الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
، ولو قال وقفت أرضي هذه ، أو حبستها ، أو حرمتها ، أو هي موقوفة ، أو محبوسة ، أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق ; لأن كلامه يحتمل فلعل مراده وقفتها على ملكي لتكون مصروفة في حاجتي ، أو على قضاء ديوني فإن قال لإنسان بعينه وقفتها لك ، أو حبستها لك ، أو قال هي لك وقف ، أو حبس فهو باطل أيضا إلا على قول أبي يوسف فإنه يقول يكون تمليكا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك ، وقوله وقف ، أو حبس باطل ، ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف ، أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسير كان الحكم لذلك التفسير كقوله داري لك سكنى تكون عارية فإن قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأخرجها من يده إلى يد قيم يقوم بها وينفق عليها في مرمتها وإصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة ، وليس له أن يرجع فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم ، وإخراج الأصل عن ملكه ، والتأبيد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا ، وإنما يبدأ من غلتها بمرمتها وإصلاح مجاريها ; لأنها لا تبقى منتفعا بها إلا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام { كل عمل ابن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته ، وولد صالح يدعو له ، وصدقة جارية له إلى يوم القيامة } ، وفي بعض الروايات قال إلا سبعا .

وذكر من جملة ذلك نهرا أكراه وخانا بناه ومصحفا سبله ، وإنما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ; لأنه لا يتمكن من الزراعة إلا بذلك ، ولأن الغلة لا تطيب من الأراضي الخراجية إلا بأداء الخراج ، وإنما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه بأطيب المال ، وذلك عند أداء النوائب ; فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة ، وليس هذا بتوقيت لازم ، ولكن يقسم عند حصول الغلة ، ومن الأراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنة مرة فكما حصلت الغلة ينبغي له أن يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ، ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات ، وفي [ ص: 33 ] التعجيل من القربة تحصيل مقصود الواقف ولذلك إذا جعل أرضا له مقبرة للمسلمين ويأذن لهم أن يقبروا فيها فيفعلون فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها ويقبروا فيها إنسانا واحدا ، أو أكثر أن يرجع فيها ; لأن التسليم على قول من يشترط التسليم يتم بهذا فإن ما هو المقصود قد حصل إذا قبروا فيها إنسانا واحدا .

وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين وخلى بينهم وبينها فدخلها بإذنه رجل واحد ، أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها ; لأن التسليم يتم بهذا ، وهذا ; لأنه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق وهو نظير ما جعل الشرع أمان الواحد من المسلمين كأمان الجماعة .

ثم النزول في الخان والدفن في المقبرة من مصالح الناس قال الله تعالى { ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا } وجواز الوقف لمعنى المصلحة فيه للناس من حيث المعاش والمعاد ، وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فيجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ويدفعها إلى ولي يقوم عليها ويسكن فيها من زار فليس له بعد ذلك أن يرجع فيها ، وإن مات لم تكن ميراثا ، وإن لم يسكنها أحد ; لأنه حين سلمها إلى ولي يقوم عليها فقد أخرجها من ملكه ويده .

والتسليم على قول من يشترط يكون بأحد الطريقين إما بإثبات يد القيم عليها ، أو بأن يحصل المقصود بسكنى بعض الناس فيها بإذنه ، وكذلك إن جعل دارا له في غير مكة سكنى للمساكين ودفعها إلى ولي يقوم بذلك ، وكذلك إن جعلها سكنى للغزاة والمرابطين في ثغر من الثغور ، أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى ولي يقوم به فهو جائز ، ولا سبيل له إلى رده ; لأنه قصد التقرب بما صنع . فأما السكنى فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير من الغزاة والمرابطين والحاج ، وكذلك نزول الخان والدفن في المقبرة .

فأما الغلة التي جعلت للغزاة فلا يعجبني أن يأخذ منها إلا محتاج إليها ; لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكنى وحقيقة المعنى في الفرق أن الغني مستغن عن مال الصدقة بمال نفسه وهو لا يستغني بماله عن الخان لينزل فيه وعن الدفن في المقبرة فلا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما يستأجره ; فلهذا يستوي فيه الغني والفقير وهو نظير ماء السقاية والحوض والبئر فإنه يستوي فيه الغني والفقير لهذا المعنى ، وهذا ; لأن الماء ليس بمال قبل الإحراز والناس يتوسعون فيه عادة ، ولا يخصون به الفقراء دون الأغنياء بخلاف المتصدق بالمال .

ثم الواقف وإن أطلق [ ص: 34 ] الغزاة في سبيل الله فمراده التقرب ، وذلك بصرف المال إلى المحتاجين منهم ، وفي اللفظ ما يدل عليه شرعا قال الله تعالى من أصناف الصدقات ، { وفي سبيل الله } ، ثم يصرف الصدقة إلى الفقراء من الغزاة دون الأغنياء .

والحاصل أنه متى ذكر مصرفا فيه تنصيص على الفقر والحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون ، أو لا يحصون ; لأن المطلوب وجه الله تعالى ومتى ذكر مصرفا يستوي فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم ، وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون فالفقراء والأغنياء فيه سواء ، وإن كانوا لا يحصون فالوقف صحيح وتصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم ; لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره وتمام بيان هذه الفصول في كتاب الوصايا .

التالي السابق


الخدمات العلمية