الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول ، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى فهؤلاء [ ص: 544 ] وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد ، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم فإنه من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم .

                و " حسن القصد " من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه . و " العلم الشرعي " من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح فإن العلم قائد والعمل سائق ، والنفس حرون فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك فغايته أن يستطرح للقدر وإذا ترك العمل حار السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائر عن الطريق زائغ عنه مع علمه به . قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } .

                هذا جاهل وهذا ظالم . قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } .

                مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم . قال تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب } قال أبو العالية : سألت أصحاب محمد فقالوا : كل من عصى الله [ ص: 545 ] فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب .

                وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال : " العلماء ثلاثة " فعالم بالله ليس عالما بأمر الله ، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله ، وعالم بالله وبأمر الله . فالعالم بالله الذي يخشاه والعالم بأمر الله الذي يعرف أمره ونهيه . قلت : والخشية تمنع اتباع الهوى ، قال تعالى : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى } .

                والكمال في عدم الهوى وفي العلم هو لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : { والنجم إذا هوى } { ما ضل صاحبكم وما غوى }

                { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد صلى الله عليه وسلم . ووصف أعداءه بضد هذين فقال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية لله علما وقصدا . قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى : { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس : { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } .

                قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وقال تعالى : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } .

                و " عبادته " طاعة أمره ، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه ; فالكمال في كمال طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا ومن كان لم يعرف ما أمر الله به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ ، فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورا به أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر فهؤلاء مطيعون لله مثابون على ما أحسنوه من القصد لله واستفرغوه من وسعهم في طاعة الله وما عجزوا عن علمه فأخطئوه إلى غيره فمغفور لهم .

                وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة فإن أقواما يقولون ويفعلون أمورا هم مجتهدون فيها وقد أخطئوا فتبلغ أقواما يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ وهم أيضا مجتهدون مخطئون فيكون هذا مجتهدا مخطئا في فعله وهذا مجتهدا مخطئا [ ص: 547 ] في إنكاره والكل مغفور لهم . وقد يكون أحدهما مذنبا كما قد يكونان جميعا مذنبين . وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة . والواحد من هؤلاء قد يعطى طرفا بالأمر والنهي . فيولي ويعزل ويعطي ويمنع فيظن الظان أن هذا كمال وإنما يكون كمالا إذا كان موافقا للأمر فيكون طاعة لله وإلا فهو من جنس الملك وأفعال الملك : إما ذنب وإما عفو وإما طاعة . فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة وهم أتباع العبد الرسول . وهي طريقة السابقين المقربين . وأما طريقة الملوك العادلين فإما طاعة وإما عفو ; وهي طريقة الأنبياء الملوك ; وطريقة الأبرار أصحاب اليمين .

                وأما طريقة الملوك الظالمين : فتتضمن المعاصي ; وهي طريقة الظالمين لأنفسهم . قال تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون [ ص: 548 ] من أحد هذه الأصناف : إما ظالم لنفسه وإما مقتصد وإما سابق بالخيرات . و " خوارق العادات " إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة ; وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية