الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا لقمان الحكمة كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل.

                                                                                                                                                                                                                                      ولقمان اسم أعجمي لا عربي مشتق من اللقم، وهو على ما قيل: ابن باعوراء قال وهب: وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام، وقال مقاتل : كان ابن خالته، وقال عبد الرحمن السهيلي: هو ابن عنقا بن سرون، وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة، وأدرك داود عليه السلام، وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعثه، فلما بعث قطع الفتوى، فقيل له فقال: ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل: كان قاضيا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين محمد، وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة، والشعبي [ ص: 83 ] كان نبيا، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام، ولم يكن نبيا. واختلف فيه، أكان حرا أو عبدا؟ والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل:

                                                                                                                                                                                                                                      كان حبشيا، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ذلك ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعا، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين، وقيل: كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس، وابن المسيب، ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله: ما انتهى إليكم من شأن لقمان ؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة، وأخرج هو، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن المسيب أنه قال: إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة، ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال، فقال خالد بن الربيع: كان نجارا بالراء، وفي معاني الزجاج : كان نجادا بالدال، وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد، وابن المنذر ، عن ابن المسيب أنه كان خياطا، وهو أعم من النجاد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا، وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة، ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار، وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار، غير أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما، ولم يكن نبيا.

                                                                                                                                                                                                                                      ( والحكمة ) على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : أنها العقل، والفقه، والإصابة في القول، وقال الراغب: هي معرفة الموجودات، وفعل الخيرات، وقال الإمام: هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم، ثم قال: وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول: حصول العمل على وفق المعلوم، وقال أبو حيان : هي المنطق الذي يتعظ به، ويتنبه، ويتناقله الناس لذلك، وقيل: إتقان الشيء علما وعملا، وقيل: كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها، وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر، وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم، ومن حكمته قوله لابنه: أي بني، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها ناس كثير، فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى، لعلك أن تنجو، ولا أراك ناجيا، وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية، وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع، وقوله: يا بني إياك والدين، فإنه ذل النهار، وهم الليل، وقوله يا بني ارج الله عز وجل رجاء لا يجريك على معصيته تعالى، وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه، وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه، ومن ساء خلقه كثر غمه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا، فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك، يا بني إياك والكذب، فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعا على شبع، فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكن حلوا فتبلع، ولا مرا فتلفظ، وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلا الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء، وقوله: لا خير في أن تتعلم [ ص: 84 ] ما لم تعلم، ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها، فضم إليها أخرى، وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه، وإلا فاحذره، وقوله: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء، وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك، ولا بد لك منه، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس، ولا يكسب ذمهم، فنفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.

                                                                                                                                                                                                                                      إلى غير ذلك مما لا يحصى، أن اشكر لله أي أي اشكر، على أن ( أن ) تفسيرية، وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة، وفيه معنى القول دون حروفه، سواء كان بإلهام، أو وحي، أو تعليم.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر، وجعل الزجاج ( أن ) مصدرية بتقدير اللام التعليلية، ولا يفوت معنى الأمر كما مر تحقيقه.

                                                                                                                                                                                                                                      وحكى سيبويه : كتبت إليه بأن قم، والجار متعلق (بآياتنا)، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير، على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة، وهو بعيد، ومن يشكر إلخ، استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فإنما يشكر لنفسه لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها، ومن كفر فإن الله غني عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حميد حقيق بالحمد، وإن لم يحمده أحد، أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد رأس الشكر، لم يشكر الله تعالى عبد لم يحمده»

                                                                                                                                                                                                                                      فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل: إشارة إلى قبح الكفران، وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان، وقيل: إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر، وقليل من عبادي الشكور [سبأ: 13]، وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى: ( فإن الله ) إلخ، وكان الأصل: ومن كفر فإنما يكفر على نفسه، لأن الله غني حميد، وحاصله، ومن كفر فضرر كفره عائد عليه، لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر، محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال، فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني، وجوز أن يكون ( غني ) تعليلا لقوله سبحانه: ( فإنما يشكر لنفسه ) وقوله عز وجل: حميد تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله، وهو: فإنما يكفر على نفسه، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه، ولم تقم عليه قرينة فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية