الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 219 ] وقال فصل قول الناس : الآدمي جبار ضعيف أو فلان جبار ضعيف ; فإن ضعفه يعود إلى ضعف قواه من قوة العلم والقدرة وأما تجبره فإنه يعود إلى اعتقاداته وإراداته أما اعتقاده فأن يتوهم في نفسه أنه أمر عظيم فوق ما هو ولا يكون ذلك وهذا هو الاختيال والخيلاء والمخيلة وهو أن يتخيل عن نفسه ما لا حقيقة له .

                ومما يوجب ذلك مدحه بالباطل نظما ونثرا وطلبه للمدح الباطل فإنه يورث هذا الاختيال . وأما الإرادة فإرادة أن يتعظم ويعظم وهو إرادة العلو في الأرض والفخر على الناس وهو أن يريد من العلو ما لا يصلح له أن يريده وهو الرئاسة والسلطان حتى يبلغ به الأمر إلى مزاحمة الربوبية كفرعون ومزاحمة النبوة وهذا موجود في جنس العلماء والعباد والأمراء وغيرهم . [ ص: 220 ]

                وكل واحد من الاعتقاد والإرادة يستلزم جنس الآخر ; فإن من تخيل أنه عظيم أراد ما يليق بذلك الاختيال ومن أراد العلو في الأرض فلا بد أن يتخيل عظمة نفسه وتصغير غيره حتى يطلب ذلك ففي الإرادة يتخيله مقصودا وفي الاعتقاد يتخيله موجودا ويطلب توابعه من الإرادات . وقد قال الله تعالى : { إن الله لا يحب كل مختال فخور } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { الكبر بطر الحق وغمط الناس } فالفخر يشبه غمط الناس فإن كلاهما تكبر على الناس .

                وأما بطر الحق - وهو جحده ودفعه - فيشبه الاختيال الباطل فإنه تخيل أن الحق باطل بجحده ودفعه . ثم هنا وجهان : " أحدهما " أن يجعل الاختيال وبطر الحق من باب الاعتقادات وهو أن يجعل الحق باطلا والباطل حقا فيما يتعلق بتعظيم النفس وعلو قدرها فيجحد الحق الذي يخالف هواها وعلوها ويتخيل الباطل الذي يوافق هواها وعلوها ويجعل الفخر وغمط الناس من باب الإرادات فإن الفاخر يريد أن يرفع نفسه ويضع غيره وكذلك غامط الناس .

                يؤيد هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي [ ص: 221 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد } فبين أن التواضع المأمور به ضد البغي والفخر . { وقال في الخيلاء التي يبغضها الله : الاختيال في الفخر والبغي } فكان في ذلك ما دل على أن الاستطالة على الناس إن كانت بغير حق فهي بغي ; إذ البغي مجاوزة الحد .

                وإن كانت بحق فهي الفخر ; لكن يقال على هذا : البغي يتعلق بالإرادة فلا يجوز أن يجعل هو من باب الاعتقاد وقسيمه من باب الإرادة بل البغي كأنه في الأعمال والفخر في الأقوال أو يقال : البغي بطر الحق والفخر غمط الناس . " الوجه الثاني " أن يكونا جميعا متعلقين بالاعتقاد والإرادة لكن الخيلاء غمط الحق يعود إلى الحق في نفسه الذي هو حق الله وإن لم يكن يتعلق به حق آدمي والفخر وغمط الناس يعود إلى حق الآدميين ; فيكون التنويع لتمييز حق الآدميين مما هو حق لله لا يتعلق [ بـ ] الآدميين ; بخلاف الشهوة في حال الزنا وأكل مال الغير : فلما قال سبحانه : { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا } { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } والبخل منع النافع : قيد هذا بهذا وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق : الكلام في التواضع والإحسان والكلام في التكبر والبخل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية