الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 189 ] ولما كان في قولهم : ( ما أنـزل الله على بشر من شيء صريح الكذب وتضمن تكذيبه - وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - ! أما من اليهود فبالفعل ، وأما من قريش فبالرضا ، وكان بعض الكفرة قد ادعى الإيحاء إلى نفسه إرادة للطعن في القرآن - قال تعالى مهولا لأمر الكذب ، لا سيما عليه ، لا سيما في أمر الوحي ، عاطفا على مقول ( قل من أنـزل مبطلا للتنبؤ بعد تصحيح أمر الرسالة وإثباتها إثباتا لا مرية فيه ، فكانت براهين إثباتها أدلة على إبطال التنبؤ وكذب مدعيه : ومن أظلم ممن افترى أي : بالفعل كاليهود والرضى كقريش على الله كذبا أي : أي كذب كان ، فضلا عن إنكار الإنزال على البشر أو قال أوحي إلي ولم أي : والحال أنه لم يوح إليه شيء فهذا تهديد على سبيل الإجمال كعادة القرآن المجيد ، يدخل فيه كل من اتصف بشيء من ذلك كمسيلمة والأسود العنسي وغيرهما ، ثم رأيت في كتاب : ( غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود ) للسموأل بن يحيى المغربي الذي كان من أجل علمائهم في حدود سنة ستين وخمسمائة ، ثم هداه الله للإسلام ، وكانت له يد طولى في الحساب والهندسة والطب وغير ذلك من العلوم ، فأظهر [ ص: 190 ] بعد إسلامه فضائحهم أن الربانيين منهم زعموا أن الله كان يوحي إلى جميعهم في كل يوم مرات ، ثم قال بعد أن قسمهم إلى قرائين وربانيين : إن الربانيين أكثرهم عددا ، وقال : وهم الذين يزعمون أن الله كان يخاطبهم في كل مسألة بالصواب ، قال : وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم ومن قال سأنـزل أي : بوعد لا خلف فيه مثل ما أنـزل الله كالنضر بن الحارث ونحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الجواب قطعا في كل منصف : لا أحد أظلم منه ، بل هم أظلم الظالمين ، كان كأنه قيل : فلو رأيتهم وقد حاق بهم جزاء هذا الظلم كرد وجوههم مسودة وهم يسحبون في السلاسل على وجوههم ، وجهنم تكاد تتميز عليهم غيظا ، وهم قد هدهم الندم والحسرة ، وقطع بهم الأسف والحيرة لرأيت أمرا يهول منظره ، فكيف يكون مذاقه ومخبره ! فعطف عليه ما هو أقرب منه ، فقال كالمفصل لإجمال ذلك التهديد مبرزا بدل ضميرهم الوصف الذي أداهم إلى ذلك : ولو ترى أي : يكون منك رؤية فيما هو دون ذلك إذ الظالمون أي : لأجل مطلق الظلم فكيف بما ذكر منه! واللام للجنس الداخل فيه هؤلاء دخولا أوليا في غمرات الموت أي : شدائده التي قد غمرتهم كما يغمر البحر الخضم من يغرق فيه ، فهو يرفعه ويخفضه ويبتلعه ويلفظه ، لا بد له [ ص: 191 ] منه والملائكة أي : الذين طلبوا - جهلا منهم - إنزال بعضهم على وجه الظهور لهم ، وأخبرناهم أنهم لا ينزلون إلا لفصل الأمور وإنجاز المقدور باسطو أيديهم أي : إليهم بالمكروه لنزع أرواحهم وسلها وافية من أشباحهم كما يسل السفود المشعب من الحديد من الصوف المشتبك المبلول ، لا يعسر عليهم تمييزها من الجسد ، ولا يخفى عليهم شيء منها في شيء منه ، قائلين ترويعا لهم وتصويرا للعنف والشدة في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم المسلط الملازم أخرجوا أنفسكم فكأنهم قالوا : لماذا يا رسل ربنا؟ فقالوا : اليوم أي : هذه الساعة ، وكأنهم عبروا به لتصوير طول العذاب تجزون عذاب الهون أي : العذاب الجامع بين الإيلام العظيم والهوان الشديد والخزي المديد بالنزع وسكرات الموت وما بعده في البرزخ - إلى ما لا نهاية له بما كنتم تقولون أي : تجددون القول دائما على الله أي : الذي له جميع العظمة غير الحق أي : غير القول المتمكن غاية التمكن في درجات الثبات ، ولو قال بدله : باطلا ، لم يؤد هذا المعنى ، ولو قال : الباطل ، لقصر عن المعنى أكثر ، وقد مضى في المائدة ما ينفع هنا ، وإذا نظرت إلى أن السياق لأصول الدين ازداد المراد وضوحا وكنتم أي : وبما كنتم عن آياته تستكبرون [ ص: 192 ] أي : تطلبون الكبر للمجاوزة عنها ، ومن استكبر عن آية واحدة كان مستكبرا عن الكل ، أي : لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا وحالا هائلا شنيعا ، وعبر بالمضارع تصويرا لحالهم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية