الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                      ( باب صلاة التطوع ) [ ص: 411 ] قال في الاختيارات : التطوع تكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمها وفيه حديث مرفوع رواه أحمد في المسند وكذلك الزكاة ، وبقية الأعمال ا هـ وقال أبو العباس في الرد على الرافضي : جاءت السنة بثوابه على ما فعله وعقابه على ما تركه ولو كان باطلا كعدمه لم يجبر بالنوافل شيء والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم وهو ما أبرأ الذمة فقولهم : تبطل صلاة وصوم من ترك ركنا بمعنى وجب القضاء لا بمعنى أنه لا يثاب عليهما شيئا في الآخرة ( وهو ) أي التطوع في الأصل : فعل الطاعة و ( شرعا ) وعرفا ( طاعة غير واجبة ) والنفل والنافلة : الزيادة والتنفل التطوع .

                                                                                                                      ( وأفضله ) أي التطوع ( الجهاد ) قال أحمد لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد ويأتي له مزيد إيضاح في كتاب الجهاد ( ثم توابعه ) أي الجهاد ( من نفقة وغيرها فالنفقة فيه ) أي الجهاد ( أفضل من النفقة في غيره ) من أعمال البر لقوله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة } - الآية ( ثم علم ، تعلمه وتعليمه من حديث وفقه ونحوهما ) كتفسير وأصول لحديث { فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم } الحديث وتقدم في الخطبة قال أبو الدرداء ( العالم والمتعلم في الأجر سواء وسائر الناس همج لا خير فيهم ) ونقل مهنا : طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته .

                                                                                                                      قيل : فأي شيء تصحيح النية ؟ قال : ينوي يتواضع فيه ، وينفي عنه الجهل وقال لأبي داود شرط النية شديد حبب إلي ، فجمعته وسأله ابن هانئ : يطلب الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به ؟ قال : العلم لا يعدله شيء ونقل ابن منصور : أن تذاكر بعض ليلة أحب إلى أحمد من إحيائها - وإنه العلم الذي ينتفع به الناس في أمور دينهم قلت الصلاة والصوم والحج والطلاق ونحو هذا ؟ قال : نعم قال الشيخ تقي الدين : من فعل هذا أو غيره مما هو خير في نفسه لما فيه من المحبة له لا لله ولا لغيره من الشركاء فليس مذموما ، بل قد يثاب بأنواع من الثواب ، إما بزيادة فيها وفي أمثالها ، فيتنعم بذلك في الدنيا قال : وقد [ ص: 412 ] يكون من فوائد ذلك وثوابه في الدنيا ، أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه وهو معنى قول بعضهم طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله وقول الآخر طلبهم له نية يعني نفس طلبه حسن ينفعهم .

                                                                                                                      قال أحمد ويجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه قيل له : فكل العلم يقوم به دينه قال : الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه قيل : مثل أي شيء ؟ قال : الذي لا يسعه جهله : صلاته ، وصيامه ، ونحو ذلك ومراد أحمد ما يتعين وجوبه وإن لم يتعين ففرض كفاية ذكره الأصحاب فمتى قامت طائفة بعلم لا يتعين ، وجوبه قامت بفرض كفاية ثم من تلبس به فنفل في حقه ، ووجوبه مع قيام غيره به دعوى تفتقر إلى دليل وليحذر العالم ويجتهد ، فإن ذنبه أشد نقل المروزي : العالم يقتدى به ليس العالم مثل الجاهل ، ومعناه لابن المبارك وغيره وقال الفضيل بن عياض : يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد وقال الشيخ تقي الدين : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه من جنس ذنب اليهود والله أعلم .

                                                                                                                      وفي آداب عيون المسائل : العلم أفضل الأعمال ، وأقرب العلماء إلى الله وأولاهم به : أكثرهم له خشية ( ثم صلاة ) لما روى سالم بن أبي الجعد عن ثوبان { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة } رواه ابن ماجه ، وإسناده ثقات إلى سالم قال أحمد : سالم لم يلق ثوبان بينهما شعبان بن أبي طلحة وله طرق فيها ضعف .

                                                                                                                      ; ولأن فرضها آكد الفروض فتطوعها آكد التطوعات ; ولأنها تجمع أنواعا من العبادة : الإخلاص ، والقراءة ، والركوع والسجود ، ومناجاة الرب ، والتوجه إلى القبلة ، والتسبيح ، والتكبير ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ( ونص ) الإمام ( أحمد : أن الطواف لغريب أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ) نقل حنبل : نرى لمن قدم مكة أن يطوف ; لأن الطواف أفضل من الصلاة والصلاة بعد ذلك .

                                                                                                                      وعن ابن عباس : الطواف لأهل العراق ، والصلاة لأهل مكة وكذا عطاء .

                                                                                                                      وذلك ; لأن الصلاة لا تختص بمكان ، فيمكن التنفل بها من أي مكان أراد ، بخلاف الطواف ( ثم سائر ما تعدى نفعه من عيادة مريض ، وقضاء حاجة مسلم وإصلاح بين الناس ونحوه ) كإبلاغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها إلى ذي سلطان ; لأن نفعه متعد أشبه الصدقة .

                                                                                                                      وعن أبي الدرداء مرفوعا : { ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا : بلى قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، ونقل حنبل : [ ص: 413 ] اتباع الجنازة أفضل من الصلاة ; ولهذا حمل صاحب المحرر وغيره أفضلية الصلاة على النافع القاصر كالحج ، وإلا فالمتعدي أفضل ( وهو ) أي ما تعدى نفعه ( متفاوت ، فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق ) أجنبي ; لأنها صدقة وصلة ( وعتق أفضل من صدقة على أجنبي ) ; لما فيه من تخليصه من أسر الرق ( إلا زمن غلاء وحاجة ) فالصدقة ، حتى على الأجنبي ، أفضل من العتق لمسيس الحاجة إليها ( ثم حج ) لحديث : { الحج جهاد كل ضعيف } رواه ابن ماجه وغيره .

                                                                                                                      وفي الباب أحاديث كثيرة قال في الفروع : وظهر من ذلك ، أن نفل الحج أفضل من صدقة التطوع ، ومن العتق ، ومن الأضحية قال : وعلى ذلك إن مات في الحج مات شهيدا قال : وعلى هذا فالموت في طلب العلم أولى بالشهادة ، على ما سبق وللترمذي - قال : حسن غريب - عن أنس مرفوعا { من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع } وظاهر كلام أحمد والأصحاب وبقية العلماء : أن المرأة كالرجل في استحباب التطوع بالحج ، لما سبق ونقل أبو طالب : ليس يشبه الحج شيء ، للتعب الذي فيه ولتلك المشاعر .

                                                                                                                      وفيه مشهد ليس في الإسلام مثله عشية عرفة وفيه إنهاك المال والبدن ، وإن مات بعرفة فقد طهر من ذنوبه ( ثم عتق ) هكذا في المبدع ، وهو معنى كلام الفروع فيما سبق ومقتضى كلام المنتهى وغيره : أن العتق أفضل من الحج ; لأنه مما يتعدى نفعه ، كما هو مقتضى كلام المصنف أولا ( ثم صوم ) لحديث " { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به } وإنما أضاف الله تعالى إليه الصوم ; لأنه لم يعبد به غيره في جميع الملل ، بخلاف غيره وإضافة عبادة إلى غير الله قبل الإسلام لا يوجب عدم أفضليتها في الإسلام فإن الصلاة في الصفا والمروة أعظم منها في مسجد من مساجد قرى الشام إجماعا وإن كان ذلك المسجد ما عبد فيه غير الله قط وقد أضافه الله إليه بقوله : { وأن المساجد لله } فكذا الصلاة مع الصوم .

                                                                                                                      وقيل : أضاف الصوم إليه ; لأنه لا يطلع إليه غيره وهذا لا يوجب أفضليته { وسأله صلى الله عليه وسلم رجل أي العمل أفضل ؟ قال : عليك بالصوم فإنه لا مثل له } " إسناده حسن رواه أحمد والنسائي من حديث أبي أمامة فإن صح فما سبق أصح ثم يحمل على غير الصلاة ، أو بحسب السائل قاله في الفروع ، وكذلك اختار الشيخ تقي الدين أن كل واحد بحسبه وقال في الرد على الرافضي : وقد يكون كل واحد أفضل في حال ، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم ، بحسب الحاجة والمصلحة ويوافقه قول أحمد لإبراهيم بن جعفر : [ ص: 414 ] انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله ( وقال الشيخ : استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهارا : أفضل من الجهاد الذي لم تذهب فيه نفسه وماله وهي ) أي العبادة التي تستوعب الليل والنهار ( في غير العشر تعدل الجهاد ) للأخبار الصحيحة المشهورة .

                                                                                                                      وقد رواها أحمد ( ولعل هذا مرادهم ) أي الأصحاب قال في الفروع : ولعل هذا مراد غيره وقال : العمل بالقوس والرمح أفضل في الثغر وفي غيره نظيرها .

                                                                                                                      وفي المتفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا { الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال : وكالقائم لا يفتر ، وكالصائم لا يفطر } " .

                                                                                                                      وفي لفظ { كالذي يصوم النهار ويقوم الليل } " ( وقال ) الشيخ : ( تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد ، وإنه نوع من الجهاد ) من جهة أن به إقامة الحجج على المعاند ، وإقامة الأدلة فهو كالجهاد بالرأي على ما يأتي في الجهاد .

                                                                                                                      ( تتمة ) في خطبة كفاية ابن عقيل إنما تشرف العلوم بحسب مؤدياتها ، ولا أعظم من الباري فيكون العلم المؤدي إلى معرفته وما يجب له وما يجوز ، أجل العلوم والأشهر عن أحمد : الاعتناء بالحديث والفقه ، والتحريض على ذلك وقال : ليس قوم خيرا من أهل الحديث وعاب على محدث لا يتفقه ، وقال : يعجبني أن يكون الرجل فهما في الفقه قال الشيخ تقي الدين : قال أحمد معرفة الحديث والفقه أعجب إلي من حفظه .

                                                                                                                      وفي خطبة مذهب ابن الجوزي : بضاعة الفقه أربح البضائع وفي كتاب العلم له : الفقه عمدة العلوم ا هـ .

                                                                                                                      ونقل مهنا عن أحمد أفضلية الفكر على الصلاة والصوم ، فقد يتوجه أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح ويكون مراد الأصحاب عمل الجوارح ، ويؤيده : حديث ( { أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله } ) وحديث { أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله } " وقد جاء صاحب الفروع في هذا الباب بالعجب العجاب فرحمه الله وجزاه أحسن الجزاء ( وآكد صلاة التطوع صلاة الكسوف ) ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتركها عند وجود سببها بخلاف الاستسقاء فإنه كان يستسقي تارة ويترك أخرى ( ثم صلاة الاستسقاء ) ; لأنه يشرع لها الجماعة مطلقا ، أشبهت الفرائض ( ثم التراويح ) ; لأنه لم يداوم عليها صلى الله عليه وسلم خشية أن تفرض لكنها أشبهت الفرائض من حيث مشروعية الجماعة لها ( ثم الوتر ) قدمه جماعة منهم صاحب التلخيص وجزم به في الوجيز وغيره ووجهه : أن الجماعة شرعت للتراويح مطلقا بخلاف الوتر فإنه إنما تشرع له الجماعة تبعا للتراويح ونقل حنبل : ليس بعد المكتوبة أفضل من قيام [ ص: 415 ] الليل .

                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                      الخدمات العلمية