الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            من توفي في هذه السنة من الأعيان

            إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة ، أبو القاسم إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن وداعة ، أبو القاسم .

            كان يحفظ القرآن - فيما ذكر الأصفهاني - إلا أنه اشتهر بالغناء .

            وعن حماد بن إسحاق قال : أخبرني أبي قال : قال ابن جامع : كان أبي ينهاني عن الغناء ويعذبني عليه ، ويضيق علي ، فهربت منه إلى أخوالي ، وكانوا ينزلون بحران ، فأنزلوني في مشرعة على نهر ، فإني أشرف منها على نهر إذ طلعت سوداء معها قربة ، فنزلت إلى المشرعة ، فجلست ووضعت قربتها ، واندفعت تغني :



            إلى


            الله أشكو بخلها وسماحتي لها عسل مني وتبدل علقما     فردي مصاب القلب أنت قتلته
            ولا تتركيه هائم القلب مغرما

            قال : فاستفزني ما لا قوام لي به ، ورجوت أن ترده فلم تفعل ، وأخذت القربة ونهضت ، فنزلت أعدو خلفها ، وقلت : يا جارية . فوقفت ، فقلت لها : بأبي أنت وأمي ، ردي الصوت . قالت : ما أشغلني عنك . قلت : بماذا ؟ قالت : علي خراج كل يوم درهمين . فأعطيتها درهمين ، فوضعت القربة وجلست تغنيه حتى أخذته وانصرفت ، فلهوت يومي به ، وبت فأصبحت وما أذكر منه حرفا واحدا ، وإذا أنا بالسوداء قد طلعت ، ففعلت كفعلها الأول ، إلا أنها تغنت غير ذاك الصوت ، فنهضت وعدوت في أثرها وقلت : الصوت قد ذهب عني نغمته . فأبت أن تعيده إلا بدرهمين ، فأعطيتها ، فأعادته فذكرته ، فقلت : حسبك . فقالت : كأنك تكاثر فيه بأربعة دراهم ، كأني والله بك وقد أصبت فيه أربعة آلاف دينار .

            قال ابن جامع : فبينا أنا أغني الرشيد وبين يديه أكيسة أربعة ، وفي كل واحد ألف دينار ، قال : من أطربني فله كيس ، وعن لي والله الصوت . فغنيته ، فرمى إلي بكيس ، ثم قال لي : أعد . فأعدت ، فرمى إلي بكيس آخر ، ثم قال لي : أعد . فأعدت ، فرمى إلي بكيس ، فتبسمت فقال لي : مم تضحك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، لهذا الصوت حديث عجيب . فحدثته الحديث ، فضحك ورمى إلي بالكيس الرابع ، وقال : لا تكذب السوداء . ورجعت بأربعة آلاف دينار .

            وأخبرني بعض أهل الأدب قال : كان إسماعيل بن جامع قد تزوج بالحجاز جارية سوداء مولاة لقوم ، يقال لها مريم ، فلما صار من الرشيد بالموضع الذي صار به اشتاق إلى السوداء ، فقال يذكر الموضع الذي كان يألفها فيه ويجتمعان فيه :


            هل ليلة بقفا الصحصاح عائدة     من قبة ذات أشراح وأزرار
            تسمو مجامرها بالمندلي كما     تسمو بحباته أفراح أعصار
            المسك يبدو إلينا من غلائلها     والعنبر الورد تذكيه على النار
            ومريم بين أتراب منعمة     طورا وطورا تغنيني بأوتار

            فقال الرشيد : ويلك ! من مريمك هذه التي وصفتها صورة الحور العين ؟ قال :

            زوجتي . ثم وصفها كلاما أكثر مما وصفها شعرا ، فأرسل الرشيد من الحجاز حتى حملت ، فإذا هي سوداء طمطمانية ، ذات مشافر ، فقال له : ويلك ! هذه مريم التي ملأت الدنيا بذكرها ، عليك وعليها لعنة الله . فقال : يا سيدي ، إن عمر بن أبي ربيعة يقول :


            فتضاحكن وقد قلن لها     حسن في كل عين ما تود



            بكر بن النطاح ، أبو وائل الحنفي بكر بن النطاح ، أبو وائل الحنفي ، الشاعر .

            بصري سكن بغداد في زمن الرشيد ، وكان يعاشر أبا العتاهية وأصحابه . وكان أبو هفان يقول : أشعر أهل الغزل من المحدثين أربعة ، أولهم بكر بن النطاح .

            وعن النضر بن حديد قال : كنا في مجلس فيه أبو العتاهية ، والعباس بن الأحنف ، وبكر بن النطاح ، ومنصور النميري ، والعتابي ، فقالوا لمنصور : أنشدنا ، فأنشد مدائح الرشيد ، فقال أبو العتاهية لابن الأحنف - أعني العباس - : [طرفنا بملحك ] . فأنشد أبياته :


            تعلمت أسباب الرضا خوف عتبه     وعلمه حبي [له ] كيف يغضب
            ولي غير وجه قد عرفت مكانه     ولكن بلا قلب إلى أين أذهب ؟

            فقال أبو العتاهية : الجيوب من هذا الشعر على خطر ، ولا سيما إن سنح بين حلق ووتر ، فقال بكر : قد حضرني شيء في هذا ، فأنشد :


            أرانا معشر الشعراء قوما     بألسننا تنعمت القلوب
            إذا انبعثت قرائحنا أتينا     بألفاظ تشق لها الجيوب

            فقال العتابي :


            ولا سيما إذا ما هيجتها     بنان قد تجيب وتستجيب

            قال النضر : فما زلت معهم في سرور . وبلغ إسحاق الموصلي خبرنا فقال : اجتماع هؤلاء ظرف الدهر .

            قال المبرد : سمعت الحسن بن رجاء يقول : حضرت بكر بن النطاح ومعه جماعة من الشعراء ، وهم يتناشدون ، فلما فرغوا من طوالهم أنشدهم :


            ما ضرها لو كتبت بالرضا     فجف جفن العين أو أغمضا
            شفاعة مردودة عندها     في عاشق تندم لو قد قضى
            يا نفس صبرا واعلمي أن ما     نأمل منها مثل ما قد مضى
            لم تمهن الأجفان من قاتل     بلحظة إلا لأن أمرضا

            قال : فابتدروه يقبلون رأسه .

            ولما مات ابن النطاح رثاه أبو العتاهية فقال :


            مات ابن نطاح أبو وائل     بكر فأمسى الشعر قد بانا



            1049 - بهلول المجنون .

            كانت له كلمات حسان ، ولقي الرشيد في سنة ثمان وثمانين وهو يريد الحج ، فوعظه موعظة بليغة . وقد ذكرناها هناك . وكان بهلول يأوي المقابر .

            عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود ، أبو محمد الأودي ، الكوفي عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن بن الأسود ، أبو محمد الأودي ، الكوفي .

            ولد سنة خمس عشرة ومائة . وقيل : سنة عشرين . والأول أصح .

            سمع الأعمش ، وأبا إسحاق الشيباني ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، وشعبة ، وسفيان الثوري . وروي عنه : ابن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى ، وغيرهم .

            وأقدمه الرشيد إلى بغداد ليوليه قضاء الكوفة ، فامتنع وعاد إلى الكوفة ، وأقام بها إلى أن مات في هذه السنة . وكان ثقة عالما زاهدا ورعا ، وكان أحمد بن حنبل يقول فيه : نسيج وحده .

            وعن حماد بن المؤمل الكلبي قال : حدثني شيخ على باب بعض المحدثين قال : سألت وكيعا عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على الرشيد فقال لي : ما سألني عن هذا أحد قبلك ، قدمنا على هارون فأقعدنا بين السريرين فكان أول من دعا به أنا ، فقال :

            أهل بلدك طلبوا مني قاضيا ، وسموك لي فيمن سموا ، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي ، وصالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة ، فخذ عهدك أيها الرجل وامض . فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنا شيخ كبير ، وإحدى عيني ذاهبة ، والأخرى ضعيفة . فقال هارون : اللهم غفرا خذ عهدك أيها الرجل وامض . فقلت : يا أمير المؤمنين ، والله إن كنت صادقا إنه لينبغي أن تقبل مني ، ولئن كنت كاذبا فما ينبغي أن تولي القضاء كذابا . فقال :

            اخرج . فخرجت ، ودخل ابن إدريس ، وكان هارون قد وسم له من ابن إدريس وسم - يعني خشونة جانبه - فدخل ، فسمعنا صوت ركبتيه على الأرض حين برك ، وما سمعناه يسلم إلا سلاما خفيا ، فقال له هارون : أتدري لم دعوتك ؟ فقال له : لا . قال :

            إن أهل بلدك طلبوا مني قاضيا ، وإنهم سموك لي فيمن سموا ، وقد رأيت أن أشركك في أمانتي ، وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة ، فخذ عهدك وامض . فقال له ابن إدريس : ليس أصلح للقضاء . فنكت هارون بإصبعه وقال له : وددت أني لم أكن رأيتك . قال له ابن إدريس : وأنا وددت أني لم أكن رأيتك . فخرج ، ثم دخل حفص بن غياث . فقال له كما قال لنا . فقبل عهده وخرج . فأتانا خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف . فقال : إن أمير المؤمنين يقرئكم السلام ويقول لكم قد لزمتكم في شخوصكم مئونة فاستعينوا بهذه في سفركم . قال وكيع : فقلت له : أقرئ أمير المؤمنين السلام ، وقل له قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين ، وأنا عنها مستغن وفي رعية أمير المؤمنين من هو أحوج إليها مني ، فإن رأى أمير المؤمنين بصرفها إلى من أحب .

            وأما ابن إدريس فصاح به : مر من هنا . وقبلها حفص ، وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا : عافانا الله وإياك ، سألناك أن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ، ووصلناك من أموالنا فلم تقبل ، فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله . فقال للرسول : إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله . ثم مضينا ، فلما صرنا إلى الياسرية حضرت الصلاة ، فنزلنا نتوضأ للصلاة . قال وكيع : فنظرت إلى شرطي محموم نائم في الشمس ، عليه سواده ، فطرحت كسائي عليه وقلت : تدفأ إلى أن نتوضأ . فجاء ابن إدريس فاستلبه [ثم قال لي : رحمته ] لا رحمك الله ، في الدنيا أحد يرحم مثل ذا ؟ ثم التفت إلى حفص فقال له : يا حفص ، [قد ] علمت حين دخلت إلى سوق أسد ، فخضبت لحيتك ، ودخلت الحمام ، أنك ستلي القضاء ، لا والله لا كلمتك حتى تموت . قال : فما كلمه حتى مات .

            وعن موسى بن عبد الرحمن بن مسروق الكندي ، قال ابن المنذر - وكان جارا لعبد الله بن إدريس - قال : حج الرشيد ومعه الأمين والمأمون ، فدخل الكوفة ، فقال لأبي يوسف : قل للمحدثين يأتونا فيحدثونا . فلم يتخلف عنه من شيوخ أهل الكوفة إلا اثنان : عبد الله بن إدريس ، وعيسى بن يونس ، فركب الأمين والمأمون إلى عبد الله بن إدريس فحدثهما بمائة حديث ، فقال المأمون لعبد الله : يا عم ، أتأذن لي أن أعيدها عليك من حفظي ؟ قال : افعل . فأعادها كما سمعها ، وكان ابن إدريس من أهل الحفظ يقول : لولا أني أخشى أن ينفلت مني القرآن لدونت العلم . فعجب عبد الله من حفظ المأمون . وقال المأمون : يا عم ، إلى جانب مسجدك دار ، إن أردت اشتريناها ووسعنا بها المسجد . فقال : ما لي إلى هذا حاجة ، قد أجزى من كان قبلي وهو يجزيني . فنظر إلى قرح في ذراع الشيخ ، فقال : إن معنا أطباء وأدوية ، أتأذن لي أن أجيئك بمن يعالجك ؟ قال : لا ، قد ظهر بي مثل هذا وبرأ . فأمر له بمال فأبى أن يقبله .

            وصار إلى عيسى بن يونس فحدثه ، فأمر له المأمون بعشرة آلاف درهم ، فأبى أن يقبلها ، فظن أنه استقلها ، فأمر له بعشرين ألفا ، فقال عيسى : والله ولا إهليلجة ، ولا شربة ماء على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو ملأت لي هذا المسجد ذهبا إلى السقف .

            فانصرفا من عنده .

            وعن حسين بن عمرو المنقري قال : لما نزل بابن إدريس الموت بكت ابنته ، فقال : لا تبكي ، فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة .

            توفي ابن إدريس في هذه السنة .

            علي بن ظبيان ، أبو الحسن العبسي ، الكوفي علي بن ظبيان ، أبو الحسن العبسي ، الكوفي .

            تقلد قضاء الشرقية ، ثم ولي قضاء القضاة في أيام الرشيد . وكان يجلس في المسجد الذي ينسب إلى الخلد فيقضي فيه . وحدث عن عبيد الله بن عمر العمري ، وإسماعيل بن أبي خالد ، وعبد الملك بن أبي سليمان . روى عنه : داود بن رشيد . وقد ضعفه بعض أصحاب الحديث . وقال بعضهم : لا بأس به .

            وعن عبيد بن ثابت قال : كتبت إلى علي بن ظبيان وهو قاضي بغداد : بلغني أنك تجلس على بارية ، وقد كان من قبلك من القضاة يجلسون على الوطاء ، ويتكئون . فكتب إلي : إني لا أستجيز أن يجلس بين يدي رجلان حران مسلمان على بارية وأنا على وطاء ، لست أجلس إلا على ما يجلس عليه الخصوم .

            قال طلحة : علي بن ظبيان رجل جليل ، متواضع ، دين ، حسن العلم بالفقه ، من أصحاب أبي حنيفة ، وكان حسنا في باب الحكم ، تقلد قضاء الشرقية ، ثم تقلد قضاء القضاة ، ولاه الرشيد ، وكان يخرجه معه إذا خرج إلى المواضع . فتوفي بقرميسين سنة اثنتين وتسعين ومائة .

            العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة ، أبو الفضل الشاعر العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة ، أبو الفضل الشاعر .

            كان من عرب خراسان ومنشأة بغداد ، وكان طريفا مقبولا حسن الشعر .

            عن محمد بن يحيى قال : سمعت عبد الله بن المعتز يقول : لو قيل لي : ما أحسن شعر تعرفه لقلت شعر العباس بن الأحنف :


            قد سحب الناس أذيال الظنون بنا     وفرق الناس فيها قولهم فرقا
            فكاذب قد رمى بالظن غيركم     وصادق ليس يدري أنه صدقا

            وعن عبد الله بن الربيع قال : قال هارون الرشيد في الليل بيتا وأراد أن يشفعه بآخر فامتنع القول عليه ، فقال : علي بالعباس بن الأحنف ، فلما طرق ذعر وفزع أهله ، فلما وقف بين يدي الرشيد قال : وجهت إليك لبيت قلته ، ورمت أن أشفعه بمثله فامتنع القول علي . فقال : يا أمير المؤمنين ، دعني حتى ترجع إلي نفسي ، فإني تركت عيالي على حال من القلق عظيمة ، ونالني من الخوف ما يتجاوز الحد والوصف . فانتظر هنية ، ثم أنشده :


            جنان قد رأيناها     ولم نر مثلها بشرا

            فقال العباس :


            يزيدك وجهها حسنا     إذا ما زدته نظرا

            فقال له الرشيد : زدني .

            فقال العباس :


            إذا ما الليل مال عليك     بالظلماء واعتكرا
            ودج فلم تر قمرا     فأبرزها ترى القمرا

            فقال له الرشيد : قد ذعرناك وأفزعنا عيالك ، وأقل الواجب أن نعطيك دينك فأمر له بعشرة آلاف درهم ، وصرفه .

            وعن أحمد بن عبيد قال : سمعت الأصمعي يقول :

            بينا أنا قاعد يوما في مجلس بالبصرة ، فإذا أنا بغلام أحسن الناس وجها وثوبا ، واقف على رأسي ، فقال : إن مولاي يريد أن يوصي إليك ، فأخذ بيدي حتى أخرجني إلى الصحراء ، فإذا بالعباس بن الأحنف ملقى على فراشه ، وإذا هو يجود بنفسه وهو يقول :


            يا بعيد الدار عن وطنه     مفردا يبكي على شجنه
            كلما جد النجيب به     زادت الأسقام في بدنه



            ثم أغمي عليه ، فانتبه بصوت طائر على شجرة ، وهو يقول :


            ولقد زاد الفؤاد شجى     هاتف يبكي على فننه
            شاقه ما شاقني فبكى     كلنا يبكي على سكنه

            ثم أغمي عليه ، وظنناها مثل الأولى ، فحركته فإذا هو ميت .

            توفي العباس بن الأحنف في قول إبراهيم بن العباس الصولي في هذه السنة .

            وقال عمر بن شبة : توفي سنة ثمان وثمانين . وقال غيره : بقي بعد الرشيد .

            عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور .

            كان من وجوه بني هاشم وسراتهم ، وولي إمارة البصرة ، وخرج من بغداد يقصد الرشيد ، وهو إذ ذاك بخراسان ، فأدركه أجله بالدسكرة من طريق حلوان ، فتوفي في هذه السنة .

            الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي .

            أخو جعفر ، ولد بالمدينة سنة سبع وأربعين ومائة ، وأمه زبيدة بنت منين بربرية ، فأرضعته الخيزران ، وأرضعت زبيدة أمه الرشيد أياما ، فصارا رضيعين ، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يمدحه :


            كفى لك فضلا أن أفضل حرة     غذتك بثدي والخليفة واحد
            لقد زنت يحيى في المشاهد كلها     كما زان يحيى خالدا في المشاهد

            قال ابن الجوزي رحمه الله : كان الفضل أجود من أخيه جعفر ، وأندى راحة ، إلا أنه كان فيه كبر شديد ، وكان جعفر أطلق وجها ، وأظهر بشرا ، وكان الناس يؤثرون لقاء جعفر على لقاء الفضل .

            وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم ، فعاتبه أخوه في هذا ، فقال : إن هذا صحبني وأنا لا أملك شيئا ، واجتهد في نصحي ، وقد قال الشاعر :


            إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا     من كان عاونهم في المنزل الخشن

            ووهب لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار ، فبكى الأديب ، فقال : أتبكي استقلالا لها ؟ قال : لا والله ، ولكن أسفا ، كيف تواري الأرض مثلك .

            وولى الرشيد الفضل أعمالا جليلة . بخراسان وغيرها ، فلما غضب على البرامكة وقتل جعفرا خلد الفضل في الحبس مع أبيه يحيى ، فلم يزالا محبوسين حتى ماتا في حبسهما .

            مات يحيى سنة تسعين ، ومات الفضل سنة اثنتين وتسعين ، قبل موت الرشيد بشهور . وقيل : سنة ثلاث .

            وعن علي بن الجهم ، عن أبيه قال : لما أصبحت ذات يوم وأنا في غاية الضيقة ، ما أهتدي إلى دينار ولا درهم ، ولا أملك إلا دابة أعجف ، وخادما خلعا ، فطلبت الخادم فلم أجده ، ثم جاء فقلت : أين كنت ؟ فقال : كنت في احتيال شيء لك ، وعلف لدابتك ، فو الله ما قدرت عليه . فقلت : أسرج لي دابتي . فأسرجه ، فركبت ، فلما صرت في سوق يحيى إذا أنا بموكب عظيم ، وإذا الفضل بن يحيى ، فلما بصرني قال : سر . فسرنا قليلا ، وحجز بيني وبينه غلام يحمل طبقا على باب ، يصيح بجارية ، فوقف الفضل طويلا ، ثم قال : سر . ثم قال : أتدري ما سبب وقفتي ؟ قلت : إن رأيت أن تعلمني . قال : كانت لأختي جارية ، وكنت أحبها حبا شديدا ، واستحيت من أختي أن أطلبها منها ، ففطنت أختي لذلك ، فلما كان في هذا اليوم لبستها وزينتها ، وبعثت بها



            إلي ، فما كان في عمري يوم أطيب من يومي هذا ، فلما كان في هذا الوقت جاءني رسول أمير المؤمنين فأزعجني ، وقطع علي لذتي ، فلما صرت إلى هذا المكان دعا هذا الغلام صاحب الطبق باسم تلك الجارية ، فارتحت لندائه ، ووقفت فقلت : أصابك ما أصاب أخا بني عامر حيث يقول :


            وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى     فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
            دعا باسم ليلى غيرها فكأنما     أطار بليلى طائرا كان في صدري

            فقال : اكتب لي هذين البيتين . فعدلت لأطلب ورقة أكتب له هذين البيتين فيها فلم أجد ، فرهنت خاتمي عند بقال ، وأخذت ورقة ، وكتبتهما فيها ، وأدركته بها ، فقال لي : ارجع إلى منزلك . فرجعت ، ونزلت ، فقال لي الخادم : أعطني خاتمك أرهنه .

            فقلت : رهنته . فما أمسيت حتى بعث إلي بثلاثين ألف درهم جائزة ، وعشرة آلاف درهم سلفا لسنة من رزق أجراه لي .

            وعن عبد الله بن الحسين العلوي قال : أتيت الفضل بن يحيى فأجلسني معه وأكرمني ، فكلمته في ديني ليكلم أمير المؤمنين في قضائه عني . قال : فكم دينك ؟ قلت : ثلاثمائة ألف درهم . قال : نعم .

            فخرجت من عنده وأنا مغمور لضعف رده ، فمررت ببعض إخواني مستريحا إليه ، ثم صرت إلى منزلي ، فوجدت المال قد سبقني .

            محمد بن أبي أمية بن عمرو ، مولى بني أمية بن عبد شمس محمد بن أبي أمية بن عمرو ، مولى بني أمية بن عبد شمس .

            أصله من البصرة ، وله إخوة وأقارب كلهم شعراء ، وقد اختلطت أشعارهم ، واختلفت الروايات في أنسابهم ، إلا أن محمد بن أمية أشهرهم ذكرا ، وأكثرهم شعرا ، والباقون أشعارهم نزرة جدا . ومحمد بن أمية شاعر منهم ، اختلط شعره بشعر عمه ، فلم يفرق أكثر الناس بينهما .

            وعن عون بن محمد الكندي قال : قال لي محمد بن أبي أمية الكاتب : كنت أنا وأخي نكتب للعباس بن الفضل بن الربيع فجاءه أبو العتاهية مسلما ، فأمره بالمقام عنده ، فقال : على شريطة ينشدني كاتبك هذا من شعره - وأومأ إلي - فقال : ذلك لك . وتغدينا ، فقال :

            الشرط . فأمرني أن أنشده ، فحضرت وقلت : ما أجسر على ذلك ، وما ذاك قدرتي .

            فقال : إن أنشدني وإلا قمت . فأنشدته :


            رب قول منك لا أنساه لي     واجب الشكر وإن لم يفعل
            أقطع الدهر بظن حسن     وأجلي غمرة ما تنجلي
            وأرى الأيام لا تدني الذي     أرتجي منك وتدني أجلي
            وإذا أملت يوما صالحا     عرض المقدور لي في أملي

            فبكى أبو العتاهية أشد بكاء ، ثم قال لي : زدني . فقال لي : زده . فأنشدته :


            بنفسي من يناجيني     ضميري بأمانيه
            ومن يعرض عن ذكري     كأني لست أعنيه
            لقد أسرفت في الذل     كما أسرفت في التيه
            أما تعرف لي إحسان     يوم فتجازيه



            منصور بن سلمة بن الزبرقان منصور بن سلمة بن الزبرقان . وقيل : منصور بن الزبرقان بن سلمة ، أبو الفضل ، النميري الشاعر .

            من أهل الجزيرة . قدم بغداد ، ومدح الرشيد .

            وجد منصور يقال له : مطعم الكبش الرخم ، لأنه أطعم ناسا نزلوا به ، ونحر لهم ، ثم رفع رأسه فإذا هو برخم تحملق حول أضيافه ، فأمر أن يذبح لهن كبش ويرمى به بين [أيديهن ] ففعل ذلك ، فنزلن عليه ، فمزقنه ، فسمي : مطعم الكبش الرخم .

            وفي ذلك يقول أبو بعجة النميري يمدح رجلا منهم :


            أبوك زعيم بني قاسط     وخالك ذو الكبش يقري الرخم

            وكان منصور شاعرا من شعراء الدولة العباسية ، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وراويته ، وعنه أخذ . ووصفه العتابي للفضل بن يحيى حتى استصحبه ، ثم وصله بالرشيد ، ثم جرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة فتهاجيا .

            وعن أبو الفرج الأصفهاني قال : حدثني عمي ، عن جدي قال : قال النميري : كنت واقفا على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام بن عمرو التغلبي وقد وخطني الشيب يومئذ ، وعبيد الله شاب حدث السن ، [فإذا أنا بقصرية ظريفة ] وقد وقفت ، فجعلت أنظر إليها وهي تنظر إلى عبيد الله بن هشام ، ثم انصرفت ، فقلت فيها :


            لما رأيت سوام الشيب منتشرا     في لمتي وعبيد الله لم يشب
            سللت سهمين من عينيك فانتصلا     على شبيبة ذي الأذيال والطرب
            كذا الغواني مراميهن قاصدة     إلى الفروع معداة عن الخشب

            شبه الشباب بالفرع الأخضر ، والشيخ بالخشبة التي قد يبست ، أو ساق الشجرة الذي لا ورق له .

            ثم أتم القصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد ، فأعطاه عشرة آلاف درهم .

            يوسف بن يعقوب بن إبراهيم ، القاضي يوسف بن يعقوب بن إبراهيم ، القاضي .

            سمع الحديث من يونس بن إسحاق السبيعي ، والسري بن يحيى ، ونظر في الرأي وفقه ، وولي القضاء بالجانب الغربي من بغداد في حياة أبيه ، وصلى بالناس الجمعة في مدينة المنصور بأمر الرشيد ، ولم يزل على القضاء ببغداد إلى أن توفي في رجب من هذه السنة . وممن توفي فيها من الأعيان :

            صعصعة بن سلام صعصعة بن سلام ويقال : ابن عبد الله أبو عبد الله الدمشقي ، ثم تحول إلى الأندلس فاستوطنها في زمن عبد الرحمن بن معاوية وابنه هشام ، وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الأوزاعي إلى الأندلس ، وولي الصلاة بقرطبة ، وفي أيامه غرست الأشجار بالمسجد الجامع هناك ، كما يراه الأوزاعي والشاميون ، ويكرهه مالك وأصحابه .

            وقد روى عن مالك والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز .

            وروى عنه جماعة ؛ منهم عبد الملك بن حبيب الفقيه ، وذكره في كتاب " الفقهاء " وذكره ابن يونس في تاريخه " " تاريخ مصر " " والحميدي في " " تاريخ الأندلس " " وحرر وفاته في هذه السنة أعني سنة ثنتين وتسعين ومائة .

            وحكى عن شيخه ابن حزم أن صعصعة هذا أول من أدخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس .

            وقال ابن يونس هو أول من أدخل علم الحديث إليها . وذكر أنه توفي قريبا من سنة ثمانين ومائة ، والذي حرره الحميدي في هذه السنة أثبت .

            وفي هذه السنة توفي يوسف بن أبي يوسف القاضي .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية