الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : والمعطي أفضل من الآخذ ، وإن كان الآخذ يقيم بالأخذ فرضا عليه ) وهذه المسألة تشتمل على ثلاث فصول :

أحدها : أن يكون المعطي مؤديا للواجب والآخذ قادرا على الكسب ، ولكنه محتاج فهنا المعطي أفضل من الآخذ بالاتفاق ; لأنه في الإعطاء يؤدي للفرض والآخذ في الأخذ متبرع ، فإن له أن يأخذ ويكتسب ودرجة أداء الفرض أعلى من درجة المتبرع كسائر العبادات ، فإن الثواب في أداء المكتوبات أعظم منه في النوافل والدليل عليه أن المفترض عامل لنفسه والمتبرع عامل لغيره وعمل المرء لنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم { ابدأ بنفسك } معنى هذا أنه بنفس الأداء يفرغ ذمة نفسه فكان عاملا لنفسه والآخذ بنفس الأخذ لا ينفع نفسه بل بالتناول بعد الأخذ ، ولا يدري أيبقى إلى أن يتناول أو لا يبقى ، ولهذا لا منة للغني على الفقير في أخذ الصدقة ; لأن ما يحصل به للغني فوق ما يحصل للفقير من حيث إنه يحمل للغني ما لا يحتاج إليه للحال ليصل إليه عند حاجته إلى ذلك والغني محتاج إلى ذلك ليحصل به مقصوده للحال ، ولو اجتمع الفقراء على ترك الأخذ لم يلحقهم في ذلك مأثم بل يحمدون عليه بخلاف ما إذا اجتمع الأغنياء على الامتناع من أداء الواجب فعرفنا أن المنة للفقراء على الأغنياء

والفصل الثاني أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما متبرع إن كان المعطي متبرعا والآخذ قادرا على الكسب فالمعطي هنا أفضل أيضا ; لأنه بما يعطي سلخ عن الغنى ويتماثل إلى الفقير والآخذ يتماثل إلى الغنى وبينا أن درجة الفقير أعلى من درجة الغني فمن يتماثل إلى الفقير بعمله كان أعلى من درجة الغني ، ومن يتماثل إلى الفقير لعمله كان أعلى درجة ; لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء قال الله تعالى { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ومعنى الابتلاء بالإعطاء أظهر منه بالأخذ ; لأن الابتلاء في العمل الذي تميل إليه النفس ، وفي نفس كل أحد داعية إلى الأخذ دون الإعطاء ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { إن المسلم يحتاج في تصدقه بدرهم إلى أن يكسر شهوات سبعين شيطانا } ، وإذا كان معنى الابتلاء في الإعطاء أظهر كان أفضل لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الأعمال قال أحمزها } أي أشقها على البدن { وسئل عن أفضل الصدقة قال : جهد المقل } والآخذ يحصل [ ص: 274 ] لنفسه ما يتوصل به إلى اقتضاء الشهوات والمعطي يخرج من ملكه ما كان يتمكن به من اقتضاء الشهوات وأعلى الدرجات منع النفس عن اقتضاء الشهوات

والفصل الثالث إذا كان المعطي متبرعا والآخذ مقترضا بأن كان عاجزا عن الكسب محتاجا إلى ما يسد به رمقه فعند أهل الفقه رحمهم الله المعطي أفضل أيضا وقال أهل الحديث منهم أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه رحمهم الله الآخذ أفضل هنا ; لأنه بالأخذ مقيم به فرضا عليه والمعطي متنفل ، وقد بينا أن إقامة الفرض أعلى درجة من التنفل ، ولأن الآخذ لو امتنع من الأخذ هنا كان آثما والمعطي لو امتنع من الإعطاء لم يكن آثما إذا كان هناك غيره ممن يعطيه ما هو فرض عليه والثواب مقابل بالعقوبة .

( ألا ترى ) أن الله تعالى هدد نساء رسوله صلى الله عليه وسلم بضعف ما هدد به غيرهن من النساء فقال عز وجل { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } الآية ثم جعل لهن الثواب على الطاعات ضعف ما لغيرهن لقوله تعالى { نؤتها أجرها مرتين } ، فإذا كان الإثم في حق الآخذ دون المعطي فكذلك الثواب للآخذ أكثر مما للمعطي ، ولكن هذا كله مشكل برد السلام ، فإن السلام سنة ورد السلام فريضة ومع ذلك كانت البداءة بالسلام أفضل من الرد على ما قال صلى الله عليه وسلم { للبادئ بالسلام عشرون حسنة وللراد عشر حسنات } وربما يقولون الآخذ يسعى في إحياء النفس والمعطي يسعى في تحصين النفس أو في إنماء المال وإحياء النفس أعلى درجة من إنماء المال

وحجتنا في ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { اليد العليا خير من اليد السفلى } من غير تفضيل بين السفلى بالأداء وبين إقامة الفرض فإن قيل : المراد باليد العليا يد الفقير ; لأنها نائبة عن يد الشرع ، فإن المتصدق يجعل ماله لله خالصا بأن يخرجه من ملكه ثم يدفعه إلى الفقير ليكون كفاية له من الله تعالى والفقير ينوب عن الشرع في الأخذ من العين وبيان هذا في قوله تعالى { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم { إن الصدقة تقع في يد الرحمن فيربيها ، كما يربي أحدكم فلوه حتى يصير مثل أحد } فبهذا تبين أن اليد العليا في المعنى يد الفقير ، قلنا : هذا التأويل بعيد ، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { الأيدي ثلاثة : يد الله ، ثم اليد المعطية ، ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة } ، وفي رواية { ثم اليد المعطية ثم اليد المعطاة فهي السفلى إلى يوم القيامة } فبهذا بين أن المراد باليد العليا يد المعطي ، ولأن المعطي يتطهر من الدنس بالإعطاء والآخذ يتلوث وبيان ذلك أن الله تعالى قال { خذ من أموالهم صدقة } الآية فعرفنا أن في أداء [ ص: 275 ] الصدقة معنى التطهير والتنزيه ، وفي الأخذ تلويث ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة أوساخ الناس وسماها غسالة فقال { يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس } يعني الصدقة ويدل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر الإعطاء بنفسه وكان أخذ الصدقة لنفسه حراما عليه ، كما قال صلى الله عليه وسلم { لا تحل الصدقة لمحمد ولآل محمد } وتكلم الناس في حق سائر الأنبياء عليهم السلام فمنهم من يقول : ما كان يحل أخذ الصدقة لسائر الأنبياء عليهم السلام ولكنها كانت تحل لقرابتهم ثم إن الله أكرم نبينا صلى الله عليه وسلم بأن حرم الصدقة على قرابته إظهارا لفضله لتكون درجتهم في هذا الحكم كدرجة الأنبياء عليهم السلام وقيل بل كانت الصدقة تحل لسائر الأنبياء وهذه خصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم فكيفما كان يجوز أن يقال في تحريم الصدقة عليه أعلى الدرجات معنى الكرامة والخصوصية له ، فلو كان الأخذ أفضل من الإعطاء بحال لما كان في تحريم الأخذ عليه وعلى أهل بيته معنى الخصوصية والكرامة .

والدليل عليه أن الشرع ندب كل أحد إلى التصدق وندب كل أحد إلى التحرز عن السؤال { قال صلى الله عليه وسلم لثوبان رضي الله عنه لا تسأل الناس شيئا أعطوك أو منعوك } ، { وقال صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه إياك أن تسأل أحدا شيئا أعطاك أو منعك فكان بعد ما سمع هذه المقالة لا يسأل أحدا شيئا ، ولا يأخذ من أحد شيئا حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرض عليه نصيبه مما يعطي فكان لا يأخذ ويقول لست آخذ من أحد شيئا بعد ما قال لي رسول الله عليه السلام ما قال وكان عمر رضي الله عنه يشهد عليه ويقول يا أيها الناس قد أشهدتكم عليه أني عرضت عليه حقه ، وهو يأبى } وبهذا تبين أن الإعطاء أفضل من الأخذ وقال الله تعالى { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } الآية يعني من التعفف عن السؤال والأخذ وقال صلى الله عليه وسلم { من استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن فتح على نفسه بابا من الفقر فتح الله عليه سبعين بابا من الفقر } ، فإذا كان التعفف في الامتناع من الأخذ كان في الإقدام على الأخذ ترك التعفف من حيث الصورة ، فلهذا كان المعطي أفضل من الآخذ ، وفي كل خير

التالي السابق


الخدمات العلمية