الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب

قال ابن عباس رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في السلم خاصة، معناه أن سلم أهل المدينة كان بسبب هذه الآية، ثم هي تتناول جميع المداينات إجماعا.

وبين تعالى بقوله: "بدين" ما في قوله: "تداينتم" من الاشتراك، إذ قد يقال في كلام [ ص: 111 ] العرب: تداينوا بمعنى: جازى بعضهم بعضا.

ووصفه الأجل بـ "مسمى" دليل على أن الجهالة لا تجوز، فكأن الآية رفضتها، وإذا لم تكن تسمية وحد فليس هناك أجل - وذهب بعض الناس إلى أن كتب الديون واجب على أربابها فرض بهذه الآية، وذهب الربيع إلى أن ذلك وجب بهذه الألفاظ، ثم خففه الله تعالى بقوله: فإن أمن بعضكم بعضا ، وقال الشعبي: كانوا يرون أن قوله: فإن أمن ناسخ لأمره بالكتب، وحكى نحوه ابن جريج، وقاله ابن زيد، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال جمهور العلماء: الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب، وإذا كان الغريم تقيا فما يضره الكتاب، وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه، وحاجة صاحب الحق، وقال بعضهم: إن أشهدت فحزم، وإن ائتمنت ففي حل وسعة، وهذا هو القول الصحيح، ولا يترتب نسخ في هذا لأن الله تعالى ندب إلى الكتب فيما للمرء أن يهبه ويتركه بإجماع، فندبه إنما هو على جهة الحيطة للناس.

ثم أخبر تعالى أنه سيقع الائتمان فقال: إن وقع ذلك فليؤد - الآية، فهذه وصية للذين عليهم الديون، ولم يجزم تعالى الأمر نصا بألا يكتب إذا وقع الائتمان.

وأما الطبري رحمه الله فذهب إلى أن الأمر بالكتب فرض واجب، وطول في الاحتجاج، وظاهر قوله أنه يعتقد الأوامر على الوجوب حتى يقوم دليل على غير ذلك.

واختلف الناس في قوله تعالى: وليكتب بينكم فقال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب، وقال الشعبي: وعطاء أيضا: إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، فقال السدي: هو واجب مع الفراغ. [ ص: 112 ] وقوله تعالى: بالعدل ، معناه: بالحق والمعدلة، والباء متعلقة بقوله تعالى: وليكتب ، وليست متعلقة بـ "كاتب" ، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمسخوط إذا أقاموا فقهها، أما المنتصبون لكتبها فلا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقال مالك رحمه الله: لا يكتب الوثائق من الناس إلا عارف بها، عدل في نفسه، مأمون، لقوله تعالى: وليكتب بينكم كاتب بالعدل .

ثم نهى الله تعالى الكاتب عن الإباية، وأبى يأبى شاذ لم يجئ إلا قلى يقلى وأبى يأبى، ولا يجيء فعل يفعل بفتح العين في المضارع إلا إذا رده حرف حلق، قال الزجاج : والقول في أبى - أن الألف فيه أشبهت الهمزة فلذلك جاء مضارعه يفعل بفتح العين. وحكى المهدوي عن الربيع والضحاك أن قوله ولا يأب منسوخ بقوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد .

والكاف من قوله: كما علمه الله متعلقة بقوله أن يكتب ، المعنى: كتبا كما علمه الله، هذا قول بعضهم، ويحتمل أن تكون "كما" متعلقة بما في قوله: ولا يأب من المعنى، أي كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو وليفضل كما أفضل الله عليه، ويحتمل أن يكون الكلام على هذا المعنى تاما عند قوله: أن يكتب ، ثم يكون قوله: كما علمه الله ابتداء كلام، وتكون الكاف متعلقة بقوله: "فليكتب"، أما [ ص: 113 ] إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على معين، ولا وجوب الندب، بل له الامتناع، إلا إن استأجره، وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ على الحاضر، وأما الكتب في الجملة فندب كقوله تعالى: وافعلوا الخير وهو من باب عون الضائع.

التالي السابق


الخدمات العلمية