الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ قال أبو بكر : لما كانت معرفة ديانات الناس؛ وأماناتهم؛ وعدالتهم؛ إنما هي من طريق الظاهر؛ دون الحقيقة؛ إذ لا يعلم ضمائرهم؛ ولا خبايا أمورهم؛ غير الله (تعالى)؛ ثم قال الله (تعالى) - فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود -: ممن ترضون من الشهداء ؛ دل ذلك على أن أمر تعديل الشهود موكول إلى اجتهاد رأينا؛ وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم؛ وصلاح طرائقهم؛ وجائز أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهد؛ وأمانته؛ فيكون عنده رضا؛ ويغلب في ظن غيره أنه ليس برضا؛ فقوله: ممن ترضون من الشهداء ؛ مبني على غالب الظن؛ وأكثر الرأي؛ والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة ؛ أحدها العدالة؛ والآخر نفي التهمة؛ وإن كان عدلا؛ والثالث التيقظ؛ والحفظ؛ وقلة الغفلة؛ أما العدالة فأصلها الإيمان؛ واجتناب الكبائر؛ ومراعاة حقوق الله - عز وجل - في الواجبات؛ والمسنونات؛ وصدق اللهجة؛ والأمانة؛ وألا يكون محدودا في قذف؛ وأما نفي التهمة فألا يكون المشهود له والدا؛ ولا ولدا؛ أو زوجا؛ أو زوجة؛ وألا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة؛ فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا؛ وإن كانوا عدولا مرضيين؛ وأما التيقظ؛ والحفظ؛ وقلة الغفلة؛ فألا يكون غفولا؛ غير مجرب للأمور؛ فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه؛ وربما جوز عليه التزوير فشهد به؛ قال ابن رستم؛ عن محمد بن الحسن - في رجل أعجمي؛ صوام؛ قوام؛ مغفل؛ يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به -: "هذا شر من الفاسق في شهادته"؛ وحدثنا عبد الرحمن بن سيما المحبر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أسود بن عامر قال: حدثنا ابن هلال؛ عن أشعث الحداني قال: قال [ ص: 234 ] رجل للحسن : يا أبا سعيد ; إن إياسا رد شهادتي؛ فقام معه إليه؛ فقال: "يا ملكعان؛ لم رددت شهادته؟ أوما بلغك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من استقبل قبلتنا؛ وأكل من ذبيحتنا؛ فذلك المسلم الذي له ذمة الله؛ وذمة رسوله)؟"؛ فقال: "أيها الشيخ; أما سمعت الله يقول: ممن ترضون من الشهداء ؟ وإن صاحبك هذا ليس نرضاه".

وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو بكر ؛ محمد بن عبد الوهاب؛ قال: حدثنا السري بن عاصم - بإسناد ذكره - أنه شهد عند إياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن؛ فرد شهادته؛ فبلغ الحسن؛ وقال: "قوموا بنا إليه"؛ قال: فجاء إلى إياس فقال: "يا لكع; ترد شهادة رجل مسلم ؟"؛ فقال: "نعم؛ قال الله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ وليس هو ممن أرضى"؛ قال: فسكت الحسن؛ فقال خصم الشيخ: "فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا؛ حافظا لما يسمعه؛ متقنا لما يؤديه"؛ وقد ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في صفة العدل أشياء؛ منها أنه قال: "من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود؛ وما يشبه ما تجب فيه من العظائم؛ وكان يؤدي الفرائض؛ وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار؛ قبلنا شهادته; لأنه لا يسلم عبد من ذنب؛ وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته؛ ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج؛ يقامر عليها؛ ولا من يلعب بالحمام ويطيرها؛ وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته"؛ قال: "وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافا بذلك؛ أو مجانة؛ أو فسقا؛ فلا تجوز شهادته؛ وإن تركها على تأويل؛ وكان عدلا فيما سوى ذلك؛ قبلت شهادته"؛ قال: "وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته؛ وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته؛ وإن كان لا يعرف بذلك؛ وربما ابتلي بشيء منه والخير فيه أكثر من الشر؛ قبلت شهادته؛ ليس يسلم أحد من الذنوب"؛ قال: وقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ وابن أبي ليلى : " شهادة أهل الأهواء جائزة إذا كانوا عدولا؛ إلا صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية؛ فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا فيما يدعي إذا حلف له؛ ويشهد بعضهم لبعض؛ فلذلك أبطلت شهادتهم"؛ وقال أبو يوسف: "أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم أقبل شهادته; لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران؛ لم أقبل شهادته؛ فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم حرمة"؛ وقال أبو يوسف: "ألا ترى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا؛ واقتتلوا؛ وشهادة الفريقين جائزة; لأنهم اقتتلوا على تأويل؟ فكذلك أهل الأهواء من المتأولين"؛ قال أبو يوسف: "ومن سألت عنه فقالوا: إنا نتهمه بشتم أصحاب [ ص: 235 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإني لا أقبل هذا؛ حتى يقولوا: سمعناه يشتم"؛ قال: "فإن قالوا: نتهمه بالفسق؛ والفجور؛ ونظن ذلك به؛ ولم نره؛ فإني أقبل ذلك؛ ولا أجيز شهادته؛ والفارق بينهما أن الذين قالوا: نتهمه بالشتم؛ قد أثبتوا له الصلاح؛ وقالوا: نتهمه بالشتم؛ فلا يقبل هذا إلا بسماع؛ والذين قالوا: نتهمه بالفسق والفجور؛ ونظن ذلك به؛ ولم نره؛ فإني أقبل ذلك؛ ولا أجيز شهادته؛ أثبتوا له صلاحا وعدالة"؛ وذكر ابن رستم عن محمد أنه قال: "لا أقبل شهادة الخوارج؛ إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين؛ وإن شهدوا"؛ قال: قلت: ولم لا تجيز شهادتهم؛ وأنت تجيز شهادة الحرورية؟ قال: "لأنهم لا يستحلون أموالنا؛ ما لم يخرجوا؛ فإذا خرجوا استحلوا أموالنا؛ فتجوز شهادتهم ما لم يخرجوا"؛ وحدثنا أبو بكر ؛ مكرم بن أحمد ؛ قال: حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال: سمعت محمد بن سماعة يقول: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: لا يجب على الحاكم أن يقبل شهادة بخيل ؛ فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي؛ فيأخذ فوق حقه؛ مخافة الغبن؛ ومن كان كذلك لم يكن عدلا؛ سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: سمعت إبراهيم يقول: قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أيها الناس; كونوا وسطا؛ لا تكونوا بخلاء؛ ولا سفلة؛ فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه؛ وإن كان لهم حق استقصوه"؛ قال: وقال: "ما من طباع المؤمن التقصي؛ ما استقصى كريم قط؛ قال الله (تعالى): عرف بعضه وأعرض عن بعض "؛ وحدثنا مكرم بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال: سمعت الحماني يقول: سمعت ابن المبارك يقول: سمعت أبا حنيفة يقول: "من كان معه بخل لم تجز شهادته؛ يحمله البخل على التقصي؛ فمن شدة تقصيه يخاف الغبن؛ فيأخذ فوق حقه؛ مخافة الغبن؛ فلا يكون هذا عدلا"؛ وقد روي نظير ذلك عن إياس بن معاوية ؛ ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود ؛ محمد بن عبد الرحمن ؛ قال: قلت لإياس بن معاوية : أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق؛ ولا البخلاء؛ ولا التجار الذين يركبون البحر؛ قال: "أجل؛ أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم؛ ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا؛ فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهم درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه؛ وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا؛ وهم يعلمون؛ فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا؛ وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له؛ ويشفع؛ فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ؛ ألا يأتيني [ ص: 236 ] بشهادة".

وقد روي عن السلف رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق فاعليها ؛ إلا أنها تدل على سخف؛ أو مجون؛ فرأوا رد شهادة أمثالهم؛ منه ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا محمود بن خداش قال: حدثنا زيد بن الحباب قال: أخبرني داود بن حاتم البصري أن بلال بن أبي بردة - وكان على البصرة - كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين؛ وينتف لحيته؛ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حماد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا يحيى بن سليمان عن ابن جريج أن رجلا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبد العزيز ؛ وكان ينتف عنفقته؛ ويحفي لحيته؛ وحول شاربيه؛ فقال: "ما اسمك؟"؛ قال: "فلان"؛ قال: "بل اسمك ناتف"؛ ورد شهادته؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن سعد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد؛ عن الجعد بن ذكوان قال: دعا رجل شاهدا له عند شريح ؛ اسمه ربيعة؛ فقال: "يا ربيعة; يا ربيعة"؛ فلم يجب؛ فقال: "يا ربيعة الكويفر"؛ فأجاب؛ فقال له: "قم"؛ وقال لصاحبه: "هات غيره"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة ؛ عن قتادة ؛ عن جابر بن زيد ؛ عن ابن عباس قال: "الأقلف لا تجوز شهادته"؛ وروى حماد بن أبي سلمة عن أبي المهزم؛ عن أبي هريرة : "لا تجوز شهادة أصحاب الحمر"؛ يعني النخاسين؛ وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام؛ ولا حمام؛ وروى مسعر أن رجلا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا؛ فرد شهادته؛ وقال: كيف يتوضأ وهو على هذه الحال؟ وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا سليمان بن حرب قال: حدثنا جرير بن حازم ؛ عن الأعمش ؛ عن تميم بن سلمة قال: شهد رجل عند شريح فقال: أشهد بشهادة الله؛ فقال: "شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة"؛ قال أبو بكر : لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته؛ فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها؛ ولا سقوط العدالة؛ وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله؛ فردوا شهادتهم من أجلها; لأن كلا منهم تحرى موافقة ظاهر قوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ على حسب ما أداه إليه اجتهاده؛ فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد؛ أو مجونه؛ أو استهانته بأمر الدين؛ أسقط شهادته؛ قال محمد - في كتاب (آداب القاضي) -: "من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته"؛ قال: "ولا تجوز شهادة المخنث؛ [ ص: 237 ] ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها"؛ وقد حكي عن سفيان بن عيينة أن رجلا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته؛ قال: فقلت لابن أبي ليلى: "مثل فلان؛ وحاله كذا؛ وحال ابنه كذا؛ ترد شهادته؟"؛ فقال: "أين يذهب بك؟ إنه فقير"؛ فكان عنده أن الفقر يمنع الشهادة ؛ إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال؛ وإقام شهادة بما لا تجوز؛ وقال مالك بن أنس : "لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير؛ وتجوز في الشيء التافه؛ إذا كانوا عدولا"؛ فشرط مالك مع الفقر المسألة؛ ولم يقبلها في الشيء الكثير؛ للتهمة؛ وقبلها في اليسير؛ لزوال التهمة؛ وقال المزني؛ والربيع ؛ عن الشافعي : "إذا كان الأغلب على الرجل؛ والأظهر من أمره الطاعة؛ والمروءة؛ قبلت شهادته؛ وإذا كان الأغلب من حاله المعصية؛ وعدم المروءة؛ رددت شهادته". وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم؛ عن الشافعي : "إذا كان أكثر أمره الطاعة؛ ولم يقدم على كبيرة؛ فهو عدل"؛ فأما شرط المروءة؛ فإن أراد به التصاون والصمت الحسن؛ وحفظ الحرمة؛ وتجنب السخف؛ والمجون؛ فهو مصيب؛ وإن أراد به نظافة الثوب؛ وفراهة المركوب؛ وجودة الآلة؛ والشارة الحسنة؛ فقد أبعد وقال غير الحق; لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية