الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 487 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( والفرض مما ذكرناه ستة أشياء : النية ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين ومسح بعض الرأس ، وغسل الرجلين ، والترتيب . وأضاف إليه في القديم الموالاة فجعله سبعة ، وسننه اثنتا عشرة : التسمية ، وغسل الكفين ، والمضمضة ، والاستنشاق ، وتخليل اللحية الكثة ، ومسح جميع الرأس ، ومسح الأذنين ، وإدخال الماء في صماخيه ، وتخليل أصابع الرجلين ، وتطويل الغرة ، والابتداء بالميامن ، والتكرار . وزاد أبو العباس بن القاص : مسح العنق بعد مسح الأذنين ، فجعلها ثلاث عشرة ، وزاد غيره أن يدعو على وضوئه فيقول عند غسل الوجه : اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه ، وعلى غسل اليد : اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشمالي ، وعلى مسح الرأس : اللهم حرم شعري وبشري على النار ، وعلى مسح الأذن : اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وعلى غسل الرجلين : اللهم ثبت قدمي على الصراط . فجعله أربع عشرة ) .

                                      [ ص: 497 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما واجبات الوضوء فهي على ما ذكره ، ويجب مع غسل الوجه غسل جزء مما يجاوره ليتحقق غسل الوجه بكماله كما سبق بيانه في فصل غسل الوجه ، وهو داخل في قول المصنف والأصحاب ( غسل الوجه ) لأن مرادهم الغسل المجزئ ولا يجزئ إلا بذلك ، قال الماوردي : وجعل بعض أصحابنا الماء الطهور فرضا آخر ، وهذا الوجه غلط والصواب أن الماء ليس من فروض الوضوء إنما هو شرط لصحته كما ذكره المحاملي وغيره كما نذكره قريبا إن شاء الله تعالى . وأما قوله في السنن : منها التسمية وغسل الكفين فهذا هو المذهب ، وقد قدمنا في أول الباب وجها أنهما سنتان مستقلتان لا من سنن الوضوء ، وقوله : ( وتطويل الغرة ) أراد به غسل ما فوق المرفقين والكعبين وفيه الكلام السابق ، وقوله : ( الابتداء بالميامن ) يعني : في اليدين والرجلين دون الأذنين والكفين فإنها تطهر دفعة واحدة كما سبق ، وقوله : ( والتكرار ) يعني في الممسوح والمغسول كما سبق . وقوله : ( وزاد أبو العباس بن القاص مسح العنق ) .

                                      هذا قد ذكره ابن القاص في كتابه المفتاح واختلفت عبارات [ ص: 488 ] الأصحاب فيه أشد اختلاف ، وقد رأيت أن أذكره بألفاظهم مختصرا ثم ألخصه وأبين الصواب منه لكثرة الحاجة إليه قال القاضي أبو الطيب : مسح العنق لم يذكره الشافعي رضي الله عنه ولا قاله أحد من أصحابنا ولا وردت به سنة ثابتة وقال الماوردي في كتابه الإقناع : ليس هو سنة ، وقال القاضي حسين : هو سنة وقيل وجهان ، فإن قلنا : سنة ، مسحه بالماء الذي مسح به الأذنين ولا يمسح بماء جديد ، وقال المتولي : هو مستحب لا سنة يمسح ببقية ماء الرأس أو الأذن ولا يفرد بماء . وقال البغوي : يستحب مسحه تبعا للرأس أو الأذن ، قال الفوراني : يستحب بماء جديد ، وقال الغزالي : هو سنة وقال إمام الحرمين . كان شيخي يحكي فيه وجهين أحدهما أنه سنة . والثاني : أدب ، وقال الإمام : ولست أرى لهذا التردد حاصلا . وقال الرافعي : هل يمسحه بماء جديد أم بباقي بلل الرأس والأذن ؟ بناه بعضهم على أنه سنة أم أدب ؟ فيه وجهان ، إن قلنا : سنة فبجديد وإلا فبالباقي . والسنة والأدب يشتركان في الندبية لكن السنة تتأكد ، قال : واختار الروياني مسحه بماء جديد وميل الأكثرين إلى مسحه بالباقي .

                                      هذا مختصر ما قالوه وحاصله أربعة أوجه ( أحدها ) يسن مسحه بماء جديد ( والثاني ) يستحب ولا يقال مسنون ( والثالث ) يستحب ببقية ماء الرأس والأذن ( والرابع ) لا يسن ولا يستحب ، وهذا الرابع هو الصواب ولهذا لم يذكره الشافعي رضي الله عنه ولا أصحابنا المتقدمون كما قدمناه عن القاضي أبي الطيب ولم يذكره أيضا أكثر المصنفين ، وإنما ذكره هؤلاء المذكورون متابعة لابن القاص ولم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم : { من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد } وفي رواية لمسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } وأما الحديث المروي عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده : أنه { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى يبلغ القذال وما يليه من مقدم العنق } فهو حديث ضعيف بالاتفاق ، رواه أحمد بن حنبل والبيهقي من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف [ ص: 489 ] وأما قول الغزالي : إن مسح الرقبة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم { مسح الرقبة أمان من الغل } فغلط لأن هذا موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وعجب قوله : لقوله ، بصيغة الجزم والله أعلم .

                                      وأما الدعاء المذكور فلا أصل له ، وذكره كثيرون من الأصحاب ولم يذكره المتقدمون وزاد فيه الماوردي فقال : يقول عند المضمضة : اللهم اسقني من حوض نبيك كأسا لا أظمأ بعده أبدا ، وعند الاستنشاق : اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجنانك ، قال : ويقول عند الرأس : اللهم أظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ، وقوله : ( ثبت قدمي على الصراط ) هو بتشديد الياء على التثنية والصراط بالصاد والسين ، وبإشمام الزاي ثلاث لغات وقراءات والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد ذكر المصنف أن سنن الوضوء اثنتا عشرة ، وكذا ذكرها بعضهم ، وزاد بعضهم زيادات واختلفوا في تلك الزيادات ، وأنا ألخص جميع ذلك وأضبطه ضبطا واضحا مختصرا إن شاء الله تعالى ، وأحذف أدلة ما أذكره من الزيادة ليقرب ضبطها ويسهل حفظها فأقول : سنن الوضوء ومستحباته منها : استقبال القبلة ، وأن يجلس في مكان لا يرجع رشاش الماء إليه وأن يجعل الإناء عن يساره فإن كان واسعا يغترف منه فعن يمينه ، وأن ينوي من أول الطهارة ، وأن يستصحب النية إلى آخرها ، وأن يجمع بين نية القلب ولفظ اللسان وأن لا يستعين في وضوئه لغير عذر ، وأن لا يتكلم فيه لغير حاجة ، والتسمية ، وغسل الكفين ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والمبالغة فيهما لغير الصائم ، والجمع بينهما بثلاث غرف على الأصح ، والسواك على الأصح ، والاستنثار بعد الاستنشاق ، وأن يبدأ في الوجه بأعلاه ، وفي اليد والرجل بالأصابع ، ويختم بالمرفق والكعب ، ويبدأ في الرأس بمقدمه ، وأن لا يلطم وجهه بالماء وأن يتعهد الماقين بالسبابتين ، وأن يدلك الأعضاء ، ويحرك الخاتم ، ويتعهد ما يحتاج فيه إلى الاحتياط كالعقب ، وأن يخلل اللحية والعارض الكثيفين وإطالة الغرة وإطالة التحجيل ، ومسح كل الرأس ، ومسح الأذنين ، ومسح الصماخين ، وغسل النزعتين مع الوجه ، وكذا موضع التحذيف والصدغ إذا قلنا هما من الرأس للخروج من [ ص: 490 ] الخلاف وتخليل الأصابع والابتداء باليد والرجل اليمنى ، وتكرار الغسل والمسح ثلاثا ثلاثا وأن لا يسرف في صب الماء ، وأن لا يزيد على ثلاث ، وأن لا ينقص عنها ، وأن لا ينقص ماء الوضوء عن مد ، والموالاة على القول الصحيح الجديد ، وأن يقول عقب الفراغ : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلى آخر الذكر السابق وأن لا ينشف أعضاءه ، وكذا لا ينفض يده على ما فيه من الخلاف السابق . وقد نقل القاضي عياض في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل ، وهذا الذي نقله من الكراهة محمول على ترك الأولى ، وإلا فلم يثبت فيه نهي فلا يسمى مكروها إلا بمعنى ترك الأولى .

                                      ( فرع ) قال المحاملي في اللباب : الوضوء يشتمل على فرض وسنة ونفل وأدب وكراهة وشرط فالفرض ستة وفي القديم سبعة كما سبق ، والسنة خمسة عشر وذكر نحو بعض ما سبق ، والنفل التطهر مرتين مرتين ، والأدب عشرة : استقبال القبلة ، والعلو على مكان لا يترشش إليه الماء ، وأن يجعل الإناء عن يساره والواسع على يمينه ويغرف بها ، وأن لا يستعين إلا عن ضرورة ، وأن يبدأ بأعلى الوجه ، وبالكفين ، ومقدم الرأس وأصابع الرجلين ، وأن لا ينفض يديه ، ولا ينشف أعضاءه . والكراهة ثلاثة : الإسراف في الماء ولو كان بشط البحر ، والزيادة على ثلاث ، وغسل الرأس بدل مسحه . والشرط واحد وهو الماء المطلق ، هذا كلامه ومعظمه حسن . وقوله : غسل الرأس مكروه هو أحد الوجهين وقد سبق أن الأصح عدم الكراهة والله أعلم



                                      ( فرع ) في مسائل زائدة تتعلق بالباب ( إحداها ) في موجب الوضوء ثلاثة أوجه حكاها المتولي والشاشي في المعتمد وغيرهما ( أحدها ) وجود الحدث فلولاه لم يجب ( والثاني ) القيام إلى الصلاة فإنه لا يتعين الوضوء قبله ( والثالث ) وهو الصحيح عند المتولي وغيره يجب بالحدث والقيام إلى الصلاة جميعا والأوجه جارية في موجب غسل الجنابة هل هو إنزال المني والجماع أم القيام إلى الصلاة أم كلاهما ؟ فإذا [ ص: 491 ] قلنا : يجب بوجود الحدث فهو وجوب موسع إلى القيام إلى الصلاة ولا يأثم بالتأخير عن الحدث بالإجماع . قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق في باب التيمم : أجمع العلماء أنه إذا أجنب أو أحدث لا يجب عليه الغسل ولا الوضوء حتى يدخل وقت الصلاة بالفعل أو الزمان ، ومعنى الفعل أن يريد قضاء فائتة ، وهذا الذي قاله ليس مخالفا لما سبق لأن مراده لا يكلف بالفعل والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة نقل الإجماع فيه ابن المنذر في كتابه الإجماع وآخرون ، وهذا في غير المستحاضة ومن في معناها فإنه لا يصح وضوءها إلا بعد دخول الوقت والله أعلم



                                      ( الثالثة ) أجمعوا أن الجنابة تحل جميع البدن ، وأما الحدث الأصغر ففيه وجهان لأصحابنا مشهوران للخراسانيين وحكاهما الشاشي في جماعة من العراقيين ( أحدهما ) يحل جميع البدن كالجنابة وليس بعض البدن أولى من بعض ، ولأن المحدث ممنوع من مس المصحف بظهره وسائر بدنه ولولا الحدث فيه لم يمنع ، فعلى هذا إنما اكتفي بغسل الأعضاء الأربعة تخفيفا لتكراره بخلاف الجنابة ( والثاني ) لا يحل جميع البدن بل يختص بالأعضاء الأربعة لأن وجوب الغسل مختص بها وإنما لم يجز مس المصحف بغيرها لأن شرط الماس أن يكون متطهرا ولا يكون شيء من بدنه محدثا ولا يكفيه طهارة محل المس وحده ، ولهذا لو غسل وجهه ويديه لم يجز مسه بيديه مع قولنا بالمذهب الصحيح إن الحدث يرتفع عن العضو بمجرد غسله ، ولا يتوقف على فراغ الوضوء وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى . واختلفوا في الأصح من هذين الوجهين فقال الشاشي : الأصح أنه يعم البدن وقال البغوي وغيره . الأصح اختصاصه بالأعضاء الأربعة ، وهذا الذي صححه البغوي هو الأرجح والله أعلم .



                                      ( الرابعة ) المرأة كالرجل في الوضوء إلا في اللحية الكثة كما سبق



                                      ( الخامسة ) يشترط في غسل الأعضاء جريان الماء عليها فإن أمسه الماء [ ص: 492 ] ولم يجر لم تصح طهارته اتفق عليه الأصحاب ونص عليه الشافعي رحمه الله في الأم في باب قدر الماء الذي يتوضأ به وقد أشار إليه المصنف في باب الآنية في قوله : إذا توضأ من إناء الفضة لأن الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء ، ودليله أنه لا يسمى غسلا ما لم يجر ، ولو غمس عضوه في الماء كفاه لأنه يسمى غسلا



                                      ( السادسة ) ماء الوضوء والغسل غير مقدر لكن يستحب أن لا ينقص في الوضوء عن مد ولا في الغسل عن صاع ، والإسراف مكروه بالاتفاق وسيأتي هذا كله مبسوطا حيث ذكره المصنف في باب الغسل إن شاء الله تعالى



                                      ( السابعة ) إذا كان على بعض أعضائه شمع أو عجين أو حناء وأشباه ذلك فمنع وصول الماء إلى شيء من العضو لم تصح طهارته سواء أكثر ذلك أم قل ، ولو بقي على اليد وغيرها أثر الحناء ولونه دون عينه أو أثر دهن مائع بحيث يمس الماء بشرة العضو ويجري عليها لكن لا يثبت : صحت طهارته ، وقد تقدم هذا في فصل غسل الرجل . ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى البشرة لم يصح وضوءه على الأصح وقد سبق بيانه في باب السواك



                                      ( الثامنة ) يستحب إمرار اليد على أعضاء الطهارة في الوضوء والغسل ولا يجب ، وقد تقدم بيانه في فصل غسل الوجه



                                      ( التاسعة ) إذا شرع المتوضئ في غسل الأعضاء ارتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله ولا يتوقف ارتفاعه عن ذلك العضو على غسل بقية الأعضاء . هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وبه قطع الجمهور وقد صرح به المصنف في آخر باب ما يوجب الغسل ، وقال إمام الحرمين : يتوقف فإذا غسل وجهه ويديه ومسح رأسه لم يرتفع الحدث عن شيء منها حتى يغسل رجليه . واحتج بأنه لا يجوز مس المصحف بيده فلولا بقاء الحدث عليها لجاز وحجة الجمهور أن غسل الأعضاء موجب لإزالة الحدث فلا فرق بين كلها أو بعضها والجواب عن مسألة مس المصحف أن شرط الماس أن يكون كامل الطهارة ولا يكون عليه حدث ، ولهذا اتفقوا على أنه لا يجوز للمحدث مسه [ ص: 493 ] بصدره ، وإن قلنا : الحدث يختص بأعضاء الوضوء كما سبق إيضاحه في المسألة الثالثة



                                      ( العاشرة ) إذا شرع في الوضوء فشك في أثنائه في غسل بعض الأعضاء بنى على اليقين وهو أنه لم يغسله ، وهذا لا خلاف فيه لأن الأصل عدم غسله ولو شك بعد الفراغ من الطهارة في غسل بعض الأعضاء فهل هو كالشك في أثنائها فيلزمه غسله وما بعده أم لا يلزمه شيء كما لو شك في ترك ركن من الصلاة بعد السلام ؟ فيه وجهان حكاهما جماعة منهم المتولي في آخر باب الأحداث وصاحب العدة والروياني هنا وآخرون ورجح صاحب العدة والروياني وجوب غسله وهو احتمال لصاحب الشامل قالوا : لأن الطهارة تراد لغيرها فلم تتصل بالمقصود بخلاف الصلاة قال صاحب الشامل : وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا شيء عليه كالصلاة فقيل له : هذا يؤدي إلى الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها فقال هذا غير ممتنع كما لو شك هل أحدث أم لا ؟ وهذا الذي قاله أبو حامد هو الأظهر المختار . واحتج الروياني لما رجحه بالقياس على المسافر إذا صلى الظهر وفرغ منها ثم شك في فرض منها وأراد أن يجمع إليها العصر لم يجز لأن شرط صحة العصر في وقت الظهر أن يتقدم العلم بصحة الظهر ، قال : ومثله لو خطب للجمعة ثم شك في ترك فرض من الخطبة لم تجز صلاة الجمعة حتى يتيقن إتمام الخطبة ، وهذا الذي قاله في المثالين فيه نظر وسنعود إليه إن شاء الله تعالى في موضعه والله أعلم



                                      ( الحادية عشرة ) إذا توضأ وصلى الظهر ثم توضأ وصلى العصر ثم تيقن مسح الرأس في إحدى الطهارتين ولا يعرف عينها ففيه تفصيل وكلام طويل وفروع كثيرة سبق بيانها في آخر باب الشك في نجاسة الماء



                                      ( الثانية عشرة ) يستحب لمن توضأ أن يصلي عقبه ركعتين في أي وقت كان وفي أوقات النهي عن النوافل التي لا سبب لها لأن هذا سبب وهو الوضوء وذكر كثيرون من أصحابنا هذه المسألة في باب الأوقات التي تكره فيها النافلة وذكرها في هذا الباب صاحب البحر وغيره ، ودليل المسألة أحاديث كثيرة في الصحيح منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال رضي الله عنه : حدثني بأرجى عمل عملته [ ص: 494 ] في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ؟ فقال : ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي } رواه البخاري في صحيحه واحتج به على فضل الصلاة بعد الوضوء وكذا احتج به أصحابنا وهو ظاهر في ذلك وعن عثمان رضي الله عنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال : من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه } رواه مسلم في صحيحه



                                      ( الثالثة عشرة ) اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء وهو أن يكون على وضوء ثم يتوضأ من غير أن يحدث ومتى يستحب ؟ فيه خمسة أوجه أصحها إن صلى بالوضوء الأول فرضا أو نفلا وبه قطع البغوي ( والثاني ) إن صلى فرضا استحب وإلا فلا وبه قطع الفوراني ( والثالث ) يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا ، ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري في باب الماء المستعمل واختاره .

                                      ( والرابع ) إن صلى بالأول أو سجد لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في المصحف استحب وإلا فلا ، وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق ( والخامس ) يستحب التجديد ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئا أصلا حكاه إمام الحرمين قال وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق ، فأما إذا وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة ، وهذا الوجه غريب جدا ، وقد قطع القاضي أبو الطيب في كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول شيئا قال المتولي والروياني : وكذا لو توضأ وقرأ القرآن في المصحف يكره التجديد . قالا : ولو سجد لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره والله أعلم .

                                      أما الغسل فلا يستحب تجديده على المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه أنه يستحب حكاه إمام الحرمين وغيره . أما التيمم فالمشهور أنه لا يستحب تجديده وفي وجه ضعيف يستحب وصورته في الجريح والمريض ونحوهما ممن يصح تيممه مع وجود الماء ، ويتصور في غيرهما إذا لم نوجب الطلب ثانيا إذا بقي في مكانه الذي صلى فيه [ ص: 495 ] وستأتي المسألة مبسوطة في التيمم إن شاء الله تعالى ، فإن قلنا بتجديد التيمم فيتصور للنافلة بعد الفريضة وكذا للفريضة بعد النافلة إذا قدم النافلة . واحتج الأصحاب لأصل استحباب التجديد بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات } رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم ولكنه ضعيف متفق على ضعفه ، وممن ضعفه الترمذي والبيهقي . واحتج البيهقي بحديث أنس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث } رواه البخاري ، لكن لا دلالة فيه للتجديد لاحتمال أنه كان يتوضأ عن حدث ، وهذا الاحتمال مقاوم لاحتمال التجديد فلا يرجح التجديد إلا بمرجح آخر .



                                      ( الرابعة عشر ) إذا توضأ الصحيح وهو غير المستحاضة ومن في معناها ممن به حدث دائم فله أن يصلي بالوضوء الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يحدث . هذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والثوري وأحمد وجماهير العلماء ، وحكى أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن بن بطال في شرح صحيح البخاري عن طائفة من العلماء أنه يجب الوضوء لكل صلاة وإن كان متطهرا ، وحكى الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري في كتابه كتاب الإجماع هذا المذهب عن عمرو بن عبيد قال : وروينا عن إبراهيم يعني النخعي أنه لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات ، وحكى الطحاوي عن قوم أنه يجوز جمع صلوات بوضوء للمسافر دون الحاضر . واحتج من أوجبه لكل صلاة وإن كان ظاهرا بقوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } الآية ، ودليلنا حديث بريدة رضي الله عنه : أن { النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات بوضوء واحد يوم فتح مكة ومسح على خفيه وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال : عمدا صنعته يا عمر } رواه مسلم [ ص: 496 ] وعن سويد بن النعمان رضي الله عنه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم أكل سويقا ثم صلى المغرب ولم يتوضأ } رواه البخاري في مواضع من صحيحه .

                                      وعن عمرو بن عامر عن أنس قال : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قلت : كيف كنتم تصنعون ؟ قال : يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث } رواه البخاري . وعن جابر بن عبد الله قال : { ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه أصحابه فقدمت له شاة مصلية فأكل وأكلنا ثم حانت الظهر فتوضأ وصلى ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل ، ثم حانت العصر فصلى ولم يتوضأ } رواه الطحاوي بإسناد صحيح على شرط مسلم . وفي الصحيحين أحاديث كثيرة من هذا كحديث الجمع بين الصلاتين بعرفة وبمزدلفة ، وفي سائر الأسفار ، والجمع بين الصلوات الفائتات يوم الخندق وغير ذلك . وأما الآية الكريمة فمعناها إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، وإنما لم يذكر محدثين لأنه الغالب ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بفعله في مواطن كثيرة وبتقريره أصحابه على ذلك والله أعلم .

                                      أما المستحاضة وسلس البول والمذي وغيرهما ممن به حدث دائم فإذا توضأ أحدهم استباح فريضة واحدة وما شاء من النوافل ، ولا يباح له غير فريضة كما سيأتي إيضاحه في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف . وهل يرتفع حدثه بالوضوء ؟ فيه طريقان ، المذهب لا يرتفع ، وبه قطع الجمهور . وقال القفال : فيه قولان ، قال إمام الحرمين والشاشي وغيرهما : هذا الذي قاله القفال غلط وكيف يرتفع الحدث مع جريانه دائما ؟ ذكروا المسألة في باب مسح الخف وسننبه عليها هناك إن شاء الله تعالى والله أعلم .



                                      ( الخامسة عشرة ) إذا أحدث أحداثا متفقة أو مختلفة كفاه وضوء واحد بالإجماع وكذا لو أجنب مرات بجماع امرأة واحدة أو نسوة أو احتلام أو بالمجموع كفاه غسل بالإجماع ، وسواء كان الجماع مباحا أو زنا ، وممن نقل الإجماع فيه أبو محمد بن حزم والله أعلم .



                                      [ ص: 497 ] السادسة عشرة ) يستحب المحافظة على الدوام على الطهارة وعلى المبيت على طهارة وفيهما أحاديث مشهورة ، وقد ذكر المحاملي في اللباب أنواع الوضوء المسنون فجعلها عشرة وزاد فيها غيره فبلغ مجموعها خمسة وعشرين نوعا منها تجديد الوضوء ، والوضوء في الغسل والوضوء عند النوم والوضوء للجنب عند الأكل أو الشرب ، والوضوء من حمل الميت وعند الغضب وعند الغيبة وعند قراءة القرآن وعند قراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وروايته ودراسة العلم وعند الأذان وإقامة الصلاة وللخطبة في غير الجمعة وكذا للجمعة . إذا لم نوجب فيها الطهارة ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وللوقوف بعرفات وللسعي بين الصفا والمروة والوضوء من الفصد والحجامة والقيء وأكل لحم الجزور للخروج من خلاف العلماء في وجوبه . وكذا يندب الوضوء لكل نوم أو لمس أو مس اختلف في النقض به وقلنا لا ينقض وكذا في مس الرجل والمرأة الخنثى ومسه أحد فرجيه ونحو ذلك . ورأيت في فتاوى ابن الصباغ أنه يستحب لمن قص شاربه الوضوء ولعله أراد الخروج من خلاف من أوجب طهارة ما ظهر بالقطع فيعيد الوضوء للترتيب والموالاة والله أعلم .



                                      ( السابعة عشرة ) قال البغوي قال القاضي حسين : لو نذر أن يتوضأ انعقد نذره وعليه تجديد الوضوء بعد أن يصلي بالأول صلاة ، فإن توضأ وهو محدث لم يجزئه عن نذره لأنه واجب شرعا ، وإن جدد الوضوء قبل أن يصلي بالأول لم يخرج عن نذره . قال : ومن أصحابنا من قال : لا يلزم الوضوء بالنذر لأنه غير مقصود في نفسه قال : ولو نذر التيمم لا ينعقد قطعا لأنه لا يجدد ، هذا كلام البغوي وقد جزم المتولي في باب النذر بانعقاد نذر الوضوء وحكى وجها في انعقاد نذر التيمم ، وهو مبني على الخلاف الذي قدمته في تجديد التيمم ، فالمذهب انعقاد نذر الوضوء وعدم انعقاد نذر التيمم : قال المتولي : ولو نذر الوضوء لكل صلاة لزمه ، وإذا توضأ لها عن حدث لم يلزمه الوضوء لها ثانيا ، بل يكفيه الوضوء الواحد لواجبي الشرع والنذر والله أعلم .



                                      ( الثامنة عشرة ) قال الشافعي رحمه الله في آخر هذا الباب بعد أن ذكر [ ص: 498 ] فرائض الوضوء وسننه : وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله تعالى . فاعترض عليه في هذا الاستثناء فأجاب الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي وغيرهما من أصحابنا بأن الشافعي لم يذكر استحباب غسل العينين في هذا الكتاب وصح أن ابن عمر كان يفعله فاستثنى لإخلاله بذلك خوفا أن يكون ذلك من تمام الوضوء وهذا الجواب الذي ذكروه وإن كان فيه بعض الحسن فالأجود غيره ، وهو أنه خشي أن يكون فيه سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة فيه على ما ذكره أو بإبطال ما أثبته ولم تبلغه فاحتاط بالاستثناء ولأنه أثبت أشياء لم يثبتها بعض العلماء وحذف أشياء أثبتها بعضهم فالاستثناء حسن لهذا مع أنه مستحب في كل المواطن والله أعلم .

                                      وقال الشافعي في المختصر : وليست الأذنان من الرأس فتغسلان قال أبو سليمان الخطابي وغيره قال بعض الناس أو أكثرهم : هذا لحن لأنه جواب النفي بالفاء فصوابه فتغسلا بحذف النون قال الخطابي : وقوله فتغسلان بالنون صحيح عند عامة النحويين على إضمار المبتدأ ، قال الله تعالى : { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } أي : فهم يعتذرون وقال الشافعي في المختصر : ولو غسل وجهه مرة وذراعيه مرة مرة ومسح بعض رأسه ما لم يخرج عن منابت شعر رأسه أجزأه ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته ، قال الشافعي : والنزعتان من الرأس وغسل رجليه مرة مرة عاما بكل مرة أجزأه ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة هذا لفظه فاعترض عليه لإدخال حديث مسح الناصية وذكر النزعتين بين أعضاء الوضوء . والجواب عنه أن هذا كلام اعترض بين الجمل المعطوف بعضها على بعض دعت الحاجة إلى ذكره ، وهو أنه أراد الاحتجاج للاقتصار على بعض الرأس عند ذكره الاقتصار فكان الاحتجاج له مهما فعجله وذكر النزعتين ليبين أنهما من الرأس الذي تكلم فيه وحكم بأن بعضه يكفي ، فكأنه يقول : إن اقتصر على بعض الرأس ولو بعض النزعة منه جاز ، فلما كان ما ذكره مهما اعترض به بين الجمل ، وقد جاء مثل هذا في القرآن العزيز في مواضع منها قوله تعالى [ ص: 499 ] { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون . وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا } اعترض قوله تعالى : { وله الحمد في السموات والأرض } ومثله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } اعترض { لو تعلمون } ومثله قوله تعالى : { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم } اعترض قوله تعالى : { والله أعلم بما وضعت } على قراءة من قرأ وضعت بفتح العين وإسكان التاء ونظائره كثيرة . ومما جاء منه في شعر العرب قول امرئ القيس

                                      ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا

                                      فاعترض قوله : والحوادث جمة ، وقول الآخر :

                                      ألم يأتيك والأنباء تنمى بما لاقت لبون بني زياد

                                      فاعترض ( والأنباء تنمى ) وقول الآخر :

                                      إليك أبيت اللعن كان كلالها إلى الماجد القرم الجواد المحمد

                                      فاعترض أبيت اللعن ، وفي هذه الأبيات شواهد لمسائل كثيرة من النحو واللغة ، والله أعلم .



                                      ( التاسعة عشرة ) أنكر على صاحب الوسيط مسائل وألفاظ قد ذكرناها في مواضعها من هذا الباب ونبهنا على صوابها . منها قوله في غسل الكفين : فإن تيقن طهارة اليد ففي بقاء الاستحباب وجهان ، ومنها قوله : إذا حلق شعره لا يلزمه طهارة موضعه خلافا لابن خيران وصوابه ( ابن جرير ) ومنها قوله : ( تطويل الغرة ) وقوله : لقوله صلى الله عليه وسلم { مسح الرقبة أمان من الغل } وغير ذلك مما نبهنا عليه في موضعه والله أعلم وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة .




                                      الخدمات العلمية