ( مسألة ) : مذهبنا ومذهب الجمهور من السلف والخلف وجوبها على كل كبير وصغير .

                                      وحكى أصحابنا عن ابن المسيب والحسن البصري : أنها لا تجب إلا على من صلى وصام ، وعن علي بن أبي طالب : رضي الله عنه لا تجب إلا على من أطاق الصوم والصلاة .

                                      قال الماوردي : وبمذهبنا قال سائر الصحابة والتابعين وجميع الفقهاء لحديث ابن عمرو السابق .



                                      ( مسألة ) : المشرك لا فطرة عليه عن نفسه بالإجماع ، فإن كان له قريب أو عبد مسلم ففيه وجهان لأصحابنا سبق بيانهما ( أصحهما ) : الوجوب ، ونقل ابن المنذر اتفاق العلماء على أنها لا تجب .



                                      ( مسألة ) : تجب فطرة العبد على سيده ، وبه قال جميع العلماء إلا داود ، فأوجبها على العبد . قال : ويلزم السيد تمكينه من الكسب لأدائها ; لحديث ابن عمر : " على كل حر وعبد " قال الجمهور : " على " بمعنى " عن " .



                                      ( مسألة ) : لا يلزمه فطرة زوجته وعبده الكافرين عندنا ، وبه قال علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وابن المسيب والحسن ومالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر .

                                      وقال أبو حنيفة : تجب عليه فطرة عبده الذمي ، وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز [ ص: 108 ] وسعيد بن جبير والنخعي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي ، دليلنا حديث ابن عمر . وقوله صلى الله عليه وسلم : " من المسلمين " .



                                      ( مسألة ) : العبد الآبق تجب فطرته عندنا على المذهب كما سبق . وبه قال أبو ثور وابن المنذر ، وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة : " لا تجب " ، وقال الزهري وأحمد وإسحاق : " تجب إن كان في دار الإسلام " وقال مالك : تجب إن لم تطل غيبته ويؤيس منه .



                                      ( مسألة ) : لو كان بينهما عبد أو عبيد كثيرون مشتركون مناصفة ، وجب عن كل عبد صاع يلزم كل واحد من الشريكين نصفه ، هذا مذهبنا وبه قال مالك وعبد الملك بن الماجشون وإسحاق وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن المنذر .

                                      وقال الحسن البصري وعكرمة والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف : لا شيء على كل واحد منهما . وعن أحمد روايتان .

                                      ( إحداهما ) : كمذهبنا ( والثانية ) : على كل واحد صاع عن نصيبه من كل عبد ، فإذا كان بينهما مائة عبد لزم كل واحد منهما مائة صاع ، وحكاه أيضا الماوردي عن أبي ثور .

                                      ( وأما ) من نصفه حر ونصفه عبد ( فمذهبنا ) : وجوب صاع عليه نصفه ، وعلى مالك نصفه نصفه إذا لم يكن مهايأة . قال أبو حنيفة : عليه نصف صاع ولا شيء على سيده . وقال مالك : على سيده نصف صاع ولا شيء على العبد . وقال أبو يوسف ومحمد : " عليه صاع ولا شيء على سيده " وقال عبد الملك الماجشون : " على سيده صاع ولا شيء على العبد " .



                                      ( مسألة ) : إذا لم يكن للطفل مال ففطرته على أبيه ، لزم أباه فطرته بالإجماع ، نقله ابن المنذر وغيره ، وإن كان للطفل مال ففطرته [ ص: 109 ] فيه . وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور . وقال محمد : تجب في مال الأب . وأما اليتيم الذي له مال فتجب فطرته في ماله عندنا . وبه قال الجمهور منهم مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن المنذر .

                                      وقال محمد بن الحسن : لا تجب ، وأما الجد فعليه فطرة ولد ولده الذي تلزمه نفقته ، وبه قال أبو ثور ، وقال أبو حنيفة : لا تلزمه .



                                      ( مسألة ) : سبق الخلاف في فطرة زوجته وعبيد التجارة والقراض ، وأما المكاتب فمذهبنا المشهور أنه لا فطرة فيه ، لا عليه ولا على سيده كما سبق ، وممن قال : لا فطرة على سيده عنه ابن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن والثوري وأبو حنيفة ، وقال عطاء ومالك وأبو ثور وابن المنذر : تلزم سيده .



                                      ( مسألة ) : تجب الفطرة بغروب الشمس ليلة عيد الفطر على الصحيح عندنا ، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق ، وقال أبو حنيفة : " بطلوع فجر يوم الفطر " وبه قال صاحباه وأبو ثور وداود . وعن مالك روايتان كالمذهبين ، وقال بعض المالكية : " بطلوع الشمس يوم الفطر " .



                                      ( مسألة ) : يجوز عندنا تقديم الفطرة في جميع رمضان لا قبله ، هذا هو المذهب وفيه خلاف سبق ، وجوزها أبو حنيفة قبله ، وقال أحمد : تجوز قبل يوم العيد بيوم أو يومين فقط ، كذا نقل الماوردي عنهما ، وقال العبدري : أجمعوا على أن الأفضل أن يخرجها يوم الفطر قبل صلاة العيد ، قال : وجوز مالك وأحمد والكرخي الحنفي تقديمها قبل الفطر بيوم ويومين ، وعن الحسن عن أبي حنيفة : تقديم سنة أو سنتين .

                                      وقال داود : لا يجوز تقديمها قبل فجر يوم العيد ولا تأخيرها إلى أن يصلي الإمام العيد ، ومذهبنا أنه لو أخرها عن صلاة الإمام وفعلها في يومه لم يأثم وكانت أداء ، وإن أخرها عن يوم الفطر أثم ولزمه إخراجها وتكون قضاء ، وحكاه العبدري عن مالك وأبي حنيفة [ ص: 110 ] والليث وأحمد قال : وقال الحسن بن زياد وداود : إن لم يؤدها قبل صلاة العيد سقطت فلا يؤديها بعدها كالأضحية إذا مضى وقتها . وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن ابن سيرين والنخعي أنه يجوز تأخيرها عن يوم الفطر .



                                      ( مسألة ) : تجب الفطرة على أهل البادية كغيرهم ، وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه ابن المنذر وأصحابنا عن عطاء وربيعة والزهري أنهم قالوا : لا تجب عليهم . قال الماوردي : شذوا بهذا عن الإجماع وخالفوا النصوص الصحيحة العامة في كل صغير وكبير ، ذكر وأنثى ، حر وعبد من المسلمين ، قال : وينقض مذهبهم بزكاة المال ، فقد وافقوا مع الإجماع على وجوبها على أهل البادية .



                                      ( مسألة ) : لا يجوز دفع الفطرة إلى كافر عندنا . وجوزه أبو حنيفة ، قال ابن المنذر : أجمعت الأمة أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى ذمي ، واختلفوا في زكاة الفطر ، فجوزها لهم أبو حنيفة . وعن عمرو بن ميمون وعمرو بن شرحبيل ومرة الهمداني أنهم كانوا يعطون منها الرهبان . وقال مالك والليث وأحمد وأبو ثور : لا يعطون .



                                      ( مسألة ) : الواجب في الفطرة عن كل شخص صاع من أي جنس أخرج ، سواء البر والتمر والزبيب والشعير وغيرها من الأجناس المجزئة ، ولا يجزئ دون صاع من شيء منها ، وبهذا قال مالك وأحمد وأكثر العلماء . كذا نقله عن الأكثرين الماوردي ، وممن قال به أبو سعيد الخدري والحسن البصري وأبو العالية وأبو الشعثاء وإسحاق وغيرهم ، قال ابن المنذر : وقالت طائفة : يجزئ من البر نصف صاع ، ولا يجزئ من الزبيب والتمر وسائر الأشياء إلا صاع ، قاله الثوري وأكثر أهل الكوفة إلا أبا حنيفة فقال : يجزئ نصف صاع زبيب كنصف صاع بر ، قال : وروينا إجزاء نصف صاع بر عن أبي بكر الصديق وعثمان رضي الله عنهما قال : ولم يثبت عنهما ، قال : ورويناه عن علي وابن مسعود [ ص: 111 ] وجابر بن عبد الله وابن الزبير وأبي هريرة ومعاوية وأسماء ، وبه قال ابن المسيب وطاوس وعطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز ، وروي عن سعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومصعب بن سعد وأبي قلابة ، واختلف فيه عن علي وابن عباس والشعبي ، وعمدتهم الحديث في الصحيحين أن معاوية خطب فقال في خطبته بالمدينة : " أرى نصف صاع من حنطة يعدل صاعا من تمر " ، ودليلنا حديث ابن عمر وأبي سعيد وغيرهم { أن النبي صلى الله عليه وسلم - فرض صدقة الفطر صاعا } الحديث ، وحديث معاوية اجتهاد له لا يعادل النصوص ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصف صاع من بر ، والمروي في ذلك ضعيف ، ولم يصح فيه إلا اجتهاد معاوية .



                                      ( مسألة ) : الصاع المجزئ في الفطرة عندنا خمسة أرطال وثلث بالبغدادي ، وبه قال جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين . قال الماوردي : وبه قال مالك وأبو يوسف وأحمد وفقهاء الحرمين وأكثر فقهاء العراقيين . وقال أبو حنيفة ومحمد : ثمانية أرطال ، وكان أبو يوسف يقول به ثم رجع إلى خمسة أرطال وثلث حين ثبت عنده أنه قدر صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسط البيهقي في السنن الكبير الدلائل في كون الصاع المجزئ في الفطرة خمسة أرطال وثلث بسطا حسنا ، قال : وأما ما رواه صالح بن موسى الطلحي عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة : { جرت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة صاع والوضوء برطلين ، والصاع ثمانية أرطال } ، فإن صالحا تفرد به وهو ضعيف ، قاله يحيى بن معين وغيره من المحدثين ، قال : وكذا ما روي عن جرير بن يزيد عن أنس ، وما روي عن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن أنس { : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال } إسنادهما ضعيف ، وإنما الحديث في الصحيح عن أنس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة [ ص: 112 ] أمداد } قال البيهقي : فلا معنى لترك الأحاديث الصحيحة في قدر الصاع المعد لزكاة الفطر بمثل هذا . والله أعلم .



                                      ( مسألة ) : لا تجزئ القيمة في الفطرة عندنا . وبه قال مالك وأحمد وابن المنذر . وقال أبو حنيفة : يجوز ، حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري قال : وقال إسحاق وأبو ثور : لا تجزئ إلا عند الضرورة .



                                      ( مسألة ) : المشهور في مذهبنا أنه يجب صرف الفطرة إلى الأصناف الذين تصرف إليهم زكاة المال ، وجوزها مالك وأبو حنيفة وأحمد وابن المنذر إلى واحد فقط ، قالوا : ويجوز صرف فطرة جماعة إلى مسكين واحد .



                                      ( مسألة ) : ذكرنا أن الأصح عندنا وجوب الفطرة من غالب قوت البلد ، وبه قال مالك . وقال أبو حنيفة : هو مخير ، وعن أحمد رواية أنه لا يجزئ إلا الأجناس الخمسة المنصوص عليها : التمر والزبيب والبر والشعير والأقط . والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية