الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 277 ] مسألة : قال : ( ولا لغني ، وهو الذي يملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ) . يعني لا يعطى من سهم الفقراء والمساكين غني ، ولا خلاف في هذا بين أهل العلم ; وذلك لأن الله تعالى جعلها للفقراء والمساكين ، والغني غير داخل فيهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ { : أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم . وقال : لا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب . وقال : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي } . أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن

                                                                                                                                            ولأن أخذ الغني منها يمنع وصولها إلى أهلها ، ويخل بحكمة وجوبها ، وهو إغناء الفقراء بها . واختلف العلماء في الغنى المانع من أخذها . ونقل عن أحمد فيه روايتان : أظهرهما ، أنه ملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ، أو وجود ما تحصل به الكفاية على الدوام ; من كسب ، أو تجارة ، أو عقار ، أو نحو ذلك .

                                                                                                                                            ولو ملك من العروض ، أو الحبوب أو السائمة ، أو العقار ، ما لا تحصل به الكفاية ، لم يكن غنيا ، وإن ملك نصابا ، هذا الظاهر من مذهبه ، وهو قول الثوري والنخعي وابن المبارك وإسحاق . وروي عن علي وعبد الله ، أنهما قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما ، أو عدلها ، أو قيمتها من الذهب .

                                                                                                                                            وذلك لما روى عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشا ، أو خدوشا ، أو كدوحا في وجهه . فقيل : يا رسول الله ، ما الغنى ؟ قال خمسون درهما ، أو قيمتها من الذهب . } رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . فإن قيل : هذا يرويه حكيم بن جبير ، وكان شعبة لا يروي عنه ، وليس بقوي في الحديث . قلنا : قد قال عبد الله بن عثمان لسفيان : حفظي أن شعبة لا يروي عن حكيم بن جبير .

                                                                                                                                            فقال سفيان : حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن . وقد قال علي وعبد الله مثل ذلك . والرواية الثانية ، أن الغنى ما تحصل به الكفاية ، فإذا لم يكن محتاجا حرمت عليه الصدقة ، وإن لم يملك شيئا ، وإن كان محتاجا حلت له الصدقة ، وإن ملك نصابا ، والأثمان وغيرها في هذا سواء .

                                                                                                                                            وهذا اختيار أبي الخطاب وابن شهاب العكبري وقول مالك والشافعي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة بن المخارق { لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة : رجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : قد أصابت فلانا فاقة ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ، أو سدادا من عيش } رواه مسلم .

                                                                                                                                            فمد إباحة المسألة إلى وجود إصابة القوام أو السداد ، ولأن الحاجة هي الفقر ، والغنى ضدها ، فمن كان محتاجا فهو فقير يدخل في عموم النص ، ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة ، والحديث الأول فيه ضعف ، ثم يجوز أن تحرم المسألة ولا يحرم أخذ الصدقة إذا جاءته من غير المسألة ، فإن المذكور فيه تحريم المسألة ، فنقتصر عليه . وقال الحسن وأبو عبيد : الغنى ملك أوقية ، وهي أربعون درهما ; لما روى أبو سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف } . وكانت الأوقية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين درهما . رواه أبو داود .

                                                                                                                                            وقال أصحاب الرأي : الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها ، وهو ملك نصاب تجب فيه الزكاة ، من الأثمان ، أو العروض المعدة للتجارة ، أو السائمة ، أو غيرها { ; لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن عليهم صدقة [ ص: 278 ] تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم } ، فجعل الأغنياء من تجب عليهم الزكاة ، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غني ، ومن لا تجب عليه ليس بغني ، فيكون فقيرا ، فتدفع الزكاة إليه ; لقوله : " فترد في فقرائهم " .

                                                                                                                                            ولأن الموجب للزكاة غنى ، والأصل عدم الاشتراك ، ولأن من لا نصاب له لا تجب عليه الزكاة فلا يمنع منها ، كمن يملك دون الخمسين ، ولا له ما يكفيه . فيحصل الخلاف بيننا وبينهم في أمور ثلاثة : أحدها ، أن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها عندنا . ودليل ذلك حديث ابن مسعود ، وهو أخص من حديثهم .

                                                                                                                                            فيجب تقديمه ، ولأن حديثهم دل على الغنى الموجب ، وحديثنا دل على الغنى المانع ، ولا تعارض بينهما . فيجب الجمع بينهما . وقولهم : الأصل عدم الاشتراك . قلنا : قد قام دليله بما ذكرناه ، فيجب الأخذ به . الثاني ، أن من له ما يكفيه من مال غير زكائي ، أو من مكسبه ، أو أجرة عقارات أو غيره ، ليس له الأخذ من الزكاة .

                                                                                                                                            وبهذا قال الشافعي وإسحاق وأبو عبيدة وابن المنذر وقال أبو يوسف : إن دفع الزكاة إليه فهو قبيح ، وأرجو أن يجزئه . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : يجوز دفع الزكاة إليه ; لأنه ليس بغني ، لما ذكروه في حجتهم . ولنا ، ما روى الإمام أحمد ، حدثنا يحيي بن سعيد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار ، { عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه الصدقة ، فصعد فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : إن شئتما أعطيتكما ، ولا حظ فيها لغني ، ولا لقوي مكتسب } . قال أحمد : ما أجوده من حديث . وقال : هو أحسنها إسنادا وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي } . رواه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . إلا أن أحمد قال : لا أعلم فيه شيئا يصح . قيل : فحديث سالم بن أبي الجعد ، عن أبي هريرة ؟ قال : سالم لم يسمع من أبي هريرة .

                                                                                                                                            ولأن له ما يغنيه عن الزكاة . فلم يجز الدفع إليه ، كمالك النصاب . الثالث ، أن من ملك نصابا زكائيا ، لا تتم به الكفاية من غير الأثمان ، فله الأخذ من الزكاة . قال الميموني : ذاكرت أبا عبد الله فقلت : قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة ، وهو فقير ويكون له أربعون شاة ، وتكون لهم الضيعة لا تكفيه ، فيعطى من الصدقة ؟ قال : نعم . وذكر قول عمر أعطوهم ، وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا .

                                                                                                                                            قلت : فهذا قدر من العدد أو الوقت ؟ قال : لم أسمعه . وقال في رواية محمد بن الحكم : إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه ، يأخذ من الزكاة . وهذا قول الشافعي . وقال أصحاب الرأي : ليس له أن يأخذ منها إذا ملك نصابا زكائيا ; لأنه تجب عليه الزكاة ، فلم تجب له للخبر . ولنا ، أنه لا يملك ما يغنيه ، ولا يقدر على كسب ما يكفيه ، فجاز له الأخذ من الزكاة كما لو كان ما يملك لا تجب فيه الزكاة ، ولأن الفقر عبارة عن الحاجة ، قال الله تعالى { : يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } .

                                                                                                                                            أي : [ ص: 279 ] المحتاجون إليه . وقال الشاعر

                                                                                                                                            : فيا رب إني مؤمن بك عابد


                                                                                                                                            مقر بزلاتي إليك فقير

                                                                                                                                            وقال آخر :

                                                                                                                                            وإني إلى معروفها لفقير

                                                                                                                                            وهذا محتاج ، فيكون فقيرا غير غني ، ولأنه لو كان ما يملكه لا زكاة فيه لكان فقيرا ، ولا فرق في دفع الحاجة بين المالين ، وقد سمى الله تعالى الذين لهم سفينة في البحر مساكين ، فقال تعالى { : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . }

                                                                                                                                            وقد بينا بما ذكرناه من قبل أن الغنى يختلف مسماه ، فيقع على ما يوجب الزكاة ، وعلى ما يمنع منها ، فلا يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ، ولا من عدمه عدمه ، فمن قال : إن الغنى هو الكفاية . سوى بين الأثمان وغيرها ، وجوز الأخذ لكل من لا كفاية له ، وإن ملك نصبا من جميع الأموال .

                                                                                                                                            ومن قال بالرواية الأخرى ، فرق بين الأثمان وغيرها ; لخبر ابن مسعود ، ولأن الأثمان آلة الإنفاق المعدة له دون غيرها ، فجوز الأخذ لمن لا يملك خمسين درهما ، أو قيمتها من الذهب ، ولا ما تحصل به الكفاية ، من مكسب ، أو أجرة أو عقار ، أو غيره ، أو نماء سائمة أو غيرها .

                                                                                                                                            وإن كان له مال معد للإنفاق من غير الأثمان ، فينبغي أن تعتبر الكفاية به في حول كامل ; لأن الحول يتكرر وجوب الزكاة بتكرره ، فيأخذ منها كل حول ما يكفيه إلى مثله ، ويعتبر وجود الكفاية له ولعائلته ومن يمونه ; لأن كل واحد منهم مقصود دفع حاجته ، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد .

                                                                                                                                            وإن كان له خمسون درهما ، جاز أن يأخذ لعائلته حتى يصير لكل واحد منهم خمسون . قال أحمد ، في رواية أبي داود ، في من يعطي الزكاة وله عيال : يعطى كل واحد من عياله خمسين خمسين . وهذا لأن الدفع إنما هو إلى العيال ; وهذا نائب عنهم في الأخذ .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية