الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يخص بالذكر مصرفا من مصارف الصدقة ; ويعرض صورة شفة عفة كريمة نبيلة، لطائفة من المؤمنين.

                                                                                                                                                                                                                                      صورة تستجيش المشاعر، وتحرك القلوب لإدراك نفوس أبية بالمدد فلا تهون. وبالإسعاف فلا تضام، وهي تأنف السؤال وتأبى الكلام:

                                                                                                                                                                                                                                      للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله، لا يستطيعون ضربا في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا. وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين ، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم; وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله، وحراسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرسا لبيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخلص إليها من دونهم عدو.

                                                                                                                                                                                                                                      وأحصروا في الجهاد لا يستطيعون ضربا في الأرض للتجارة والكسب. وهم مع هذا لا يسألون الناس شيئا.

                                                                                                                                                                                                                                      متجملون يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء لتعففهم عن إظهار الحاجة; ولا يفطن إلى حقيقة حالهم إلا ذوو الفراسة..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن النص عام، ينطبق على سواهم في جميع الأزمان. ينطبق على الكرام المعوزين، الذين تكتنفهم ظروف تمنعهم من الكسب قهرا، وتمسك بهم كرامتهم أن يسألوا العون. إنهم يتجملون كي لا تظهر حاجتهم; يحسبهم الجاهل بما وراء الظواهر أغنياء في تعففهم، ولكن ذا الحس المرهف والبصيرة المفتوحة يدرك ما وراء التجمل. فالمشاعر النفسية تبدو على سيماهم وهم يدارونها في حياء.. [ ص: 316 ] إنها صورة عميقة الإيحاء تلك التي يرسمها النص القصير لذلك النموذج الكريم. وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء! وكل جملة تكاد تكون لمسة ريشة، ترسم الملامح والسمات، وتشخص المشاعر والانفعالات.

                                                                                                                                                                                                                                      وما يكاد الإنسان يتم قراءتها حتى تبدو له تلك الوجوه وتلك الشخصيات كأنما يراها. وتلك طريقة القرآن في رسم النماذج الإنسانية، حتى لتكاد تخطر نابضة حية!.

                                                                                                                                                                                                                                      هؤلاء الفقراء الكرام الذين يكتمون الحاجة كأنما يغطون العورة.. لن يكون إعطاؤهم إلا سرا وفي تلطف لا يخدش آباءهم ولا يجرح كرامتهم.. ومن ثم كان التعقيب موحيا بإخفاء الصدقة وإسرارها ، مطمئنا لأصحابها على علم الله بها وجزائه عليها:

                                                                                                                                                                                                                                      وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم ..

                                                                                                                                                                                                                                      الله وحده الذي يعلم السر ، ولا يضيع عنده الخير..

                                                                                                                                                                                                                                      وأخيرا يختم دستور الصدقة في هذا الدرس بنص عام يشمل كل طرائق الإنفاق، وكل أوقات الإنفاق ; وبحكم عام يشمل كل منفق لوجه الله:

                                                                                                                                                                                                                                      الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار، سرا وعلانية. فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويبدو التناسق في هذا الختام في عموم النصوص وشمولها، سواء في صدر الآية أم في ختامها. وكأنما هي الإيقاع الأخير الشامل القصير..

                                                                                                                                                                                                                                      الذين ينفقون أموالهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا بوجه عام يشمل جميع أنواع الأموال..

                                                                                                                                                                                                                                      بالليل والنهار. سرا وعلانية ..

                                                                                                                                                                                                                                      لتشمل جميع الأوقات وجميع الحالات..

                                                                                                                                                                                                                                      فلهم أجرهم عند ربهم ..

                                                                                                                                                                                                                                      هكذا إطلاقا. من مضاعفة المال. وبركة العمر. وجزاء الآخرة. ورضوان الله.

                                                                                                                                                                                                                                      ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      لا خوف من أي مخوف، ولا حزن من أي محزن.. في الدنيا وفي الآخرة سواء..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه التناسق في ختام الدستور القويم يوحي بذلك الشمول والتعميم..

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد فإن الإسلام لا يقيم حياة أهله على العطاء. فإن نظامه كله يقوم أولا على تيسير العمل والرزق لكل قادر; وعلى حسن توزيع الثروة بين أهله بإقامة هذا التوزيع على الحق والعدل بين الجهد والجزاء.. ولكن هنالك حالات تتخلف لأسباب استثنائية وهذه هي التي يعالجها بالصدقة.. مرة في صورة فريضة تجبيها الدولة المسلمة المنفذة لشريعة الله كلها وهي وحدها صاحبة الحق في جبايتها: وهي مورد هام من موارد المالية العامة للدولة المسلمة. ومرة في صورة تطوع غير محدود يؤديه القادرون للمحتاجين رأسا. مع مراعاة الآداب التي سبق بيانها. وبضمانة تعفف الآخذين.. هذا التعفف الذي تصف هذه الآية صورة منه واضحة. وقد رباه [ ص: 317 ] الإسلام في نفوس أهله فإذا أحدهم يتحرج أن يسأل وله أقل ما يكفيه في حياته..

                                                                                                                                                                                                                                      روى البخاري - بإسناده - عن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة . قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف .. اقرؤوا إن شئتم يعني قوله: لا يسألون الناس إلحافا ..

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن أبيه، عن رجل من مزينة : أنه قالت له أمه: ألا تنطلق فتسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يسأله الناس؟ فانطلقت أسأله، فوجدته قائما يخطب وهو يقول: ومن استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله. ومن يسئل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا فقلت بيني وبين نفسي: لناقة لي لهي خير من خمس أواق، ولغلامي ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق، فرجعت ولم أسأله .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحافظ الطبراني - بإسناده - عن محمد بن سيرين قال: بلغ الحارث - رجلا كان بالشام من قريش - أن أباذر كان به عوز، فبعث إليه ثلاث مائة دينار. فقال: ما وجد عبد الله رجلا أهون عليه مني! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من سأل وله أربعون فقد ألحف ولآل أبي ذر أربعون درهما.. شاة وماهنان.. قال أبو بكر بن عياش : يعني خادمين ..

                                                                                                                                                                                                                                      إن الإسلام نظام متكامل، تعمل نصوصه وتوجيهاته وشرائعه كلها متحدة، ولا يؤخذ أجزاء وتفاريق. وهو يضع نظمه لتعمل كلها في وقت واحد، فتتكامل وتتناسق. وهكذا أنشأ مجتمعه الفريد الذي لم تعرف له البشرية نظيرا في مجتمعات الأرض جميعا..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية