الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا

                                                                                                                                                                                                                                        واهجرهم هجرا جميلا فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : اصفح عنهم وقل سلام ، قاله ابن جريج .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن يعرض عن سفههم ويريهم صغر عداوتهم .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه الهجر الخالي من ذم وإساءة . وهذا الهجر الجميل قبل الإذن في السيف . وذرني والمكذبين أولي النعمة قال يحيى بن سلام : بلغني أنهم بنو المغيرة ، وقال سعيد بن جبير : أخبرت أنهم اثنا عشر رجلا من قريش . ويحتمل قوله تعالى : أولي النعمة ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أنه قال تعريفا لهم إن المبالغين في التكذيب هم أولو النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنه قال ذلك تعليلا ، أي الذين أطغى هم أولو النعمة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنه قال توبيخا أنهم كذبوا ولم يشكروا من أولاهم النعمة . ومهلهم قليلا قال ابن جريج : إلى السيف .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 130 ]

                                                                                                                                                                                                                                        إن لدينا أنكالا وجحيما في (أنكالا) ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : أغلالا ، قاله الكلبي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنها القيود ، قاله الأخفش وقطرب ، قالت الخنساء


                                                                                                                                                                                                                                        دعاك فقطعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع .



                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أنها أنواع العذاب الشديد ، قاله مقاتل ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إن الله تعالى يحب النكل على النكل ، قيل : وما النكل؟ قال : الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب ومن ذلك سمي القيد نكلا لقوته ، وكذلك الغل ، وكل عذاب قوي واشتد) . وطعاما ذا غصة فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أنه شوك يأخذ الحلق فلا يدخل ويخرج ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنها شجرة الزقوم ، قاله مجاهد . وكانت الجبال كثيبا مهيلا فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : رملا سائلا ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن المهيل الذي إذا وطئه القدم زل من تحتها وإذا أخذت أسفله انهال أعلاه ، قاله الضحاك والكلبي . فأخذناه أخذا وبيلا فيه أربعة تأويلات :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : شديدا ، قاله ابن عباس ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : متتابعا ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : ثقيلا غليظا ، ومنه قيل للمطر العظيم وابل ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : مهلكا ، ومنه قول الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        أكلت بنيك أكل الضب حتى     وجدت مرارة [الكلإ الوبيل] .



                                                                                                                                                                                                                                        فكيف تتقون يعني يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 131 ]

                                                                                                                                                                                                                                        إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا الشيب : جمع أشيب ، والأشيب والأشمط الذي اختلط سواد شعره ببياضه ، وهو الحين الذي يقلع فيه ذو التصابي عن لهوه ، قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                                                        طربت وما بك ما يطرب     وهل يلعب الرجل الأشيب



                                                                                                                                                                                                                                        وإنما شاب الولدان في يوم القيامة من هوله . السماء منفطر به فيه أربعة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : ممتلئة به ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : مثقلة ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : مخزونة به ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : منشقة من عظمته وشدته ، قاله ابن زيد . كان وعده مفعولا فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : وعده بأن السماء منفطر به ، وكون الجبال كثيبا مهيلا ، وأن يجعل الولدان شيبا ، قاله يحيى بن سلام .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : وعده بأن يظهر دينه على الدين كله ، قاله مقاتل .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : وعده بما بشر وأنذر من ثوابه وعقابه . وفي المعنى المكنى عنه في قوله (به) وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن السماء منفطرة باليوم الذي يجعل الولدان شيبا ، فيكون اليوم قد جعل الولدان شيبا ، وجعل السماء منفطرة ويكون انفطارها للفناء .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : معناه أن السماء منفطرة بما ينزل منها بأن يوم القيامة يجعل الولدان شيبا ، ويكون انفطارها بانفتاحها لنزول هذا القضاء منها .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 132 ]

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية