الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين، وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية، وتعليم المعاملة مع أصناف الناس، وقدم الأمر بما يتعلق بحقوق الله تعالى؛ لأنها المدار الأعظم، وفي ذلك إيماء - أيضا - إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك، والعبادة أقصى غاية الخضوع و(شيئا) إما مفعول به، أي: لا تشركوا به شيئا من الأشياء، صنما كان أو غيره، فالتنوين للتعميم.

                                                                                                                                                                                                                                      واختار عصام الدين كونه للتحقير؛ ليكون فيه توبيخ عظيم، أي: لا تشركوا به شيئا حقيرا، مع عدم تناهي كبريائه، إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير، ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود، إذ المعدوم إمكان الموجود، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان، أي تفرق، وإما مصدر، أي: لا تشركوا به عز شأنه، من الإشراك جليا أو خفيا، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة، مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير، إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع، أو للتوبيخ بغاية الجهل، حيث لا يدركون هذا اللزوم، كذا قيل، ولعل الأوضح أن يقال: إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص، فكأنه قيل: (واعبدوا الله مخلصين له) ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح، ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه، فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام.

                                                                                                                                                                                                                                      وبالوالدين إحسانا أي: وأحسنوا بهما إحسانا، فالجار متعلق بالفعل المقدر، وجوز تعلقه بالمصدر، وقدم للاهتمام، و(أحسن) يتعدى بالباء، وإلى، واللام، وقيل: إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف.

                                                                                                                                                                                                                                      والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما، ولا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما، بقدر القدرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما.

                                                                                                                                                                                                                                      وبذي القربى أي: بصاحب القرابة من أخ، وعم، وخال، وأولاد كل، ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة، قال في البحر: لأن هذا توصية لهذه الأمة، فاعتني به وأكد، وذلك في بني إسرائيل.

                                                                                                                                                                                                                                      واليتامى والمساكين من الأجانب والجار ذي القربى أي: الذي قرب جواره والجار الجنب أي البعيد، من الجنابة ضد القرابة، وهي على هذا مكانية، ويحتمل أن يراد بـ(الجار ذي القربى) من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين، وبـ(الجار الجنب) الذي لا قرابة له ولو مشركا.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد الله - وفيه ضعف - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم-: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب».

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البخاري في الأدب، عن عبد الله بن عمر، أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه: «أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أن سيورثه».

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 29 ] والظاهر أن مبنى الجوار على العرف، وعن الحسن - كما في الأدب - أنه سئل عن الجار فقال: أربعين دارا أمامه، وأربعين خلفه، وأربعين عن يمينه، وأربعين عن يساره، وروي مثله عن الزهري، وقيل: أربعين ذراعا، ويبدأ بالأقرب فالأقرب؛ فعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قلت: «يا رسول الله، إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا» وقرئ: (والجار ذا القربى) بالنصب، أي وأخص الجار، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي، أن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وفيما سمعه عبد الله كفاية، وأخرجه الشيخان، وأحمد، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

                                                                                                                                                                                                                                      والصاحب بالجنب وهو الرفيق في السفر، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وكلا القولين عن ابن عباس، وقيل: الرفيق في أمر حسن، كتعلم، وتصرف، وصناعة، وسفر، وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس، وغير ذلك، من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، عن علي - كرم الله تعالى وجهه -: «الصاحب بالجنب المرأة» والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب، والعامل فيه الفعل المقدر وابن السبيل وهو المسافر أو الضيف.

                                                                                                                                                                                                                                      وما ملكت أيمانكم قال مقاتل: من عبيدكم وإمائكم، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد أخرج أحمد، والبيهقي، عن أنس قال: كان عامة وصية رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حين حضره الموت: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» حتى جعل يغرغرها في صدره، وما يفيض بها لسانه، ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب، حسبما يليق بكل وينبغي.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الله لا يحب من كان مختالا أي: ذا خيلاء وكبر، يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا، ولا يلتفت إليهم فخورا يعد مناقبه عليهم؛ تطاولا وتعاظما، والجملة تعليل للأمر السابق.

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج الطبراني، وابن مردويه، عن ثابت بن قيس بن شماس قال: كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فقرأ هذه الآية: «(إن الله) إلخ، فذكر الكبر وعظمه، فبكى ثابت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله، إني لأحب الجمال، حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي، قال: فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس» والأخبار في هذا الباب كثيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية