الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 668 ] قوله عز وجل:

ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما

قوله تعالى: ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم معناه: فازدادوا وتلقوا ذلك، فتمكن - بعد ذلك قوله تعالى: ليدخل المؤمنين أي بتكسبهم القبول لما أنزل الله تعالى عليهم، ويروى في معنى هذه الآية أنه لما نزلت: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم تكلم فيها أهل الكتاب، وقالوا: كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به وبالناس معه، فبين الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فلما سمعها المؤمنون قالوا: هنيئا مريئا، هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ فنزلت هذه الآية: ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات إلى قوله: وساءت مصيرا ، فعرفه الله تعالى ما يفعل به وبالمؤمنين والكافرين، وذكر النقاش أن رجلا من عك قال: هذه لك يا رسول الله، فما لنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي لي ولأمتي كهاتين"، وجمع بين أصبعيه.

وقوله تعالى: ويكفر عنهم سيئاتهم فيه ترتيب الجمل في السرد لا ترتيب وقوع معانيها; لأن تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة.

[ ص: 669 ] وقوله تعالى: الظانين بالله ظن السوء قيل معناه: من قولهم: لن ينقلب الرسول الآية، فكأنهم ظنوا بالله ظن السوء في جهة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقيل: ظنوا بالله تعالى ظن سوء، إذ هم يعتقدونه بغير صفاته، فهي ظنون سوء من حيث هي كاذبة مؤدية إلى عذابهم في نار جهنم.

وقوله تعالى: عليهم دائرة السوء كأنه يقوي التأويل الآخر، أي: أصابهم ما أرادوه بكم. وقرأ جمهور القراء: "عليهم دائرة السوء" كالأول، ورجحها الفراء وقال: قل ما تضم العرب السين، قال أبو علي : هما متقاربان، والفتح أشد مطابقة في اللفظ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : "ظن السوء" بفتح السين، و"عليهم دائرة السوء" بضم السين، وهو اسم، أي: دائرة السوء الذي أرادوه بكم في ظنهم السوء، وقرأ الحسن بضم السين في الموضعين، وروي ذلك عن أبي عمرو ومجاهد ، وسمى تعالى المصيبة التي دعا بها عليهم دائرة من حيث يقال في الزمان: إنه يستدير، ألا ترى أن السنة والشهر كأنها مستديرات، تذهب على ترتيب وتجيء من حيث هي تقديرات للحركة العظمى، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض"، فيقال الأقدار والحوادث التي هي في طي الزمان: دائرة، لأنها تدور بدوران الزمان، كأنك تقول: إن أمرا كذا يكون في يوم كذا من سنة كذا، فمن حيث يدور ذلك اليوم حتى يبرز إلى الوجود تدور هي أيضا فيه، [ ص: 670 ] ومن هذا قول الشاعر:


ودائرات الدهر قد تدورا



ومنه قول الآخر:


ويعلم أن النائبات تدور



وهذا كثير، ويحسن أن تسمى المصيبة دائرة من حيث كمالها أن تحيط بصاحبها كما يحيط شكل الدائرة على السواء من النقطة، وقد أشار النقاش إلى هذا المعنى.

و"غضب الله تعالى" متى قصد به الإرادة فهو صفة ذات، ومتى قصد به ما يظهر من الأفعال على المغضوب عليه فهي صفة فعل. و"لعنهم": أبعدهم، وقال تعالى في هذه: عزيزا حكيما فذكر صفة العزة من حيث تقدم الانتقام من الكفار، وفي التي قبل قرن بالحكمة والعلم من حيث وعده بمغيبات، وقرن باللفظتين ذكر جنود الله تعالى التي منها السكينة ومنها نقمة من المنافقين والمشركين، فلكل لفظ وجه من المعنى، وقال ابن المبارك في كتاب النقاش : جنود الله في السماء الملائكة، وفي الأرض الغزاة في سبيل الله تعالى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذا بعض من كل.

التالي السابق


الخدمات العلمية