الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          وأما قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } فإن السفه في لغة العرب التي نزل بها القرآن ، وبها خوطبنا ، لا يقع إلا على ثلاثة معان لا رابع لها أصلا - :

                                                                                                                                                                                          أحدها - البذاء والسب باللسان ، وهم لا يختلفون أن من هذه صفته لا يحجر عليه في ماله - فسقط الكلام في هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                          والوجه الثاني - الكفر ، قال الله عز وجل : { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء } . وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام : أنه قال لله تعالى { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } يعني كفرة بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها } وقال تعالى : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى حاكيا عن مؤمني الجن الذين صدقهم ورضي عنهم قولهم : { وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا } فهذا معنى ثان ، ولا خلاف منهم ولا منا في أن الكفار لا يمنعون أموالهم ، وأن معاملتهم في البيع والشراء وهباتهم جائز كل ذلك ، وأن قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } وقوله تعالى : { فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا } لم يرد به تعالى قط الكفار ، ولا ذوي البذاء في ألسنتهم .

                                                                                                                                                                                          والمعنى الثالث - وهو عدم العقل الرافع للمخاطبة كالمجانين والصبيان فقط ، وهؤلاء بإجماع منا ومنهم هم الذين أراد الله تعالى في الآيتين ، وأن أهل هذه الصفة لا [ ص: 152 ] يؤتون أموالهم ، لكن يكسون فيها ، ويرزقون ، ويرفق بهم في الكلام ، ولا يقبل إقرارهم ، لكن يقر عنهم وليهم الناظر لهم ، فصح هذا بيقين .

                                                                                                                                                                                          فمن قال : إن من يغبن في البيع ولا يحسن حفظ ماله - وإن كان عاقلا مخاطبا بالدين مميزا له - : داخل في " اسم السفه " المذكور في الآيتين ، فقد قال الباطل ، وقال على الله تعالى ما لا علم له به ، وقفا ما لا علم له به ، وما لا برهان له على صحته - وهذا كله حرام لا يحل القول به .

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } . وقال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } فإذ لا برهان لهم فليسوا صادقين فيه بلا شك .

                                                                                                                                                                                          فصح أن الآيتين موافقتان لقولنا مخالفتان لقولهم ، وما سمى الله تعالى قط في القرآن ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا العربي الجاهل بكسب ماله ، أو المغبون في البيع : سفيها . " والسفيه " الذي ذكر في الآية هو الذي لا عقل له لجنونه ، والضعيف الذي لا قوة له ، قال تعالى : { ثم جعل من بعد قوة ضعفا } والذي لا يستطيع أن يمل : هو من به آفة في لسانه تمنعه كخرس ، أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز أن يفسر كلام الله تعالى إلا بكلامه ، أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو بلغة العرب التي أخبر الله تعالى : أنه أنزل بها القرآن ، وباليقين الذي لا شك فيه : أنه مراد الله تعالى - فهذه طريق النجاة ، وأما بالظنون ، وما لا برهان عليه ، فمعاذ الله من هذا .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق سعيد بن منصور نا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى : { فإن آنستم منه رشدا } قال : العقل ، لا يدفع إلى اليتيم ماله - وإن شمط - حتى يؤنس منه رشد ، وهذا هو الحق المتيقن .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق سعيد بن منصور نا يونس عن الحسن في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : السفهاء : الصغار ، والنساء : من السفهاء .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى سعيد بن منصور نا عون بن موسى سمعت معاوية بن قرة يقول : عودوا النساء " لا " فإنها سفيهة إن أطعتها أهلكتك [ ص: 153 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق إسماعيل بن إسحاق عن يحيى بن عبد الحميد الحماني نا أبي ، وحميد الرؤاسي ، وعبد الله بن المبارك ، قال الرؤاسي : عن الحسن بن صالح عن السدي - رده إلى عبد الله : - قال في قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : النساء ، والصبيان . وقال ابن المبارك عن إسماعيل عن أبي مالك : النساء ، والصبيان ، قال : وقال أبي : عن سلمة بن نبيط عن الضحاك ، قال : النساء ، والصبيان .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى إسماعيل نا نصر بن علي ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، قال نصر : نا أبو أحمد عن ابن أبي غنية عن الحكم بن عتيبة ، وقال ابن نمير : نا أبي نا الأعمش عن مجاهد ، ثم اتفق الحكم ، ومجاهد في قول الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قالا جميعا : النساء ، والصبيان . وبه إلى إسماعيل نا يحيى بن خلف نا أبو عاصم عن عيسى نا ابن نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما } قال : نهى الرجال أن يعطوا النساء أموالهم ، والسفهاء : من كن أزواجا ، أو أمهات ، أو بنات .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى إسماعيل نا يحيى بن عبد الحميد الحماني نا شريك عن سالم عن سعيد هو ابن جبير { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قال : النساء . قال أبو محمد : فاتفق الحسن ، والحكم ، ومعاوية بن قرة ، ومجاهد ، والضحاك وسعيد بن جبير ، وأبو مالك ، وعبد الله - إما ابن مسعود وهو الأظهر ، وإما ابن عباس - على أن النساء سفهاء ، وأنهن من المراد في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                          وصرح مجاهد بأنهن الأمهات والزوجات ، والبنات ، فأين المشنعون بخلاف الجمهور ؟ وجميع الحاضرين من المخالفين لنا في هذه المسألة مخالفون لهذا القول .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما الصبيان فنعم ، وأما النساء فلا ; لأنه لم يأت قرآن ، ولا سنة ، بأنهن سفهاء ، بل قد ذكرهن الله تعالى مع الرجال في أعمال البر فقال : { والمتصدقين والمتصدقات } وفي سائر أعمال البر ، فبطل تعلقهم بهذه الآية - والحمد لله رب العالمين . [ ص: 154 ]

                                                                                                                                                                                          وأما تحريمه تعالى التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط فحق ، وهو قولنا ، وهم مخالفون لكل ذلك جهلا ، فيجيزون من الذي لا يخدع في البيع إعطاء ماله كله إما صدقة وإما هبة لشاعر ، أو في صداق امرأة ، نعم ، حتى إنه ليكتب لها على نفسه بعد خروجه لها عن جميع ماله الدين الثقيل ، وهذا هو التبذير المحرم ، والإسراف المحرم ، وبسط اليد كل البسط حتى يقعد ملوما محسورا ، ونحن نمنع من هذا كله ونبطله ونرده .

                                                                                                                                                                                          ثم يمنعون آخرين من الصدقة بدرهم في حياته ، ومن عتق عبده وإن كان له مائة عبد ، وينفذون وصيتهم وإن عظمت بعد موتهم ويحجرون الصدقة ، والعتق باليسير والكثير ، على من يخدع في البيع ، ولا يحجرون على من يبتاع الخمور ، ويعطي أجر الفسق ، وينفق على الندمان ، وفي القمار ، وإن أكثر ذلك إذا كان بصيرا بكسب المال من ظلم وغير ظلم ضابطا له من حق وغير حق ، ومانعا من زكاة وصدقة ، وهذه تناقضات في غاية السماجة ، وظهور الخطأ بغير وجه يعرف ، فمرة يطلقون إتلاف المال جملة في الباطل ، ومرة يحتاطون فيردون صدقة درهم ، وعتق رقبة لا ضرر على المال فيهما .

                                                                                                                                                                                          ومرة يجيزون الخديعة في الألوف في البيع ولا يكرهونها ويقولون : البيع خدعة ، ومرة يبطلون البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه خوف أن يخدع مرة أخرى ، وهذا في التناقض كالذي قبله ، وفي القول بما لا يعقل ولا يشهد له قرآن ، ولا سنة ، ولا معقول ، ولا رأي سديد .

                                                                                                                                                                                          وأما نحن فنرد الخديعة والغش حيث وجدا ، وممن وجدا - قلا أم كثرا - ونجيز البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه حيث وجد ، وممن وجد ، ونرد كل عطية في باطل - قلت أم كثرت - ونمضي كل عطية في حق - قلت أم كثرت - وبهذا جاءت النصوص ، وله شهدت العقول ، والآراء الصحاح التي إليهما ينتمون ، وبها في دين الله تعالى يقضون - والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ونحن نفسر بعون الله تعالى التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط التي حرم الله تعالى وزجر عنها ، لا كتفسيرهم الذي لا يفهمونه ، ولا يفهمونه أصلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : هذه الأعمال المحرمة معناها كلها واحد ويجمعه أن كل نفقة أباحها الله تعالى وأمر بها - كثرت أم قلت - فليست إسرافا ولا تبذيرا ولا بسط اليد كل البسط ; لأنه [ ص: 155 ] تعالى لا يحل ما حرم معا ، فلا شك في أن الذي أباح هو غير الذي نهى عنه ، وهو نفس قولنا - ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                          وكل نفقة نهى الله تعالى عنها - قلت أم كثرت - فهي الإسراف والتبذير وبسط اليد كل البسط ; لأنه لا شك في أن الذي نهى الله تعالى عنه مفسرا هو الذي نهى عنه مجملا - ولله الحمد كثيرا ، وبهذا جاءت الآثار - : روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق نا محمد بن كثير أنا سليمان بن كثير عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في المبذر : هو الذي ينفق في غير حق .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أبي العبيدين عن ابن مسعود في قول الله تعالى : { ولا تبذر تبذيرا } قال : الإنفاق في غير حقه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن عقيل بن خالد عن الزهري أنه كان يقول في قول الله تعالى : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } قال : لا تمنعه من حق ولا تنفقه في باطل .

                                                                                                                                                                                          قال الزهري : وكذلك قوله تعالى : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فصح أن هذه الآيات هي نص قولنا وأنهم مخالفون لها أوضح خلاف .

                                                                                                                                                                                          قال علي : كل شراء لمأكول ، أو ملبوس ، أو مركوب ، وكل عتق ، وصدقة ، وهبة ، أبقى غنى فهو حلال - . والحلال هو غير التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد كل البسط .

                                                                                                                                                                                          والحلال لا يجوز رده وكل ما لم يبق غنى من كل ذلك مما ليس بالمرء عنه غنى فهو الإسراف والتبذير ، وبسط اليد كل البسط فهو كله باطل ممن فعله مردود ، وهكذا كل نفقة في محرم كالخمر ، وأجرة الفسق ، والقمار ، وغير ذلك - قل أو كثر - وبالله تعالى التوفيق . فبطل عنهم كل ما تعلقوا به من القرآن ، [ ص: 156 ] وأما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فحق وهو قولنا ، وإضاعته هو صبه في الطريق ، أو إنفاقه في محرم كما قلنا في التبذير ، والإسراف ، وبسط اليد .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا في " المزارعة { من كانت له أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه } فلم يجعل عليه السلام ترك الأرض لا تعمر إضاعة للمال إذا لم يحتج صاحبها إلى ذلك .

                                                                                                                                                                                          وما نعلم خلافا في أن ترك التزيد من كسب المال لمن معه الكفاف له ولعياله مباح ، وأن إقباله حينئذ على العمل للآخرة أفضل من إكبابه على طلب التزيد من المال - فظهر فساد قولهم من كل وجه .

                                                                                                                                                                                          وأعجب شيء قولهم : إن من لم يثمر ماله فهو سفيه ، ثم أباحوا لمن تعدى فأكل أموال الناس ظلما أو غصبا ، وبالبيع ، وبأي وجه أمكنه ، فلما طلب بالحقوق ، وأخذ ما وجد له ، أو لم يوجد له شيء أن يقعد مكانه فلا يتكسب شيئا ينصف منه أهل الحقوق قبله - وهذه ضد الحقائق ، مرة يمنعونه من الصدقة ، والعتق ، والبيع ; لأنه لا يحسن تثمير ماله ، ومرة يطلقون له أن لا يثمر ماله وإن أضر ذلك بأهل الحقوق قبله ، فواخلافاه .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق محمد بن المثنى نا يعلى بن عبيد الطنافسي نا محمد بن سوقة نا ابن سعيد بن جبير قال : سئل أبي عن إضاعة المال ؟ فقال : أن يرزقك الله تعالى مالا فتنفقه فيما حرم عليك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أولاد سعيد بن جبير هم ثلاثة ، عبد الله ، وعبد الملك ، وإسحاق : كلهم ثقات مشاهير ، فأيهم كان فهو ثقة - .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية