الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، الآية \ 29 : هو مجاز عن البخل والجود ومراعاة الاقتصاد فيهما جميعا، فقال : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك : فلا تعطي من مالك شيئا.

ولما كان العطاء في الأكثر باليد غير غل اليد عن الإمساك، فالذي لا يعطي شيئا جعله بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه، والعرب تصف البخيل بضيق اليد، فيقولون : فلان ضيق الكفين إذا كان بخيلا، وقصير الباع، وفي ضده رحب الذراع طويل الباع طويل اليدين.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام لنسائه : "أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا".

وإنما أراد به كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش، لأنها كانت أكثرهن صدقة.

وقال الشاعر :

وما كان أكثرهم سواما . . . ولكن كان أرحبهم ذراعا



قوله تعالى : ولا تبسطها كل البسط ، فلا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك.

فتقعد ملوما محسورا ، يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك.

[ ص: 257 ] وهذا الخطاب لغير النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه.

وقد كان كثير من فضلاء أصحابه ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم، فلم يعنفهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولم ينكر عليهم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم.

وإنما نهى الله تعالى عن الإفراط في الإنفاق، وإخراج جميع ما احتوت عليه يده من المال، من خيف عليه الحسرة على ما خرج من يده، فأما من وثق بموعود الله تعالى وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية.

وقد روي أن رجلا أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسلم إليه مثل بيضة من ذهب، فقال : يا رسول الله، أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها، فأعرض عنه، فعاد ثانيا فأعرض عنه، فعاد ثالثا فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ورماه بها لو أصابته لعقرته، وقال : "يأتيني أحدكم بجميع ما يملكه ثم يقعد ويتكفف وجوه الناس".

وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير، فأنفق جميع ماله على النبي عليه الصلاة والسلام، وفي سبيل الله، حتى بقي في عباءة، فلم يعنفه النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه.

فكل ذلك يدل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما خوطب به غيره مثل قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك .

فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك .

[ ص: 258 ] فاقتضت هذه الآيات من قوله : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، الأمر بالتوحيد والإحسان إلى الوالدين، وإلى ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله تعالى، والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط.

التالي السابق


الخدمات العلمية