الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 100 ] وسئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن واقف وقف وقفا على أولاده ثم على أولاد أولاده ثم على أولاد أولاد أولاده ونسله وعقبه دائما ما تناسلوا : على أنه من توفي منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب : كان ما كان جاريا عليه من ذلك على من في درجته وذوي طبقته . فإذا توفي بعض هؤلاء الموقوف عليهم عن ولد أو ولد ولد أو نسل أو عقب لمن يكون نصيبه ؟ هل يكون لولده ؟ أو لمن في درجته من الإخوة وبني العم ونحوهم ؟ .

                التالي السابق


                فأجاب : نصيبه ينتقل إلى ولده دون إخوته وبني عمه : لوجوه متعددة نذكر منها ثلاثة .

                أحدها أن قوله : على أولاده ثم على أولاد أولاده . مقيد بالصفة المذكورة بعده وهي قوله : على أنه من توفي منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته . وكل كلام اتصل بما يقيده فإنه يجب اعتبار ذلك المقيد دون إطلاقه أول الكلام .

                بيان المقدمة الأولى : أن هذه الجملة وهي قوله : على أنه من توفي منهم . في موضع نصب على الحال والحال صفة في المعنى والصفة مقيدة للموصوف [ ص: 101 ] وإن شئت قلت : لأنة جار ومجرور متصل بالفعل والجار والمجرور مفعول في النفي وذلك مقيد للفعل . وإن شئت قلت : لأنه كلام لم يستقل بنفسه فيجب ضمه إلى ما قبله . وإن شئت قلت : لأن الكلام الأول لم يسكت عليه المتكلم حتى وصله بغيره وصلة الكلام مقيدة له . وكل هذه القضايا معلومة بالاضطرار في كل لغة .

                بيان الثانية : أن الكلام متى اتصل به صفة أو شرط أو غير ذلك من الألفاظ التي تغير موجبه عند الإطلاق وجب العمل بها ولم يجز قطع ذلك الكلام عن تلك الصفات المتصلة به . وهذا مما لا خلاف فيه أيضا بين الفقهاء بل ولا بين العقلاء . وكل هذا تنبني جميع الأحكام المتعلقة بأقوال المكلفين من العبادات والمعاملات : مثل الوقف والوصية والإقرار والبيع والهبة والرهن والإجارة والشركة وغير ذلك .

                ولهذا قال الفقهاء : يرجع إلى لفظ الواقف في الإطلاق والتقييد . ولهذا لو كان أول الكلام مطلقا أو عاما ووصله المتكلم بما يخصه أو يقيده كان الاعتبار بذلك التقييد والتخصيص فإذا قال : وقفت على أولادي . كان عاما . فلو قال الفقراء أو العدول أو الذكور . اختص الوقف بهم ; وإن كان أول كلامه عاما .

                وليس لقائل أن يقول : لفظ الأولاد عام وتخصيص أحد النوعين بالذكر لا ينفي الحكم عن النوع الآخر ; بل العقلاء كلهم مجمعون على أنه [ ص: 102 ] قصر الحكم على أولئك المخصوصين في آخر الكلام - مثبتو المفهوم ونفاته - ويسمون هذا " التخصيص المتصل " . ويقولون : لما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة صار الحكم متعلقا بذلك الوصف فقط وصار الخارجون عن ذلك الوصف خارجين عن الحكم . أما عند نفاة المفهوم فلأنهم لم يكونوا يستحقون شيئا إلا إذا دخلوا في اللفظ ; فلما وصل اللفظ العام بالصفة الخاصة أخرجهم من اللفظ ; فلم يصيروا داخلين فيه فلا يستحقون . فهم ينفون استحقاقهم لعدم موجب الاستحقاق . وأما عند مثبتي المفهوم فيخرجون لهذا المعنى ولمعنى آخر وهو أن تخصيص أحد النوعين بالذكر يدل على قصد تخصيصه بالحكم وقصد تخصيصهم بالحكم ملتزم لنفيه عن غيرهم . فهم يمنعون استحقاقهم لانتفاء موجبه .

                ولقيام مانعه . وكذلك لو قيد المطلق مثل أن يقول : وقفت على أولادي على أنهم يعطون إن كانوا فقراء . أو على أنهم يستحقون إذا كانوا فقراء . أو وقفت على أولادي على أنه يصرف من الوقف إلى الموجودين منهم إذا كانوا فقراء . ووقفت على أنه من كان فقيرا كان من أهل الوقف . فإن هذا مثل قوله : وقفت على أولادي على الفقراء منهم ; أو بشرط أن يكونوا فقراء ; أو إن كان فقيرا .

                ولو قال : وقفت على بناتي على أنه من كانت أيما أعطيت ومن تزوجت ثم طلقها زوجها أعطيت ; فإن هذا مثل قوله : وقفت على [ ص: 103 ] بناتي على الأيامى منهم ; فإن صيغة " على " من صيغ الاشتراط كما قال . { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } .

                واتفق الفقهاء أنه لو قال : زوجتك بنتي على ألف : أو على أن تعطيها ألفا ; أو على أن يكون لها في ذمتك ألف : كان ذلك شرطا ثابتا وتسميته صحيحة وليس في هذا خلاف وقد أخطأ من اعتقد أن في مذهب الإمام أحمد أو غيره خلاف في ذلك ; من أجل اختلافهم فيما إذا قال لزوجته : أنت طالق على ألف أو لعبده : أنت حر على ألف فلم تقبل الزوجة والعبد ; فإنه في إحدى الروايتين عن أحمد يقع العتق والطلاق ; فإنه ليس مأخذه أن هذه الصيغة ليست للشرط ; فإنه لا يختلف مذهبه أنه لو قال : خلعتك على ألف أو كاتبتك على ألف أو زوجتك على ألف أو قال : بعتك هذا العبد على أن ترهنني به كذا أو على أن يضمنه زيد أو زوجتك بنتي على أنك حر : أن هذه شروط صحيحة ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء كلهم .

                وإنما المأخذ أن العتق والطلاق لا يفتقران إلى عوض ولم يعلق الطلاق بشرط ; وإنما شرط فيه شرطا وفرق بين التعليق على الشرط وبين الشرط في الكلام المنجز ; ولهذا لا يصح كثير من التصرفات المعلقة مع صحة الاشتراط فيها ; وهذه الصفة قد تعذر وجودها والطلاق [ ص: 104 ] الموصوف إذا فاتت صفته هل يفوت جميعه ؟ أو يثبت هو دون الصفة ؟ فيه اختلاف .

                إذا تبين أن قوله : على أنه من توفي منهم . شرط حكمي ووصف معنوي للوقف المذكور ; وأنه يجب اعتباره والعمل بموجبه ; فمعلوم أنه إذا اعتبر القيد المذكور في الكلام كان انتقال نصيب المتوفى إلى ذوي طبقته مشروطا بعدم ولده وأن الواقف لم يصرف إليهم نصيب المتوفى في هذه الحال ومعلوم حينئذ أنه لا يجوز صرف نصيب المتوفى إليهم في ضد هذه الحال وهو ما إذا كان له ولد وهو المطلوب .

                وعلم أن هذا ثابت باتفاق الفقهاء ; بل والعقلاء القائلين بالمفهوم والنافين له ; فإن صرف الوقف إلى غير من صرفه إليه الواقف حرام ; وهو لم يصرفه إليهم . فهذا المنع لانتفاء الموجب متفق عليه ولأنه قد منع صرفه إليهم وهذا المنع لوجود المانع مختلف فيه . وتقدير الكلام : وقفت على أولادي ثم على أولادهم بشرط أن ينتقل نصيب المتوفى منهم إلى أهل طبقته إذا كان قد توفي عن غير ولد .

                وليس يختلف أحد من الفقهاء في أن هذا الباب يقصر كل القيود المذكورة وإنما يغلط هنا من لم يحكم دلالات الألفاظ اللغوية ولم يميز بين أنواع أصول الفقه السمعية ولم يتدرب فيما علق بأقوال المكلفين من الأحكام [ ص: 105 ] الشرعية ولا هو جرى في فهم هذا الخطاب على الطبيعة العربية والفطرة السليمة النقية فارتفع عن شأن العامة بحيث لم يدخل في زمرتهم فيما يفهمونه في عرف خطابهم وانحط عن أوج الخاصة فلم يهتد للتمييز بين المشبهات في الكلام حتى تقر الفطر على ما فطرها عليه الذي أحسن كل شيء خلقه ; والحمق أدى به إلى الخلاص من كناسة بترا . ومن أحكم العلوم حتى أحاط بغاياتها رده ذلك إلى تقرير الفطر على بداياتها وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة ; لا لتغييرها { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } .

                ومعلوم أن كل من سمع هذا الكلام من أهل اللسان العربي خاصتهم وعامتهم لم يفهموا منه إلا إعطاء أهل طبقة المتوفى بشرط أن لا يكون للمتوفى ولد ويعقلون أن هذا الكلام واحد متصل بعضه ببعض . وإنما نشأ غلط الغالط من حيث توهم أن الكلام الأول فيه عموم والكلام الثاني قد خص أحد النوعين بالذكر فيكون من " باب تعارض العموم والمفهوم " .

                ثم قد يكون ممن نظر في كتب بعض المتكلمين أو بعض الفقهاء الذين لا يقولون بدلالة المفهوم وإذا قالوا بها رأوا دلالة العموم راجحة عليها لكون الخلافات فيها أضعف منه في دلالة المفهوم فإنه لم يخالف في العموم إلا شرذمة لا يعتد بهم وقد خالف في المفهوم طائفة من الفقهاء [ ص: 106 ] وطوائف من أهل الكلام حتى قد يتوهم من وقع له هذا أنه لا ينبغي أن يترك صريح الشرط أو عمومه لمفهوم الصفة مع ضعفه . فنعوذ بالله من العمى في البصيرة أو حول يرى الواحد اثنين ; فإن الأعمى أسلم حالا في إدراكه من الأحول إذا كان مقلدا للبصير والبصير صحيح الإدراك . ولولا خشية أن يحسب حاسب أن لهذا القول مساغا أو أنه قد يصح على أصول بعض الفقهاء لكان الإضراب عن بيانه أولى .

                فيقال : هذا الذي تكلم الناس فيه من دلالة المفهوم هل هي حجة أم لا ؟ وإذا كانت حجة فهل يخص بها العام أم لا ؟ إنما هو في كلامين منفصلين من متكلم واحد أو في حكم الواحد ليس ذلك في كلام واحد متصل بعضه ببعض ; ولا في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما . فهنا ثلاثة أقسام .

                أحدها : كلامان من متكلم واحد أو في حكم الواحد . وإنما ذكرنا ذلك ليدخل فيه إذا كان أحدهما كلام الله والآخر كلام رسوله ; فإن حكم ذلك حكم ما لو كانا جميعا من كلام الله أو كلام رسوله : مثل قوله صلى الله عليه وسلم " { الماء طهور لا ينجسه شيء } مع قوله " { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } فإن المتكلم بهما واحد صلى الله عليه وسلم وهما كلامان . فمن قال : إن المفهوم حجة يخص به العموم خص عموم قوله : " { الماء طهور لا ينجسه شيء } " بمفهوم { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } مع أن مفهوم العدد [ ص: 107 ] أضعف من مفهوم الصفة . وهذا مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما . ومن امتنع من ذلك قال : قوله : " { الماء طهور } عام وقوله : " { إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس } هو بعض ذلك العام وهو موافق له في حكمه فلا تترك دلالة العموم لهذا :

                وكذلك قوله في كتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر " { في الإبل في خمس منها شاة } إلى آخره . مع قوله في حديث آخر " { في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة } ونظائره كثيرة : منها ما قد اتفق الناس على ترجيح المفهوم فيه : مثل قوله : " { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } مع قوله " { جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا } فإنه لا خلاف أن الأرض الخبيثة ليست بطهور .

                ومنها ما قد اختلفوا فيه كقوله في هذا الحديث : " { وجعلت تربتها لي طهورا } فإن الشافعي وأحمد وغيرهما جعلوا مفهوم هذا الحديث مخصصا لقوله " { جعلت لي كل أرض طيبة طهورا } . ومنها ما قد اتفقوا على تقديم العموم فيه كقوله : { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } مع قوله : { ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا } فإن أكلها حرام سواء قصد بدارا كبر اليتيم أو لا .

                وقد اختلف الناس في هاتين الدلالتين إذا تعارضتا . فذهب أهل الرأي وأهل الظاهر وكثير من المتكلمين وطائفة من المالكية والشافعية [ ص: 108 ] والحنبلية : إلى ترجيح العموم . وذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنبلية وطائفة من المتكلمين : إلى تقديم المفهوم وهو المنقول صريحا عن الشافعي وأحمد وغيرهما . والمسألة محتملة وليس هذا موضع تفصيلها ; فإنها ذات شعب كثيرة وهي متصلة بمسألة " المطلق والمقيد " وهي غمرة من غمرات " أصول الفقه " وقد اشتبهت أنواعها على كثير من السابحين فيه .

                لكن المقصود أن مسألتنا ليست من هذا الباب مع أنها لو كانت منه لكان الواجب على من يفتي بمذهب الشافعي وأحمد أن يبني هذه المسألة على أصولهما وأصول أصحابهما دون ما أصله بعض المتكلمين الذين لم يمعنوا النظر في آيات الله . ودلائله : التي بينها في كتابه وعلى لسان رسوله ولا أحاطوا علما بوجوه الأدلة ودقائقها التي أودعها الله في وحيه الذي أنزله ولا ضبطوا وجوه دلالات اللسان الذي هو أبين الألسنة وقد أنزل الله به أشرف الكتب .

                وإنما هذه المسألة هي من القسم الثاني وهو أن يكون كلام واحد متصل بعضه ببعض آخره مقيد لأوله : مثل ما لو قال : " { الماء طهور لا ينجسه شيء إذا بلغ قلتين } أو يقول : " { الماء طهور إذا بلغ قلتين [ ص: 109 ] لا ينجسه شيء } أو يقول : { في كل خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان تجب هذه الزكاة في الإبل السائمة } كما قال : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } فأطلق وعمم ثم قال في آخره : { ذلك لمن خشي العنت منكم } فإنه لا خلاف بين الناس أن هذا الكلام لا يؤخذ بعموم أوله بل إنما تضمن طهارة القلتين فصاعدا ووجوب الزكاة في السائمة .

                لكن نفاة المفهوم يقولون : لم يتعرض لما سوى ذلك بنفي ولا إثبات فنحن ننفيه بالأصل إلا أن يقوم دليل ناقل عن الأصل . والجمهور يقولون بل ننفيه بدليل هذا الخطاب الموافق للأصل .

                ومما يوضح الفرق بين الكلام المتصل والمنفصل : أن رجلا لو قال : وصيت بهذا المال للعلماء يعطون منه إذا كانوا فقراء . ولو قال : مرة : وصيت به للعلماء ثم قال : أعطوا من مالي للعلماء إذا كانوا فقراء . فهنا يقال تعارض العموم والمفهوم ; لكن مثل هذا لا يجيء في الوقف فإنه إذا وقف على صفة عامة أو خاصة لم يمكن تغييرها ; بخلاف الوصية ولو فسر الموصي لفظه بما يخالف ظاهره قبل منه ; بخلاف الواقف . ولهذا قلنا : إن تقييد هذا الكلام بالصفة المتأخرة واجب عند جميع الناس القائلين بالمفهوم ونفته فإن هذا ليس من هذا الباب وإنما هو من باب الكلام المقيد بوصف في آخره .

                [ ص: 110 ] القسم الثالث . أن يكون في كلام متكلمين لا يجب اتحاد مقصودهما : مثل شاهدين شهدا أن جميع الدار لزيد وشهد آخران أن الموضع الفلاني منها لعمرو فإن هاتين البينتين يتعارضان في ذلك الموضع ولا يقول أحد : أنه يبني العام كل الخاص هنا . وقد غلط بعض الناس مرة في مثل هذه المسألة فرأى أنه يجمع بين البينتين لأنه من باب العام والخاص كما غلط بعضهم في القسم الثاني فألحقوه بالأول .

                ومن نور الله قلبه فرق بين هذه الأقسام الثلاثة وعلم أن الفرق بينها ثابت في جميع الفطر وإنما خاصة العلماء إخراج ما في القوة إلى الفعل فلو سلم أن الكلام الأول عام أو مطلق فقد وصل بما يقيده ويخصصه وقد أطبق جميع العقلاء على أن مثل هذا مخصوص مقيد وليس عاما ولا مطلقا . ففرق - أصلحك الله - بين أن يتم الكلام العام المطلق فيسكت عليه ثم يعارضه مفهوم خاص أو مقيد وبين أن يوصل بما يقيده ويخصصه .

                ألست تعلم أن جميع الأحكام مبنية على هذا ؟ فإنه لو حلف وسكت سكوتا طويلا ثم وصله باستثناء أو عطف أو وصف أو غير ذلك لم يؤثر . فلو قال : والله لا أسافر ثم سكت سكوتا طويلا ثم قال : إن شاء الله . أو قال : إلى المكان الفلاني . أو قال : ولا أتزوج . أو قال : لا أسافر راجلا . لم تتقيد اليمين بذلك .

                ولو حلف مرة : لا أسافر ثم حلف مرة ثانية : لا يسافر راجلا . لم تقيد [ ص: 111 ] اليمين الأولى بقيد الثانية . ولو قال : لا أسافر راجلا . لتقيدت يمينه بذلك بالاتفاق .

                فلما قال هنا : وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم : على أنه من توفي منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته : صار المعنى وقفت وقفا مقيدا بهذا القيد المتضمن انتقال نصيب المتوفى إلى أهل طبقته بشرط عدم ولده . وصار مثل هذا أن يقول : وقفت على ولدي وولد ولدي ونسلي وعقبي : على أن الأولاد يستحقون هذا الوقف بعد موت آبائهم . أفليس كل فقيه يوجب أن استحقاق الأولاد مشروط بموت الآباء ؟ وأنه لو اقتصر على قوله : على ولدي وولد ولدي اقتضى التشريك ؟

                ويوضح هذه المسألة التي قد يظن أنها مثل هذه أنه لو وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين : لم ينتقل إلى المساكين شيء حتى يموت الثلاثة هذا هو المشهور . فلو قال في هذه الصورة : وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين : على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إذا لم يكن في بلد الوقف مسكين .

                أو قال : على أنه من مات من الثلاثة ولم يوجد من المساكين أحد انتقل نصيبه إلى الآخرين . أو يقول : على أنه من مات من الثلاثة انتقل نصيبه إلى الآخرين إن كانا فقيرين . أو إن كانا مقيمين ببلد الوقف ونحو [ ص: 112 ] ذلك . أفليس كل فقيه ; بل كل عاقل يقضي بأن استحقاق الباقين لنصيب المتوفى مشروط بهذا الشرط ؟ وأن هذا الشرط الذي تضمنه الكلام يجب الرجوع إليه ; فإن الكلام إنما يتم بآخره ولا يجوز اعتبار الكلام المقيد دون مطلقه وهذا مما قد اضطر الله العقلاء إلى معرفته إلا أن يحول بين البصيرة وبين الإدراك مانع فيفعل الله ما يشاء . ومسألتنا أوضح من هذه الأمثلة .

                ومثال ذلك أن يقول : وقف على أولادي ثم على أولادهم على أنه من مات منهم وهو عدل انتقل نصيبه إلى ولده . فهل يجوز أن ينتقل الوقف إلى الولد سواء كان الميت مسلما أو كافرا وسواء كان عدلا أو فاسقا فمن توهم أنه ينتقل إليه لاندراجه في اللفظ العام قيل له : اللفظ العام لم ينقطع ويسكت عليه حتى يعمل به ; وإنما هو موصول بما قيده وخصصه . ولا يجوز أن يعتبر بعض الكلام الواحد دون بعض وهذا أبين من فلق الصبح ; ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور .

                ومن أراد أن يبهر المتكلم في هذا فليكثر من النظائر التي يصل فيها الكلام العام أو المطلق بما يخصه ويقيده : مثل أن تقول : وقفت على الفقهاء على أنه من حضر الدرس صبيحة كل يوم استحق . أو وقفت على الفقراء على أنه من جاور بالحرمين منهم استحق . أو تقول : على أن [ ص: 113 ] يجاور بأحد الحرمين . أو على أن الفقهاء يشهدون الدرس في كل غداة ونحو ذلك من النظائر التي تفوت العدد والإحصاء .



                ومما يغلط فيه بعض الأذهان في مثل هذا أن يحسب أن بين أول الكلام وآخره تناقضا أو تعارضا . وهذا شبهة من شبهات بعض الطماطم من منكري العموم ; فإنهم قالوا : لو كانت هذه الصيغ عامة لكان الاستثناء رجوعا أو نقضا . وهذا جهل ; فإن ألفاظ العدد نصوص مع جواز ورود الاستثناء عليها كما قال تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } وكذلك النكرة في الموجب مطلقة مع جواز تقييدها في مثل قوله : { فتحرير رقبة } .

                وإنما أتي هؤلاء من حيث توهموا أن الصيغ إذا قيل : هي عامة : قيل : إنها عامة مطلقا . وإذا قيل : إنها عامة مطلقا ثم رفع بالاستثناء بعض موجبها : فقد اجتمع في ذلك المرفوع العموم المثبت له والاستثناء النافي له . وذلك تناقض أو رجوع .

                فيقال لهم : إذا قيل : هي عامة فمن شرط عمومها أن تكون منفصلة عن صلة مخصصة فهي عامة عند الإطلاق ; لا عامة على الإطلاق . واللفظ الواحد تختلف دلالته بحسب إطلاقه وتقييده ; ولهذا أجمع الفقهاء أن الرجل لو قال : له ألف درهم من النقد الفلاني . أو مكسرة [ ص: 114 ] أو سود أو ناقصة أو طبرية أو ألف إلا خمسين ونحو ذلك : كان مقرا بتلك الصفة المقيدة . ولو كان الاستثناء رجوعا لما قبل في الإقرار ; إذ لا يقبل رجوع المقر في حقوق الآدميين .

                وكثيرا ما قد يغلط بعض المتطرفين من الفقهاء في مثل هذا المقام فإنه يسأل عن شرط واقف أو يمين حالف ونحو ذلك : فيرى أول الكلام مطلقا أو عاما وقد قيد في آخره . فتارة يجعل هذا من باب تعارض الدليلين ويحكم عليهما بالأحكام المعروفة للدلائل المتعارضة من التكافؤ والترجيح . وتارة يرى أن هذا الكلام متناقض ; لاختلاف آخره وأوله . وتارة يتلدد تلدد المتحير وينسب الشاطر إلى فعل المقصر . وربما قال : هذا غلط من الكاتب . وكل هذا منشؤه من عدم التمييز بين الكلام المتصل والكلام المنفصل . ومن علم أن المتكلم لا يجوز اعتبار أول كلامه حتى يسكت سكوتا قاطعا وأن الكاتب لا يجوز اعتبار كتابه حتى يفرغ فراغا قاطعا : زالت عنه شبهة في هذا الباب وعلم صحة ما تقوله العلماء في دلالات الخطاب .

                ومن أعظم التقصير نسبة الغلط إلى متكلم مع إمكان تصحيح كلامه وجريانه على أحسن أساليب كلام الناس ثم يعتبر أحد الموضعين المتعارضين بالغلط دون الآخر فلو جاز أن يقال : قوله : على أنه من مات منهم عن غير ولد . غلط لم يكن ذلك بأولى من أن [ ص: 115 ] يقال : قوله : " ثم " هو الغلط ; فإن الغلط في تبديل حرف بحرف بالنسبة إلى الكاتب أولى من الغلط بذكر عدة كلمات ; فإن قوله : عن غير ولد ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب مشتمل على أكثر من عشر كلمات .

                ثم من العجب أن يتوهم أن هذا توكيد ; والمؤكد إنما يزيح الشبهة ; فكان قوله : من مات منهم عن ولد . أولى من قوله : من مات منهم عن غير ولد . إذا كان الحكم في البابين واحدا وقصد التوكيد ; فإن نقل نصيب الميت إلى إخوته مع ولده تنبيه على نقله إليهم مع عدمهم . إما أن يكون التوكيد ببيان الحكم الجلي دون الخفي فهذا خروج عن حدود العقل والكلام .

                ثم التوكيد لا يكون بالأوصاف المقيدة للموصوف ; فإنه لو قال : أكرم الرجال المسلمين . وقال : أردت إكرام جميع الرجال وخصصت المسلمين بالذكر توكيدا وذكرهم لا ينفي غيرهم بعد دخولهم في الاسم الأول : لكان هذا القول ساقطا غير مقبول أصلا ; فإن المسلمين صفة للرجال ; والصفة تخصص الموصوف . فلا يبقى فيه عموم ; لكن لو قال : أكرم الرجال والمسلمين - بحرف العطف مع اتفاق الحكم في المعطوف والمعطوف عليه وكونه بعضه - لكان توكيدا ; لأن المعطوف لا يجب أن يقيد المعطوف عليه ويخصصه ; لما بينهما من المغايرة الحاصلة بحرف العطف ; بخلاف الصفات [ ص: 116 ] ونحوها فإنها مقيدة ; وكذلك بعض أنواع العطف ; لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك ; ولهذا فرق الفقهاء بين العطف المغير وغير المغير في " باب الإقرار والطلاق والعقود " .

                ومن رام أن يجعل الكلام معنى صحيحا قبل أن يتم لزمه أن يجعل أول كلمة التوحيد كفرا وآخرها إيمانا ; وأن المتكلم بها قد كفر ; ثم آمن . فنعوذ بالله من هذا الخبال . وإن كان قد نقل عن بعض الناس أنه قال : ما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان ؟ فقيل له : ما هي ؟ فقال : كلمة الإخلاص . قلت قصد بذلك أن أولها لو سكت عليه كان كفرا ; ولم يرد أنها كفر مع اتصالها بالاستثناء ; فإنه لو أراد هذا لكان قد كفر .

                ولهذا قال المحققون : الاستثناء تكلم بما عدا المستثنى . وغلط بعضهم فظن أنه إذا قال : ألف إلا خمسين . كانت الألف مجازا ; لأنه مستعمل في غير ما وضع له ; لأنه موضوع لجملة العدد ; ولم يرد المتكلم ذلك . فيقال له : هو موضوع له إذا كان منفردا عن صلة ; وذلك الشرط قد زال . ثم يقال له : إنما فهم المعنى هنا بمجموع قوله : ألف إلا خمسين ; لا بنفس الألف . فصارت هذه الألفاظ الثلاثة هي الدالة على تسعمائة وخمسين .

                وهذه شبهة من رأى أن العام المخصوص تخصيصا متصلا مجاز . كالعام المخصوص تخصيصا منفصلا عند كثير من الناس [ ص: 117 ] وسياق هذا القول يوجب أن كل اسم أو فعل وصل بوصف ; أو عطف بيان ; أو بدل ; أو أحد المفعولات المقيدة أو الحال أو التمييز أو نحو ذلك : كان استعماله مجازا .

                وفساد هذا معلوم بالاضطرار والفرق بين القرينة اللفظية المتصلة باللفظ الدالة بالوضع وبين ما ليس كذلك من القرائن الحالية والقرائن اللفظية التي لا تدل على المقصود بالوضع - كقوله : رأيت أسدا يكتب وبحرا راكبا في البحر - وبين الألفاظ المنفصلة معلوم يقينا من لغة العرب والعجم .

                ومع هذا فلا ريب عند أحد من العقلاء أن الكلام إنما يتم بآخره وأن دلالته إنما تستفاد بعد تمامه وكماله ; وأنه لا يجوز أن يكون أوله دالا دون آخره ; سواء سمي أوله " حقيقة أو مجازا " ولا أن يقال : إن أوله يعارض آخره . فإن التعارض إنما يكون بين دليلين مستقلين والكلام المتصل كله دليل واحد فالمعارضة بين أبعاضه كالمعارضة بين أبعاض الأسماء المركبة .

                وهذا كلام بين خصوصا في " باب الوقوف " فإن الواقف يريد أن يشرط شروطا كثيرة في الموقوف والموقوف عليه : من الجمع والترتيب والتسوية والتفضيل والإطلاق والتقيد : يحتمل سجلا كبيرا . ثم إنه لم يخالف مسلم في أنه لا يجوز اعتبار أول كلامه إطلاقا وعموما وإلغاء آخره أو يجعل ما قيده وفصله وخصصه في آخر كلامه مناقضا أو معارضا لما صدر [ ص: 118 ] به كلامه من الأسماء المطلقة أو العامة ; فإن مثل هذا مثل رجل نظر في وقف قد قال واقفه : وقفت على أولادي ثم على أولادهم . ثم قال بعد ذلك : ومن شرط الموقوف عليهم أن يكونوا فقراء أو عدولا ونحو ذلك فقال : هدا الكلام متعارض : لأنه في أول كلامه قد وقف على الجميع وهذا مناقض لتخصيص البعض ثم يجعل هذا من " باب الخاص والعام " ومن " باب تعارض الأدلة " فمعلوم أن هذا كله خبط ; إذ التعارض فرع على استقلال كل منهما بالدلالة والاستقلال بالدلالة فرع على انقضاء الكلام وانفصاله فأما مع اتصاله بما يغير حكمه فلا يجوز جعل بعضه دليلا مخالفا لبعض . والله سبحانه يوفقنا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه .



                فإن قيل : قوله : على أنه من مات منهم . يجوز أن يكون شرطه الواقف ليبين أن الوقف ينتقل إلى من بقي ; وأنه لا ينقطع في وسطه ; فإن من الفقهاء من قد خرج في قوله : على ولدي ثم على ولد ولدي إذا مات أحدهم ثلاثة أقوال ; كالأقوال الثلاثة في قوله : على أولادي الثلاثة ثم على المساكين .

                أحدها - وهو المشهور - أنه يكون للباقين من الطبقة العليا والثاني : أنه ينتقل إلى الطبقة الثانية ; كما لو انقرضت الطبقة العليا .

                [ ص: 119 ] والثالث : أنه يكون مسكوتا فيكون منقطع الوسط ; كما لو قال : وقفته على زيد ; وبعد موته بعشر سنين على المساكين . وإذا كان انقطاعه في وسط عند موت الواحد محتملا فقد ذكر الواقف هذا الشرط لينفي هذا الاحتمال وإن كان هذا الشرط مقتضى الوقف على القول الأول ; ثم من الشروط ما يكون مطابقا لمقتضى المدلول فيزيد موجبها توكيدا .

                قلنا : سبحان الله العظيم هذا كلام من قد نأى عن موضع استدلالنا . فإنا لم نستدل بصيغة الشرط المطلقة ; وإنما استدللنا بما تضمنه الشرط من التقييد ; فإن هذا الكلام جيد لو كان الواقف قال : على أنه من مات منهم انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته . ولو قال هذا لم يكن في المسألة شبهة أن نصيب الميت ينتقل إلى ذوي الطبقة مع الولد وعدمه من وجوه متعددة .

                منها : أن هذا هو موجب الكلام الأول عند الإطلاق ولم يوصل بما يغيره .

                ومنها : أنه وصل بما وكد موجب مطلقه .

                ومنها : أنه قد شرط ذلك شرطا نفى به الصرف إلى الطبقة الثانية ونفى به الانقطاع سواء كان للميت ولد أو لم يكن .

                وإنما صورة مسألتنا أنه قال : على أنه من توفي منهم عن غير ولد [ ص: 120 ] ولا ولد ولد ولا نسل ولا عقب كان نصيبه لذوي طبقته . فجعل الانتقال إليهم مشروطا بموت الميت عن غير ولد . وهذا الشرط - كما أنه قد نفى به الانقطاع فقد قيد به الانتقال إلى ذوي الطبقة واللفظ دال عليهما دلالة صريحة فإفادته لإحداهما لا تنفي إفادته للأخرى كما لو قال : وقفت على أولادي الثلاثة ثم على المساكين : على أنه من مات منهم في حياة الواقف صرف نصيبه إلى من في درجته . فهل يجوز أن يصرف نصيبه إلى ذوي الطبقة إذا مات بعد موت الواقف . هذا لم يقله أحد في هذه الصورة ; لكن قد يقال : إنه مسكوت عن موته بعد موت الواقف فيكون منقطع الوسط .

                والصواب الذي عليه الناس قديما وحديثا : أنه يكون للمساكين لأن اللفظ اقتضى جعله للثلاثة ; ثم للمساكين فحيث لم يصرف إلى الثلاثة تعين صرفه إلى المساكين لحصر الواقف الوقف فيها مع أن بحث مسألتنا أظهر من هذه كما تقدم ; بل لو فرض أن قائلا قد قال : إذا مات عن غير ولد يكون منقطعا وإذا مات عن ولد لم يكن : لجاز أن يقال : هذا الشرط لنفي احتمال الانقطاع ومع هذا فهو دال على التقييد كما ذكرناه فإنه يدل على صرف نصيب الميت عن غير ولد إلى طبقته وعلى عدم الصرف إليهم مع الولد . فالدلالة الأولى تنفي الانقطاع والدلالة الثانية توجب الاشتراك ولا منافاة بينهما .

                [ ص: 121 ] بل الأولى حصلت من وضع هذا اللفظ والثانية حصلت من مجموع الشرط أو الكلام الأول ; فكيف والأمر ليس كذلك .

                فإن قيل : هذا نفي للاحتمال في هذه الصورة وإن كان لم ينفه في أخرى قلنا : هذا إنما يستقيم أن لو لم تكن الصورة المذكورة مقيدة للفظ المطلق فإن قوله : من مات منهم . مطلق وقد قيده : عن غير ولد . وفي مثل هذا لا يقال : ذكر صورة وترك أخرى ; إلا إذا كان الكلام مستقلا بنفسه غير متصل بغيره ; فأما إذا كان الكلام متصلا بغيره فإنه يصير قيدا في ذلك الأول ; فإن قوله : عن غير ولد . نصب على الحال أيضا ; والحال صفة والصفة مقيدة فكأنه قال : بشرط أنه من كان موته على هذه الصفة انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة ; أو أنه ينتقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة بشرط أن لا يكون للميت ولد ومعلوم بالاضطرار أن الانتقال المشروط بصفة لا يجوز إثباته بدون تلك الصفة .

                فقوله : عن غير ولد . صفة لموت الميت ; والانتقال إذا مات الميت على هذه الحال صفة للوقف والوقف الموصوف بصفة وتلك الصفة موصوفة بأخرى : لا يجوز إثباته إلا مع وجود الصفة وصفة الصفة . فلا يجوز أن يكون وقفا على الأولاد ; ثم أولادهم ; إلا بشرط انتقال نصيب المتوفى إلى ذوي الطبقة .



                [ ص: 122 ] ولا يجوز نقل نصيب الميت إلى ذوي الطبقة إلا بشرط موته عن غير ولد أو ولد ولد أو نسل أو عقب ; حتى لو كان له ولد - وإن بعد - كان وجوده مانعا من الانتقال إلى ذوي الطبقة وموجبا للانتقال إليه بقوله : على أولاده ثم أولاد أولاده . ثم نسله وعقبه دائما ما تناسلوا .

                واعلم أن هذا السؤال لا يكاد ينضبط وجوه فساده مع ما ذكرناه . لكثرتها .

                منها : أنه لو كان قصده مجرد نفي احتمال الانقطاع لكان التعميم بقوله : من مات منهم انتقل نصيبه . أو التنبيه بقوله : من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إلى ذوي طبقته . هو الواجب ; فإنه إذا انتقل نصيبه إلى ذوي الطبقة مع الولد فمع عدمه أولى . أما أن ينص على انتقاله إلى الطبقة مع عدم الولد نافيا بذلك احتمال الانقطاع ثم يريد منا أن نفهم انتقاله إليهم أيضا مع الولد لمجرد قوله : على ولدي ثم ولد ولدي . مع أن احتمال الانقطاع هنا قائم مع احتمال آخر ينفرد به وهو الانتقال إلى الولد ; لأن احتمال انتقاله إلى ولد الولد هنا أظهر من احتمال الانقطاع ومع أن فهم التخصيص مع التقييد أظهر من فهم الانقطاع ومع أن دلالة قوله : على ولد ولدي . في الانتقال إلى الطبقة مع عدم الولد أظهر من دلالته في الانتقال إليهم مع وجود الولد .

                فقد أراد منا أن نفهم الكلام المقلوب ونخرج عن حدود العقل والبيان ; فإن [ ص: 123 ] تركه لرفع احتمال الانقطاع وغيره فيما هو فيه أظهر ; وعدوله عن العبارة المحققة لنفي الانقطاع مطلقا بلا لبس إلى عبارة هي في التقييد أظهر منها في مجرد نفي انقطاع بعض الصور دليل قاطع على أنه لم يقصد بذلك .

                ونظير هذا رجل قال لعبده : أكرم زيدا إن كان رجلا صالحا فأكرمه . وكان غير صالح فلم يكرمه الغلام . فقال له سيده : عصيت أمري . ألم آمرك بإكرامه ؟ قال : قد قلت لي : إن كان صالحا فأكرمه قال : إنما قلت هذا لئلا تتوهم أني أبغض الصالحين فلا تكرمه مع صلاحه فنفيت احتمال التخصيص في هذه الصورة . فهل يقبل هذا الكلام من عاقل أو ينسب الغلام إلى تفريط أو يقول للسيد : هذه العبارة دالة على التخصيص ولو كنت مثبتا للتعميم لكان الواجب أن تقول : أكرمه وإن لم يكن صالحا ; لأن إكرام الصالح يصير من باب التنبيه ; أو أكرمه وإن كان صالحا إن كان حبا لك صحيحا

                وكذا هنا يقول المنازع : هو نقله إلى الطبقة سواء كان له ولد أو لم يكن . فإذا قيل له : فلم قيد النقل بقوله : على أنه من مات منهم عن غير ولد انتقل نصيبه إلى الطبقة ؟ قال : لينفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة دون الصورة التي هي أولى بنفي الانقطاع فيها . فيقال له : كان الكلام [ ص: 124 ] العربي في مثل هذا : على أنه من توفي منهم وإن كان له ولد انتقل نصيبه إلى من في درجته . أو يقول : على أنه من توفي منهم وإن لم يكن له ولد . فيأتي بحرف العطف . أما إذا قال : على أنه من توفي منهم عن غير ولد . فهذا نص في التقييد لا يقبل غيره . ومن توهم غير هذا أو جوزه ولو على بعد أو جوز لعاقل أن يجوزه فلا ريب أنه خارج عن نعمة الله التي أنعم بها على الإنسان حيث علمه البيان .

                وما ظني أنه لو ترك وفطرته توهم هذا ولكن قد يعرض للمفطر آفات تصدها عن سلامتها كما نطقت به الأحاديث . ومنها : أن العاقل لا ينفي احتمالا بعيدا بإثبات احتمال أظهر منه ومعلوم أنه لو سكت عن هذا الشرط لكان احتمال الانقطاع في غاية البعد . فإنه إما خلاف الإجماع أو معدود من الوجوه السود .

                وإذا ذكر الشرط صار احتمال التقييد وترتيب التوزيع احتمالا قويا ; إما ظاهرا عند المنازع ; أو قاطعا عند غيره . فكيف يجوز أن يحمل كلام الواقف على المنهج الذميم دون الطريق الحميد مع إمكانه .

                ومنها : أن هذا الاحتمال لا يتفطن له إلا بعض الفقهاء ولعله لم يخلق في الإسلام إلا من زمن قريب واحتمال التقييد أمر لغوي موجود قبل الإسلام . فكيف يحمل كلام واقف متقدم على الاحتراز من احتمال لا [ ص: 125 ] يخطر إلا بقلب الفرد من الناس بعد الفرد . ولعله لم يخطر ببال الواقف ; دون أن يحمل على الاحتراز من احتمال قائم بقلب كل متكلم أو غالب المتكلمين : منذ علم آدم البيان .

                ومنها أن الواقف إذا كان قصده نفي احتمال الانقطاع في هذه الصورة بقوله : عن غير ولد . أيضا صالح لأن يكون نفى به احتمال الانقطاع في الصور الأخرى ويكون نفي احتمال الانقطاع فيها بانتقال نصيب من مات عن ولد إلى ولده ; فإن هذا فيه صون هذا التقييد عن الإلغاء ورفع للانقطاع في الصورتين . ومعلوم أن حمل كلام الواقف على هذا أحسن من جعله مهدرا مبتورا .

                ومنها : أن هذا المقصود كان حاصلا على التمام لو قال : على أنه من مات منهم . فزيادة اللفظ ونقص المعنى خطأ لا يجوز حمل كلام المتكلم عليه إذا أمكن أن يكون له وجه صحيح وهو هنا كذلك .

                منها : أن هذا الكلام مبني على أن قوله : على أولادي ثم على أولادهم . مقتض لترتيب المجموع على المجموع وهذا الاقتضاء مشروط بعدم وصل اللفظ بما يقيده ; فإنه إذا وصل بما يقيده ويقتضي ترتيب الأفراد على الأفراد : مثل قوله : على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده . ونحو ذلك من العبارات : كان ذلك الاقتضاء منتفيا [ ص: 126 ] بالاتفاق . وهذا اللفظ وهو قوله : على أنه من توفي منهم عن غير ولد . ظاهر في تقييد الانتقال بعدم الولد وإنما يصرفه من يصرفه عن هذا الظهور لمعارضة الأول له وشرط كون الأول دليلا عدم الصلة المغيرة فيدور الأمر فتبطل الدلالة .

                وذلك أنه لا يثبت كون الأول مقتضيا لترتيب المجموع إلا مع الانقطاع عن المغير ولا يثبت هنا الانقطاع عن المغير حتى يثبت أن هذا لا يدل على التغيير ; بل على معنى آخر . ولا تثبت دلالته على ذلك المعنى حتى يثبت أن المتقدم دليل على ترتيب المجموع . وهذا هو الدور وهو مصادرة على المطلوب فإنه جعل المطلوب مقدمة في إثبات نفسه .

                ومنها أن يقال : قوله عن غير ولد . قيد في الانتقال أم لا ؟ فإن قال : ليس بقيد . فهو مكابرة ظاهرة في اللغة . وإن قال : هو قيد قيل له : فيجوز إثبات الحكم المقيد بدون قيده . فإن قال : نعم بالدليل الأول . قيل : فيجوز الاستدلال بأول الكلام مطلقا عما قيد به في آخره . فإن قال : نعم علم أنه مكابر . وإن قال : لا . ثبت المطلوب . وهذه مقدمات يقينية لا يقدح فيها كون الكلام له فوائد أخر . ومن وقف عليها مقدمة لم يبق إلا معاندا أو مسلما للحق .

                ومنها : أنه إذا قيل بأن الوقف يكون منقطع الوسط إذا مات الميت عن غير ولد ولا يكون منقطعا إذا مات عن ولد : كان لهذا السؤال [ ص: 127 ] وجه ; لكن يكون حجة على المنازع ; فإنه إذا كان متصلا مع موته عن ولد فإن كان ينتقل إلى الولد فهو المطلوب . وإن كان ينتقل إلى الطبقة : فمحال أن يقول فقيه : إنه ينتقل إلى الطبقة مع الولد ويكون منقطعا مع عدم الولد . فثبت أن جعل هذا الكلام رفعا لاحتمال الانقطاع دليل ظاهر على انتقال نصيب المتوفى عن ولد إلى ولده . ودلائل هذا مثل المطر . والله يهدي من يشاء إلى سواء الصراط .



                الوجه الثاني : في أصل المسألة أن قوله : على أولاده ثم على أولادهم . مقتض للترتيب . وهو أن استحقاق أولاد الأولاد بعد الأولاد . وهنا جمعان : أحدهما مرتب على الآخر . والأحكام المرتبة على الأسماء العامة نوعان .

                أحدهما : ما يثبت لكل فرد من أفراد ذلك العام سواء قدر وجود الفرد الآخر أو عدمه .

                والثاني : ما يثبت لمجموع تلك الأفراد ; فيكون وجود كل منها شرطا في ثبوت الحكم للآخر .

                مثال الأول قوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } .

                ومثال [ ص: 128 ] الثاني قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } فإن الخلق ثابت لكل واحد من الناس ; وكلا منهم مخاطب بالعبادة والطهارة ; وليس كل واحد من الأمة أمة وسطا . ولا خير أمة .

                ثم العموم المقابل بعموم آخر قد يقابل كل فرد من هذا بكل فرد من هذا كما في قوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } فإن كل واحد من المؤمنين آمن بكل واحد من الملائكة والكتب والرسل . وقد يقابل المجموع بالمجموع بشرط الاجتماع منهما ; كما في قوله : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } فإن الالتقاء ثبت لكل منهما حال اجتماعهما .

                وقد يقابل شرط الاجتماع من أحدهما كقوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } فإن مجموع الأمة خير للناس مجتمعين ومنفردين . وقد يقابل المجموع بالمجموع بتوزيع الأفراد على الأفراد فيكون لكل واحد من العمومين واحد من العموم الآخر كما يقال : لبس الناس ثيابهم وركب الناس دوابهم . فإن كل واحد منهم ركب دابته ولبس ثوبه .

                وكذلك إذا قيل : الناس يحبون أولادهم . أي : كل واحد يحب ولده ; ومن هذا قوله سبحانه : { والوالدات يرضعن أولادهن } أي كل والدة ترضع ولدها ; بخلاف ما لو قلت : الناس يعظمون الأنبياء ; فإن كل واحد منهم يعظم كل واحد من الأنبياء .

                فقول الواقف : على أولاده ; ثم على أولادهم : قد اقتضى ترتيب [ ص: 129 ] أحد العمومين على الآخر فيجوز أن يريد أن العموم الثاني بمجموعه مرتب على مجموع العموم الأول وعلى كل فرد من أفراده فلا يدخل شيء من هذا العموم الثاني في الوقف حتى ينقضي جميع أفراد العموم الأول ويجوز أن يريد ترتيبا يوزع فيه الأفراد على الأفراد فيكون كل فرد من أولاد الأولاد داخلا عند عدم والده ; لا عند عدم والد غيره ; كما في قوله : { والوالدات يرضعن أولادهن } وقولهم : الناس يحبون أولادهم . واللفظ صالح لكلا المعنيين صلاحا قويا ; لكن قد يترجح أحدهما على الآخر بأسباب أخرى كما رجح الجمهور ترتيب الكل على الكل في قوله : وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على المساكين . فإنه ليس بين المساكين وبين أولئك الثلاثة مساواة في العدد حتى يجعل كل واحد مرتبا على الآخر ولا مناسبة تقتضي أن يعين لزيد هذا المسكين ولعمرو هذا ولبكر هذا ; بخلاف قولنا : الناس يحبون أولادهم ; فإن المراد هنا من له ولد . فصار أحد العمومين مقاوما للآخر .

                وفي أولادهم من الإضافة ما اقتضى أن يعين لكل إنسان ولده دون ولد غيره .

                وكما يترجح المعنى الثاني في قوله سبحانه : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم } إلى آخره فإنه لم يحرم على كل واحد من المخاطبين جميع أمهات المخاطبين وبناتهم ; وإنما حرم على كل واحد أمه وبنته [ ص: 130 ] وكذلك قوله : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } فإنه ليس لجميع الأزواج نصف ما ترك جميع النساء وإنما لكل واحد نصف ما تركت زوجته فقط وكذلك قوله : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } إنما معناه اتبع كل واحد ذريته ; ليس معناه أن كل واحد من الذرية اتبع كل واحد من الآباء .

                وهذا كثير في الكلام : مثل أن يقول : الناس في ديارهم ومع أزواجهم يتصرفون في أموالهم وينفقون على أولادهم وما أشبه ذلك . ثم الذي يوضح أن هذا المعنى قوي في الوقف ثلاثة أشياء .

                أحدها : أن أكثر الواقفين ينقلون نصيب كل والد إلى ولده لا يؤخرون الانتقال إلى انقضاء الطبقة ; والكثرة دليل القوة ; بل والرجحان .

                الثاني : أن الوقف على الأولاد يقصد به غالبا أن يكون بمنزلة الموروث الذي لا يمكن بيعه ; فإن المقصود الأكبر انتفاع الذرية به على وجه لا يمكنهم إذهاب عينه .

                وأيضا فإن بين الوقف والميراث هنا شبه من جهة أن الانتقال إلى ولد الولد مشروط بعدم الولد فيهما . ثم مثل هذه العبارة لو أطلقت في الميراث كما أطلقها الله تعالى في قوله : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } [ ص: 131 ] { ولهن الربع مما تركتم } لما فهم منها إلا مقابلة التوزيع للأفراد على الأفراد ; لا مقابلة المجموع بالمجموع ولا مقابلة كل واحد بكل واحد ولا مقابلة كل واحد بالمجموع كما لو قال الفقيه لرجل : مالك ينتقل إلى ورثتك ثم إلى ورثتهم ; فإنه يفهم منه أن مال كل واحد ينتقل إلى وارثه . فليكن قوله : على أولادهم ثم على أولاد أولادهم كذلك ; إما صلاحا وإما ظهورا .

                الثالث أن قوله : في أولادهم . محال أن يحصل في هذه الإضافة مقابلة كل فرد بكل فرد فإن كل واحد من الأولاد ليس مضافا إلى كل واحد من الوالدين ; وإنما المعنى : ثم على ما لكل واحد من الأولاد . فإذا قال : وقفت على زيد وعمرو وبكر ثم على أولادهم . فالضمير عائد إلى زيد وعمرو وبكر وهذه المقابلة مقابلة التوزيع .

                وفي الكلام معنيان : إضافة وترتيب . فإذا كانت مقابلة الإضافة مقابلة توزيع أمكن أن يكون مقابلة الترتيب أيضا مقابلة توزيع كما أن قوله { يرضعن أولادهن } لما كان معنى إرضاع وإضافة والإضافة موزعة : كان الإرضاع موزعا . وقوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } لما كان معنى إضافة موزعة : كان الاستحقاق موزعا . وهذا يبين لك أن مقابلة التوزيع في هذا الضرب قوية سواء كانت راجحة أو مرجوحة أو مكافية .

                [ ص: 132 ] وللناس تردد في موجب هذه العبارة عند الإطلاق في الوقف وإن كان كثير منهم أو أكثرهم يرجحون ترتيب الجمع على الجمع بلا توزيع كما في قولنا : على هؤلاء ثم على المساكين . ولأصحابنا في موجب ذلك عند الإطلاق وجهان مع أنهم لم يذكروا في قوله : وقفت على هذين ثم على المساكين خلافا . والفرق بينهما على أحد الوجهين ما قدمناه . والمشهور عند أصحاب الشافعي أنه لترتيب الجمع على الجمع . ولهم وجه : أنه من مات عن ولد أو غير ولد فنصيبه منقطع الوسط . وخرج بعضهم وجها أن نصيب الميت ينتقل إلى جميع الطبقة الثانية .

                وليس الغرض هنا الكلام في موجب هذا اللفظ لو أطلق فإنا إنما نتكلم على تقدير التسليم لكونه يقتضي ترتيب الجمع على الجمع ; إذ الكلام على التقدير الآخر ظاهر فأما صلاح اللفظ للمعنيين فلا ينازع فيه من تصور ما قلناه . وإذا ثبت أنه صالح فمن المعلوم أن اللفظ إذا وصل بما يميز أحد المعنيين الصالحين له وجب العمل به ولا يستريب عاقل في أن الكلام الثاني يبين أن الواقف قصد أن ينقل نصيب كل والد إلى ولده ; وإلا لم يكن فرق بين أن يموت أحد منهم عن ولد أو عن غير ولد بل لم يكن إلى ذكر الشرط حاجة أصلا . أكثر ما يقال : إنه توكيد لو خلا عن دلالة المفهوم . فيقال : حمله على التأسيس أولى من حمله على التوكيد [ ص: 133 ] واعلم أن هذه الدلالة مستمدة من أشياء :

                أحدها : صلاح اللفظ الأول لترتيب التوزيع .

                الثاني : أن المفهوم يشعر بالاختصاص . وهذا لا ينازع فيه عاقل وإن نازع في كونه دليلا .

                الثالث : أن التأسيس أولى من التوكيد وليس هذا من باب تعارض الدليلين ; ولا من باب تقييد الكلام المطلق وإنما هو من باب تفسير اللفظ الذي فيه احتمال المعنيين . فإن قلتم : اللفظ الأول إن كان ظاهرا في ترتيب الجمع فهذا صرف للظاهر . وإن قلتم : هو محتمل أو ظاهر في التوزيع : منعناكم وإن قلتم لا يوصف اللفظ بظهور ولا إكمال إلا عند تمامه والأول لم يتم : فهذا هو الدليل الأول فما الفرق بينهما ؟

                قلنا : في الدليل الأول بيان أن اللفظ الأول لو كان نصا لا يقبل التأويل عند الإطلاق فإن وصله بما يقيده يبطل تلك الدلالة كما لو قال : وقفت على زيد ثم قال : إن كان فقيرا فهذا لا يعد تفسيرا للفظ محتمل وإنما هو تقييد . وفي هذا الدليل بيان أن اللفظ الأول محتمل لمعنيين ولا يجوز وصفه بظهور في أحدهما إلا أن ينفصل عما بعده .

                فأما إذا اتصل بما بعده بين ذلك الوصل أحد المعنيين . [ ص: 134 ] فقولكم : اللفظ الأول لا يخلو أن يكون ظاهرا في أحدهما أو محتملا . قلنا : قبل تمامه لا يوصف بواحد من الثلاثة وإنما قد يوصف بالصلاح للمعاني الثلاثة . ولا يقال فيه : صرف للظاهر أصلا فإنه لا ظاهر لكلام لم يتم بعد وإنما ظاهر الكلام ما يظهر منه عند فراغ المتكلم .

                وبهذا يتبين منشأ الغلط في عموم اللفظ الأول ; فإن قوله : على أولادي ثم على أولادهم . عام في أولاد أولاده بلا تردد . فلا يجوز إخراج أحد منهم . وهو مقتض للترتيب أيضا ; فإن الأولاد مرتبون على أولاد الأولاد لكن ما صفة هذا العموم : أهو عموم التفسير والتوزيع المقتضي لمقابلة كل فرد بفرد ؟ أو عموم الشياع المقتضي لمقابلة كل فرد بكل فرد ؟ ومن ادعى أن اللفظ صريح في هذا بمعنى أنه نص فيه فهو جاهل بالأدلة السمعية والأحكام الشرعية خارج عن مناهج العقول الطبيعية . ومن سلم صلاح اللفظ لهما ; وادعى رجحان أحدهما عند انقطاع الكلام : لم ننازعه فإنها ليست مسألتنا . وإن نازع في رجحان المعنى الأول بعد تلك الصلة فهو أيضا مخطئ قطعا .

                وهذه حجة عند مثبتي المفهوم ونفاته ; كالوجه الأول ; فإن نافي المفهوم يقول : المسكوت لم يدخل في الثاني ; لكن إن دخل في الأول عملت به ; ونسلم أنه إذا غلب على الظن أو إذا علم أن لا موجب للتخصيص سوى الاختصاص بالحكم : كان المفهوم دليلا .

                فإذا تأمل قوله : [ ص: 135 ] على أنه من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لأهل طبقته . قال إن كان مراد الواقف عموم الشياع كان هذا اللفظ مقيدا لبيان مراده ومتى دار الأمر بين أن تجعل هذه الكلمة مفسرة للفظ الأول ; وبين أن تكون لغوا : كان حملها على الإفادة والتفسير أولى ; لوجهين : أحدهما : أني أعتبرها ; واعتبار كلام الواقف أولى من إهداره .

                والثاني : أجعلها بيانا للفظ المحتمل حينئذ ; فأدفع بها احتمالا كنت أعمل به لولا هي وإذا كان الكلام محتملا لمعنيين كان المقتضي لتعيين أحدهما قائما سواء كان ذلك الاقتضاء مانعا من النقيض أو غير مانع . فإذا حملت هذا اللفظ على البيان كنت قد وفيت المقتضي حقه من الاقتضاء وصنت الكلام الذي يميز بين الحلال والحرام عن الإهدار والإلغاء . فأين هذا ممن يأخذ بما يحتمله أول اللفظ ويهدر آخره ; وينسب المتكلم به إلى العي واللغو .

                والذي يوضح هذا أن قوله : على أنه . من صيغ الاشتراط والتقييد والشرط إنما يكون لما يحتمله العقد ; مع أن إطلاقه لا يقتضيه . بيان ذلك أن قوله : بعت واشتريت . لا يقتضي أجلا ولا رهنا ولا ضمينا ولا نقدا غير نقد البلد ولا صفة زائدة في المبيع ; لكن اللفظ يحتمله بمعنى أنه صالح لهذا ولهذا ; لكن عند الإطلاق ينفي هذه الأشياء ; فإن اللفظ لا يوجبها والأصل عدمها . فمتى قال : على أن ترهنني به [ ص: 136 ] كذا كان هذا تفسيرا لقوله : بعتك بألف بمنزلة قوله : بألف متعلقة برهن .



                الوجه الثالث : أن قوله : على أنه من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لذوي طبقته . دليل على أن من مات منهم عن ولد لم يكن نصيبه لذوي طبقته . وهذه دلالة المفهوم ; وليس هذا موضع تقريرها ; لكن نذكر هنا نكتا تحصل المقصود .

                أحدها : أن القول بهذه الدلالة مذهب جمهور الفقهاء قديما وحديثا : من المالكية و الشافعية والحنبلية ; بل هو نص هؤلاء الأئمة وإنما خالف طوائف من المتكلمين مع بعض الفقهاء . فيجب أن يضاف إلى مذاهب الفقهاء ما يوافق أصولهم . فمن نسب خلاف هذا القول إلى مذهب هؤلاء كان مخطئا . وإن كان بما يتكلم به مجتهدا فيجب أن يحتوي على أدوات الاجتهاد .

                ومما يقضي منه العجب ظن بعض الناس أن دلالة المفهوم حجة في كلام الشارع دون كلام الناس ; بمنزلة القياس . وهذا خلاف إجماع الناس ; فإن الناس إما قائل بأن المفهوم من جملة دلالات الألفاظ . أو قائل أنه ليس من جملتها . أما هذا التفصيل فمحدث .

                ثم القائلون بأنه حجة إنما قالوا هو حجة في الكلام مطلقا ; واستدلوا على كونه حجة بكلام الناس . وبما ذكره أهل اللغة ; وبأدلة عقلية [ ص: 137 ] تبين لكل ذي نظر أن دلالة المفهوم من جنس دلالة العموم والإطلاق والتقييد وهو دلالة من دلالات اللفظ . وهذا ظاهر في كلام العلماء والقياس ليس من دلالات الألفاظ المعلومة من جهة اللغة وإنما يصير دليلا بنص الشارع ; بخلاف المفهوم ; فإنه دليل في اللغة ; والشارع بين الأحكام بلغة العرب .

                الثاني : أن هذا المفهوم من باب مفهوم الصفة الخاصة المذكورة بعد الاسم العام وهذا قد وافق عليه كثير ممن خالف في الصفة المبتدأة حتى إن هذا المفهوم يكون حجة في الاسم غير المشتق ; كما احتج به الشافعي وأحمد في قول النبي صلى الله عليه وسلم " { جعلت لي الأرض مسجدا } " { وجعلت تربتها طهورا } .

                وذلك أنه إذا قال : الناس رجلان مسلم وكافر فأما المسلم فيجب عليك أن تحسن إليه . علم بالاضطرار أن المتكلم قصد تخصيص المسلم بهذا الحكم ; بخلاف ما لو قال ابتداء : يجب عليك أن تحسن إلى المسلم .

                فإنه قد يظن أنه إنما ذكره على العادة لأنه هو المحتاج إلى بيان حكمه غالبا ; كما في قوله : " { كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه } و كذلك " { في الإبل السائمة الزكاة } أقوى من قوله " { في السائمة الزكاة } لأنه إذا قال " { في الإبل السائمة } فلو كان حكمها مع السوم وعدمه سواء لكان قد طول اللفظ ونقص المعنى [ ص: 138 ] أما إذا قال : " { في السائمة } فقد يظن أنه خصها بالذكر لكونها أغلب الأموال أو لكون الحاجة إلى بيانها أمس وهذا بين كذلك هنا إذا كان مقصوده انتقال نصيب الميت إلى طبقته مع الولد وعدمه .

                فلو قال : فمن مات منهم كان نصيبه لذوي طبقته . كان قد عمم الحكم الذي أراده ; واختصر اللفظ . فإذا قال : فمن مات منهم عن غير ولد ولا نسل ولا عقب كان ما كان جاريا عليه من ذلك لمن في درجته وذوي طبقته . كان قد طول الكلام ونقص المعنى ; بخلاف ما إذا حمل في ذلك على الاختصاص بالحكم ; فإنه يبقى الكلام صحيحا معتبرا والواجب اعتبار كلام المصنف ما أمكن . ولا يجوز إلغاؤه بحال مع إمكان اعتباره .

                الوجه الثالث : أن نفاة المفهوم لإمكان أن يكون للتخصيص بالذكر سبب غير التخصيص بالحكم : إما عدم الشعور بالمسكوت أو عدم قصد بيان حكمه أو كون المسكوت أولى بالحكم منه أو كونه مساويا له في بادئ الرأي أو كونه سئل عن المنطوق أو كونه قد جرى بسبب أوجب بيان المنطوق أو كون الحاجة داعية إلى بيان المنطوق أو كون الغالب على أفراد ذلك النوع هو المنطوق فإذا علم أو غلب على الظن أن لا موجب للتخصيص بالذكر من هذه الأسباب ونحوها علم أنه إنما خصه بالذكر لأنه مخصوص بالحكم .

                [ ص: 139 ] ولهذا كان نفاة المفهوم يحتجون في مواضع كثيرة بمفهومات ; لأنهم لا يمنعون أن يظهر قصد التخصيص في بعض المفهومات . وهذا من هذا الباب ; فإن قوله : من مات منهم عن غير ولد . قد يشعر بالقسمين وله مقصود في بيان الشرط وليس هذا من باب التنبيه ; فإنه إذا جعل نصيب الميت ينتقل إلى إخوته عند عدم ولده لم يلزم أن ينقله إليهم مع وجود ولده والحاجة داعية إلى بيان النوعين ; بل لو كان النوعان عنده سواء - وقد خص بالذكر حال عدم الوالد - لكان ملبسا معميا ; لأنه يوهم خلاف ما قصد بخلاف ما إذا حمل على التخصيص .

                الرابع : أن الوصف إذا كان مناسبا اقتضى العلية . وكون الميت لم يخلف ولدا مناسب لنقل حقه إلى أهل طبقته فيدل على أن علة النقل إلى ذوي الطبقة الموت عن غير ولد فيزول هذا بزوال علته وهو وجود الولد .

                الخامس : أن كل من سمع هذا الخطاب فهم منه التخصيص وذلك يوجب أن هذا حقيقة عرفية . إما أصلية لغوية أو طارية منقولة . وعلى التقديرين يجب حمل كلام المتصرفين عليها باتفاق الفقهاء .

                واعلم أن إثبات هذا في هذه الصورة الخاصة لا يحتاج إلى بيان كون المفهوم دليلا ; لأن المخالف في المفهوم إنما يدعي سلب العموم عن المفهومات [ ص: 140 ] لا عموم السلب فيها ; فقد يكون بعض المفهومات دليلا لظهور المقصود فيها . وهذا المفهوم كذلك ; بدليل فهم الناس منه ذلك ومن نازع في فهم ذلك فإما فاسد العقل أو معاند .

                وإذا ثبت أن هذا الكلام يقتضي عدم الانتقال إلى ذوي الطبقة مع وجود الأولاد فإما أن لا يصرف إليهم ولا إلى الأولاد ; وهو خلاف قوله : على أولادهم ثم على أولاد أولادهم أبدا ما تناسلوا . أو يصرف إلى الأولاد فهو المطلوب .



                فإن قيل : قد يسلم أن المفهوم دليل ; لكن قد عارضه اللفظ الصريح أولا أو اللفظ العام : فلا يترك ذلك الدليل لأجل المفهوم . قيل : عنه أجوبة .

                أحدها : أن اللفظ الأول لا دلالة فيه بحال على شيء لأن اللفظ إنما يصير دليلا إذا تم وقطع عما بعده . أما إذا وصل بما بعده فإنه يكون جزءا من الدليل ; لا دليلا . وجزء الدليل ليس هو الدليل . ومن اعتقد أن الكلام المتصل بعضه ببعض يعارض آخره المقيد أوله المطلق فما درى أي شيء هو تعارض الدليلين .

                الثاني : أن اللفظ الأول لو فرض تمامه ليس بصريح . كما تقدم بيانه بل هو محتمل لمعنيين . وأما كونه عاما فمسلم لكنا لا نخصه بل نبقيه على [ ص: 141 ] عمومه ; وإنما الكلام في صفة عمومه ; بل ما حملناه عليه أبلغ في عمومه لأن أولاد الأولاد يأخذ كل منهم في حياة أعمامه وبعد موتهم . وعلى ذلك التقدير إنما يأخذ في حياتهم فقط . واللفظ المتناول لهم في حالين أعم من المتناول لهم في أحدهما .

                الثالث : لو فرض أن هذا من " باب تعارض العموم والمفهوم " فالصواب أن مثل هذا المفهوم يقدم على العموم كما هو قول أكثر المالكية والشافعية والحنبلية وقد حكاه بعض الناس إجماعا من القائلين بالمفهوم ; لأن المفهوم دليل خاص والدليل الخاص مقدم على العام . ولا عبرة بالخلاف في المفهوم ; فإن القياس الجلي مقدم على المفهوم ; مع أن المخالفين في القياس قريبون من المخالفين في المفهوم ; وخبر الواحد يخص به عموم الكتاب مع أن المخالفين في خبر الواحد أكثر من المخالفين عموم الكتاب .



                فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه مبني على أن الضمير في قوله : على أنه من مات . عائد إلى جميع من تقدم ; وهذا ممنوع ; فإن من الفقهاء المعتبرين من قال : إن الاستثناء في شروط الواقف إذا تعقب جملا معطوفة وإذا كان الضمير عائدا إلى الجملة الأخيرة فتبقى الجمل الأولى على ترتيبها ؟ .

                [ ص: 142 ] قيل : هذا باطل من وجوه .

                أحدها : أن لازم هذا القول أنه لو قال : على أولادي ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم ثم أولاد أولاد أولادهم ونسلهم وعقبهم ; على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده ومن مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته : لكان هذا الشرط في الطبقة الآخرة وأن الطبقة الأولى والثانية والثالثة إذا مات الميت منهم لم ينتقل نصيبه إلى ولده ; بل إلى ذوي الطبقة عملا بمقتضى مطلق الترتيب ; فإن التزم المنازع هذا اللازم وقال : كذلك أقول . كان هذا قولا مخالفا لما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا في كل عصر وكل مصر ; فإن الوقوف المشرطة بهذه الشروط لا يحصي عددها إلا الله تعالى .

                وما زال المسلمون من قضاتهم ومفتيهم وخاصتهم وعامتهم يجعلون مثل هذا الشرط ثابتا في جميع الطبقات من غير نكير لذلك ولا منازع فيه . فمن قال خلاف ذلك علم أنه قد ابتدع قولا يخالف ما أجمعت عليه القرون السالفة والعلم بهذا ضروري .

                ثم لو فرض أن في هذا خلافا لكان خلافا شاذا معدودا من الزلات وبحسب قول من الضعف أن يبنى على مثل هذا . ومن لوازم هذا القول أنه لو قال . وقف على أولادي ثم أولادهم ثم أولاد أولادهم على أنه من [ ص: 143 ] كان منهم فقيرا صرف إليه ومن كان منهم غنيا لم يصرف إليه . فإنه يصرف إلى الطبقة الأولى ; والثانية سواء كانوا أغنياء أو فقراء ; أو يختص التفصيل بالطبقة الثالثة . وكذلك لو قال : على أنه من تزوج منهم أعطي ومن لم يتزوج لم يعط . وكذلك لو قال : ومن شرط الوقف على أنه يصرف إلى الفقراء منهم دون الأغنياء . أو بشرط أن يصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم .

                وهكذا صور كثيرة لا يأتي عليها الإحصاء من التزم فيها قياس هذا القول كان قد أتى بداهية دهيا وإن قال : بل يعود الشرط إلى جميع الطبقات ; كما هو المعلوم عند الناس فقد علم بالاضطرار أن مسألتنا واحدة من هذا النوع ; ليس بينها وبين هذه الصور من الفرق ما يجوز أن يذهب على مميز .

                الوجه الثاني : أن الناس لا يفهمون من هذا الكلام إلا الاشتراط في جميع الطبقات . والدليل عليه أن الوقوف المشروطة بمثل هذا أكثر من أن تحصى ثم لم يفهم الناس منها إلا هذا ولعله لم يخطر الاختصاص بالطبقة الأخيرة ببال واقف ولا كاتب ولا شاهد ولا مستمع ولا حاكم ولا موقوف عليه . وإذا كان هذا هو المفهوم من هذا الكلام في عرف الناس وجب حمل كلام المتكلمين على عرفهم في خطابهم سواء كان عرفهم موافقا للوضع اللغوي أو مخالفا له . فإن كان موجب اللغة [ ص: 144 ] عود الشرط إلى الطبقات كلها فالعرف مقرر له . وإن فرض أن موجب اللغة قصره على الطبقة الأخيرة كان العرف مغيرا لذلك الوضع .

                وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم محمول على الحقائق العرفية دون اللغوية على أنا نقول : هذا هو المفهوم من هذا الكلام في العرف والأصل تقرير اللغة لا تغييرها فيستدل بذلك على أن هذا هو مفهوم اللفظ في اللغة ; إذ الأصل عدم النقل . ومن نازع في أن الناس خاصتهم وعامتهم يفهمون من هذا الكلام عند الإطلاق عود الشرط إلى جميع الطبقات علم أنه مكابر وإذا سلمه ونازع في حمل كلام المتصرف على المعنى الذي يفهمونه علم أنه خارج عن قوانين الشريعة . فهاتان مقدمتان يقينيتان ; والعلم بهما مستلزم لعود الشرط إلى جميع الطبقات .

                الوجه الثالث : أنه إذا حمل الكلام على عود الشرط إلى الجملة الأخيرة فقط : كانت فائدته على رأي المنازع أنه لولا هذا الشرط لاشترك العقب في جميع الوقف الذي انتقل إليهم من الطبقة التي فوقهم والذي انتقل إليهم ممن مات منهم عن ولد أو عن غير ولد . فإذا قال : فمن مات منهم عن غير ولد فنصيبه لذوي طبقته . أفاد ذلك أن يختص ذووا الطبقة بنصيب المتوفى إذا لم يكن له ولد ; دون من فوقهم ومن دونهم . وهذا لم يكن مفهوما من اللفظ وإذا كان له ولد اشترك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى ولده وغير ولده .

                وإذا حمل الكلام [ ص: 145 ] على عود الشرط إلى الطبقات كلها أفاد أن ينتقل نصيب المتوفى إلى طبقته إذا لم يكن له ولد . وإلى ولده إذا كان له ولد .

                ومعلوم قطعا من أحوال الخلق أن من اشترك بين جميع الطبقات لا ينقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته فقط دون من هو فوقه وإذا كان له ولد لم ينقله إلى ولده ; بل يجعله كأحدهم ; فإنه على هذا التقدير يكون قد جعل ذوي الطبقة أولى من ولد الميت مع أنه لم يراع ترتيب الطبقات ومعلوم أن هذا لا يقصده عاقل ; فإن العاقل إما أن يراع ترتيب الطبقات فلا يشرك أو ينقل نصيب المتوفى إلى ولده كالإرث . أما أنه مع التشريك يخص نصيب المتوفى إخوته دون ولده : فهذا خلاف المعلوم من أحوال الناس . ولو فرض أن الضمير متردد بين عوده إلى الجميع وعوده إلى الطبقة الأخيرة كانت هذه الدلالة الحالية العرفية معينة لأحد الاحتمالين .

                فإن قيل : هذا يلزمكم إذا أعدتم الضمير إلى الجميع ; فإن اللفظ يقتضي الترتيب في أربع طبقات والتشريك في الباقية . فأنتم تقولون في بقية الطبقات مثلما نقوله .

                قلنا : هذا فيه خلاف ; فإن الطبقات الباقية هل يشرك بينها عملا بما تقتضيه الواو من مطلق التشريك أو يرتب بينها استدلالا بالترتيب فيما [ ص: 146 ] ذكره على الترتيب في الباقي كما هو مفهوم عامة الناس من مثل هذا الكلام فإن الواو كما أنها لا تقتضي الترتيب فهي لا تنفيه فإن كان في الكلام قرينة تدل عليه وجب رعايتها . وقد تنازع الناس في هذا . فإن قلنا بالثاني فلا كلام . وإن قلنا بالأول قلنا أيضا : إنه يقتضي انتقال نصيب الميت إلى ولده في جميع الطبقات ; فإن نقل نصيب الميت إلى ذوي طبقته إذا لم يكن له ولد دون سائر أهل الوقف تنبيه على أنه ينقله إلى ولده إن كان له ولد والتنبيه دليل أقوى من النص حتى في شروط الواقفين .

                ولهذا لو قال : وقفت على ولدي على أنه من كان فاسقا لا يعطى درهما واحدا . فإنه لا يجوز أن يعطى درهمان بلا ريب ; فإنه نبه بحرمانه القليل على حرمانه الكثير كذلك نبه بنقل نصيب الميت إذا لم يكن له ولد إلى إخوته على نقله إلى الولد إذا كانا موجودين فيكون منع الإخوة مع الولد مستفادا من التقييد وإعطاء الولد مستفادا من تنبيه الخطاب وفحواه .

                وإيضاح ذلك أن إعطاء نصيب الميت لذوي طبقته دون سائر أهل الوقف ودون تخصيص الأقرب إلى الميت : دليل على أنه جعل سبب الاختصاص القرب إلى الميت لا القرب إلى الواقف ولا مطلق الاستحقاق . ومعلوم [ ص: 147 ] أن الولد عند وجودهم أقرب إلى الميت فيكون سبب استحقاقهم أوكد فيكون ذلك دليلا على أن الواقف قصد إعطاءهم . وسنذكر إن شاء الله ما يرد على هذا .

                الوجه الرابع : أن الضمير يجب عوده إلى جميع ما تقدم ذكره فإن تعذر عوده إلى الجميع أعيد إلى أقرب المذكورين أو إلى ما يدل دليل على تعيينه . فأما اختصاصه ببعض المذكور من غير موجب فمن باب التخصيص المخالف للأصل الذي لا يجوز حمل الكلام عليه إلا بدليل .

                وذلك لأن الأسماء المضمرة إضمار الغيبة هي في الأمر العام موضوعة لما تقدم ذكره من غير أن يكون لها في نفسها دلالة على جنس أو قدر . فلو قال : أدخل على بني هاشم ثم بني المطلب ثم سائر قريش وأكرمهم وأجلسهم ونحو هذا الكلام : لكان الضمير عائدا إلى ما تقدم ذكره .

                وليس هذا من باب اختلاف الناس في الاستثناء المتعقب جملا : هل يعود إلى جميعها أو إلى أقربها ؟ لأن الخلاف هناك إنما نشأ لأن الاستثناء يرفع بعض ما دخل في اللفظ فقال من قصره على الجملة الأخيرة : إن المقتضي للدخول في الجمل السابقة قائم والمخرج مشكوك فيه فلا يزال عن المقتضي بالشك .

                وهذا المعنى غير موجود في الضمير ; فإن الضمير اسم موضوع لما تقدم ذكره وهو صالح للعموم على سبيل الجمع ; فإنه يجب حمله على العموم إذا لم يقم مخصص وعلى هذا فحمل الضمير على العموم حقيقة فيه وحمله على الخصوص مثل تخصيص اللفظ العام .



                [ ص: 148 ] الوجه الخامس : أنه إذا قال : وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم على أنه من توفي منهم عن ولد أو عن غير ولد . فإن إعادة الضمير إلى الطبقة الثالثة ترجيح من غير مرجح . والظاهر ; بل المقطوع به من حال العاقل : أنه لا يفعل ذلك ; فإن العاقل لا يفرق بين المتماثلات من غير سبب : فإما أن يكون مقصوده إعطاء الأقرب إليه فالأقرب في جميع الطبقات إذا نقل نصيب الميت إلى ابنه في جميع الطبقات .

                أما كونه في بعض الطبقات يخص الأقربين إليه وفي بعضها بنقل النصيب إلى ولد الميت أو إلى ذوي طبقته : فما يكاد عاقل يقصد هذا وإذا دار حمل اللفظ بين ما الظاهر إرادته وبين ما الظاهر عدم إرادته : كان حمله على ما ظهرت إرادته هو الواجب ; فإن اللفظ إنما يعمل به لكونه دليلا على المقصود .

                فإذا كان في نفسه محتملا وقد ترجح أحد الاحتمالين تعين الصرف إليه فإذا انضم إلى ذلك أنه تخصيص للعموم ببعض الأفراد التي نسبتها ونسبة غيرها إلى غرض الواقف سواء كان كالقاطع في العموم .

                الوجه السادس : أن هذه الصفة في معنى الشرط والشرط المتعقب جملا يعود إلى جميعها باتفاق الفقهاء ولا عبرة في هذا المقام بمن خالف ذلك من بعض المتأخرين ; فإن الفقهاء قد نصوا أن رجلا لو قال : والله لأفعلن كذا ولأفعلن كذا - إن شاء الله - أن كلا الفعلين يكون معلقا [ ص: 149 ] بالمشيئة .

                وكذلك لو قال : لأضربن زيدا ; ثم عمرا ثم بكرا - إن شاء الله . وكذلك لو قال : الطلاق يلزمه ليفعلن كذا وعبده حر ليفعلن كذا أو امرأته كظهر أمه ليفعلن كذا - إن شاء الله .

                وإنما اختلفوا في الاستثناء المخصص ; لا في الاستثناء المعلق . وهذا من باب الاستثناء المعلق : مثل الشروط ; لأوجه :

                أحدها : أن الاستثناء بإلا ونحوها متعلق بالأسماء ; لا بالكلام . والاستثناء بحروف الجزاء متعلق بالكلام . وقوله : على أنه ونحوه . متعلق بالكلام فهو بحروف الجزاء أشبه منه بحروف الاستثناء : إلا وأخواتها . وذلك أن قوله : وقفت على أولادي إلا زيدا . الاستثناء فيه متعلق بأولادي . وقوله : وقفت على أولادي إن كانوا فقراء . الشرط فيه متعلق بقوله . وقفت . وهو الكلام وهو المعنى المركب . وكذلك قوله على أن يكونوا فقراء . حرف الاستعلاء معلق لمعنى الكلام وهو وقفت . وهذا قاطع لمن تدبره .

                الثاني . أن هذا بيان لشروط الوقف التي يقف الاستحقاق عليها ; ليس المقصود بها إخراج بعض ما دخل في اللفظ فهي شروط معنوية .

                الثالث : أن قوله : من مات منهم عن غير ولد كان نصيبه لمن في درجته . جملة شرطية جزائية مجعولة خبر أن المفتوحة واسم أن ضمير [ ص: 150 ] الشأن وأن وما في خبرها في تأويل المصدر . فيصير التقدير : وقفت على هذا .

                الرابع : أن حرف " على " للاستعلاء . فإذا قال الرجل : وقفت على أنه يكون كذا . أو بعتك على أن ترهنني . كان المعنى وقفت وقفا مستعليا على هذا الشرط فيكون الشرط أساسا وأصلا لما على عليه وصار فوقه والأصل متقدم على الفرع . وهذا خاصية الشرط ; ولهذا فرق من فرق بين الشرط والاستثناء بأن الشرط منزلته التقدم على المشروط فإذا أخر لفظا كان كالمتصدر في الكلام ولو تصدر في الكلام تعلقت به جميع الجمل فكذلك إذا تأخر . فلو قال : وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء . كان بمنزلة قوله : على أن يكونوا فقراء . وأحد اللفظين موجب لعود الضمير إلى جميع الطبقات فكذلك الآخر .

                واعلم أن هذه الدلائل توجب أن الضمير يعود إلى جميع الطبقات في هذه المسألة عند القائلين بأن الاستثناء المتعقب جملا يعود إلى جميعها والقائلين بأنه يعود إلى الأخيرة منها كما اتفقوا على مثل ذلك في الشرط .



                الوجه السابع . أن هذا السؤال فاسد على مذهب الشافعي خصوصا وعلى مذهب غيره أيضا : وذلك أن الرجل لو قال لامرأته [ ص: 151 ] أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار ; فإنه لا يقع بها طلاق حتى تدخل الدار فطلق حينئذ ثلاثا إن كانت مدخولا بها ; أو واحدة إن كانت غير مدخول بها . هذا قول أبي يوسف ومحمد . وقيل عن أبي يوسف ومحمد تطلق غير المدخول بها ثلاثا كالواو عندهما ; وهو مذهب الشافعي ; وأقوى الوجهين في مذهب أحمد . وقال أبو حنيفة والقاضي أبو يعلى من أصحاب أحمد وطائفة معه : بل تتعلق بالشرط الجملة الأخيرة فقط . فإن كانت مدخولا بها تنجز طلقتان وتعلق بالشرط واحدة . وإن كانت غير مدخول بها تنجزت طلقة بانت بها ; فلم يصح إيقاع الأخرتين لا تنجيزا ولا تعليقا .

                قالوا : لأن ثم للترتيب مع التراخي فيصير كأنه قال : أنت طالق ; ثم سكت ثم قال : أنت طالق إن دخلت الدار .

                وأما الأولون فقالوا : " ثم " حرف عطف يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه كالواو ; لكن الواو تقتضي مطلق الجمع والتشريك من غير دلالة على تقدم أو تأخر أو مقارنة وثم تقتضي التشريك مع التأخر . وافتراقهما في المعنى لا يوجب افتراقهما في نفس التشريك . وأما كونها للتراخي فعنه جوابان .

                أحدهما . أن مقتضاها مطلق الترتيب ; فيعطف بها المتعقب والمتراخي [ ص: 152 ] لكن لما كان للمتعقب حرف يخصه - وهو الفاء - صارت " ثم " علامة على المعنى الذي انفردت به وهو التراخي وإلا فلو قال لمدخول بها : أنت طالق ثم طالق . أو أنت طالق فطالق : لم يكن بين هذين الكلامين فرق هنا .

                الثاني أن ما فيها من التراخي إنما هو في المعنى لا في اللفظ . فإذا قال الرجل : جاء زيد ثم عمرو . فهذا كلام متصل بعضه ببعض . لا يجوز أن يقال هو . بمنزلة من سكت ثم قال : عمرو . فمن قال : إن قوله : أنت طالق ثم طالق . بمنزلة من سكت ثم قال طالق . فقد أخطأ ; وإنما غايته أن يكون بمنزلة من قال : أنت طالق طلاقا يتراخى عنه طلاق آخر . وهذا لا يمنع من تعلق الجميع بالشرط : تقدم أو تأخر .

                فإذا كان من مذهب الشافعي وهؤلاء أن قوله : أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار . بمنزلة قوله : أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار . وقوله . أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار في المدخول بها . وكذلك قوله : أنتن طوالق ; ثم أنتن طوالق : إن دخلتن الدار . وأن الشرط تعلق بالجميع ; فكيف يجوز أن ينسب إلى مذهبه أن العطف بما يقتضي الترتيب يوجب الصرف إلى من يليه الشرط دون السابقين وهلا قيل هنا : إذا ثبت وقوع الطلاق نصا باللفظين الأولين ; ولم يثبت ما يغيره : وجب [ ص: 153 ] تقرير الطلاق الواقع ; بل مسألة الطلاق أولى بقصر الشرط على الجملة الأخيرة لأن إحدى الطلقتين ليس لها تعلق بالأخرى من حيث الوجود ; بل يمكن إيقاعهما معا ; بخلاف ولد الولد ; فإنهم لا يوجدون إلا متعاقبين . فالحاجة هنا داعية إلى الترتيب ما لا تدعو إليه في الطلاق .

                وأيضا فإن جواز تعقيب البيع والوقف ونحوهما بالشروط متفق عليه ; بخلاف الطلاق ; فإن مذهب شريح وطائفة معه - وهي رواية مرجوحة عن أحمد - أن الطلاق لا يصح تعليقه بشرط متأخر كما ذهب بعض الفقهاء من أصحاب وغيرهم إلى أنه لا يصح الاستثناء من الطلاق . فإذا كانوا قد أعادوا الشرط إلى جميع الجمل المرتبة بثم . فالقول بذلك في غيرها أولى .

                وهذا الكلام لمن تدبره يجتث قاعدة من نسب إلى مذهب الشافعي ما يخالف هذا .

                فإن قيل : فقد قال به بعض الفقهاء من الحنفية والحنبلية : فهؤلاء يقولون به هنا ؟ قلنا : قد أسلفنا فيما مضى أن الضمير عائد إلى الجميع في أصول الجميع ; لدليل دل على الرجوع من جهة كون الضمير حقيقة [ ص: 154 ] في جميع ما تقدم وأن هذا هو المفهوم من الكلام . ثم الذي يقول بهذا يفرق بين هذا وبين الطلاق من وجوه .

                أحدها : أن الشرط في الطلاق متعلق بالفعل الذي هو وتلك الأسماء المعطوفة بعضها على بعض كلها داخلة في حيز هذا الفعل ; وهي من جهة المعنى مفاعيل له ; بمنزلة الشرط في القسم . فإنه إذا قال : والله لأفلعن كذا وكذا ثم كذا : إن شاء الله . كان الشرط متعلقا بالفعل في جواب القسم والمفاعيل داخلة في مستثناه . وتناول الفعل لمفاعيله على حد واحد فإذا كان قد قيد تناوله لها بقيد تقيد تناوله للجميع بذلك القيد ; بخلاف قوله : أنت طالق ثم طالق : إن شاء زيد .

                فإن المتعلق بالشرط هنا اسم الفاعل ; لا نفس المبتدأ . والخبر الثاني ليس بداخل في خبر الخبر الآخر ; بل كلاهما داخل في خبر المبتدأ ; فلهذا خرج هنا خلاف وهذا فرق بين لمن تأمله .

                الوجه الثاني : أن الشرط في الطلاق ; وهو قوله : إن دخلت الدار . ليس فيه ما يوجب تعلقه بجميع الجمل ; بخلاف قوله : على أنه من مات منهم . فإن الضمير يقتضي العود إلى جميع المذكور .

                الثالث : أن إحدى الجملتين في الطلاق لا تعلق لها بالأخرى ; فإن [ ص: 155 ] الطلقة تقع مع وجود الأولى وعدمها . فإذا علقت بالشرط لم تستلزم تعليق الأولى ; لانفصالها عنها . وقد اعتقدوا أن " ثم " بمنزلة التراخي في اللفظ فيزول التعلق اللفظي والمعنوي فتبقى الجملة الأولى أجنبية عن الشرط على قولهم . وأما قوله : ثم على أولادهم فإنه متعلق بالجملة الأولى من جهة الضمير ومن جهة الوجود ومن جهة الاستحقاق . فلا يصح اللفظ بهذه الجملة إلا بعد الأولى ولا وجود لمعناها إلا بعد الأولى ولا استحقاق لهم إلا بعد الأولى ; سواء قدر التراخي في اللفظ أو لم يقدر فلا يمكن أن تجعل الأولى أجنبية عن الثانية حتى تعلق الثانية وحدها بالشرط .

                والذي تحقق أن النزاع إنما هو في الطلاق فقط : أنه لو قال : والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا - إن شاء الله - عاد استثناء إلى الجميع . فقوله : وقفت على أولادي ثم على أولادهم ثم على أولاد أولادهم إن كانوا فقراء . أبلغ من قوله : إن شاء الله . من حيث إن هنا تعلق الضمير .

                الوجه الثامن : أن هذا الفرق الذي ذكره بعض الفقهاء بين العطف بالحرف المرتب والحرف الجامع إنما ذكره في الاستثناء . ثم قال : وكذلك القول في الصفة . والصفة إذا أطلقت فكثيرا ما يراد بها الصفة الصناعية النحوية . وهو الاسم التابع لما قبله في إعرابه : مثل أن تقول : [ ص: 156 ] وقفت على أولادي . ثم على الفقراء العدول . فإن اختصاص الجملة هنا بالصفة الأخيرة قريب . ومسألتنا شروط حكمية . وهي إلى الشروط اللفظية أقرب منها إلى الاستثناء . وإن سميت صفات من جهة المعنى .

                والدليل على أنه قصد هذا أنه قال : وإن كان العطف بالواو ولا فاصل فمذهب الشافعي رجوع الاستثناء إلى الجميع . وكذلك القول في الصفة . فعلم أنه قصد أن هذا مذهب الشافعي مشيرا إلى خلاف أبي حنيفة ; فإنه إنما يعيد ذلك إلى الجملة الأخيرة . وهذا إنما يقوله أبو حنيفة في الاستثناء والصفات التابعة ; لا يقوله في الشروط والصفات التي تجري مجرى الشروط . فصار هنا أربعة أقسام .

                أحدها : الاستثناء بحرف " إلا " المتعقب جملا ; والخلاف فيه مشهور .

                الثاني : الاستثناء بحروف الشرط ; فالاستثناء هنا عائد إلى الجميع .

                الثالث : الصفات التابعة للاسم الموصوف بها وما أشبهها وعطف البيان ; فهذه توابع مخصصة للأسماء المتقدمة فهي بمنزلة الاستثناء .

                الرابع : الشروط المعنوية بحرف الجر : مثل قوله : على أنه . أو : تشرط أن يفعل . أو بحروف العطف : مثل قوله : ومن شرطه كذا [ ص: 157 ] ونحو ذلك . فهذه مثل الاستثناء بحروف الجزاء . والضابط أن كل ما كان من تمام الاسم فهو من جنس الاستثناء بإلا ; وكلما كان متعلقا بنفس الكلام وهو النسبة الحكمية التي بين المبتدأ والخبر وبين الفعل والفاعل فهو في معنى الاستثناء بحرف الشرط . ومعلوم أن حروف الجر وحروف الشرط المتأخرة إنما تتعلق بنفس الفعل المتقدم وهو قوله : وقفت . وهو الكلام . والجملة والاستثناء والبدل والصفة النحوية وعطف البيان متعلق بنفس الأسماء التي هي مفاعيل هذا الفعل .



                ويجوز كلام من فرق على جمل أجنبيات مثل أن تقول : وقفت على أولادي ثم على ولد فلان ; ثم على المساكين : على أنه لا يعطي منهم إلا صاحب عيال . ففي مثل هذا قد يقوى اختصاص الشرط بالجملة الأخيرة لكونها أجنبية من الجملة الأولى ; ليست من جنسها ; بخلاف الأولاد وأولاد الأولاد فإنهم من جنس واحد . وحمل الكلام على أحد هذين المعنيين أو نحوهما متعين مع ما ذكرنا من دليل إرادة ذلك على أنه لو كان فيه تخصيص لكلامه فإنه واجب لما ذكرناه ; فإنه إذا كان قد جاء إلى كلام الأئمة الذين قالوا : الاستثناء أو الصفة إذا تعقب جملا معطوفا بعضها على بعض عاد إلى جميع الجمل . فخص ذلك ببعض حروف العطف لما رآه من الدليل . فلأن نخص نحن كلامه بما ذكرناه من نصوص كلامهم [ ص: 158 ] الموجب للتسوية بين الواو وثم بطريق الأولى . فإن سلم أن كلامه محمول على ما ذكرناه وإلا تكلمنا معه بـ " الوجه التاسع " .

                وهو أن هذا الفرق المدعى بين الحرف الجامع جمعا مطلقا والحرف المرتب فرق لا أصل له في اللغة ولا في العرف ولا في كلام الفقهاء ولا في كلام الأصوليين ولا في الأحكام الشرعية . والدليل المذكور على صحته فاسد . فيجب أن يكون فاسدا .

                أما الأول ; فإن أهل اللغة قالوا : حروف العطف هي التي تشرك بين ما قبلها وما بعدها في الإعراب . وهي نوعان : نوع يشرك بينهما في المعنى أيضا وهي : الواو والفاء وثم . فأما الواو فتدل على مطلق التشريك والجمع ; إلا عند من يقول : إنها للترتيب . وأما " ثم " فإنها تدل على مطلق الترتيب . وقد يقال : إنها للتراخي . وأما الفاء فإنها تدل على نوع من الترتيب وهو التعقيب . فهذه الحروف لا يخالف بعضها بعضا في نفس اجتماع المعطوف والمعطوف عليه في المعنى واشتراكهما فيه ; وإنما تفترق في زمان الاجتماع .

                فلو قيل : إن العطف بالواو يقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فيما يلحق الجمل من استثناء ونعت ونحو ذلك والعطف بثم لا يقتضي اشتراكهما في هذه اللواحق : للزم من ذلك أن لا تكون ثم [ ص: 159 ] مشتركة حيث تكون الواو مشتركة ومعلوم أن هذا مخالف لما عليه أهل اللغة بل هو خلاف المعلوم من لغة العرب . والأحكام اللغوية التي هي دلالات الألفاظ تستفاد من استعمال أهل اللغة والنقل عنهم فإذا كان النقل والاستعمال قد اقتضيا أنهما للاشتراك في المعنى : كان دعوى انفراد أحدهما بالتشريك دون الآخر خروجا عن لغة العرب وعن المنقول عنهم .

                وأما العرف فقد أسلفنا أن الناس لا يفهمون من مثل هذا الكلام إلا عود الشرط إلى الجميع والعلم بهذا من عرف الناس ضروري . وأما كلام العلماء من الفقهاء والأصوليين فإنهم تكلموا في الاستثناء المتعقب جملا فقال قوم : إنه يعود إلى جميعها . وقال قوم : يعود إلى الأخيرة منها . وقال قوم : إن كان بين الجملتين تعلق عاد الاستثناء إلى جميعها وإن كانتا أجنبيتين عاد إلى الأخيرة . ثم فصلوا الجمل المتعلق بعضها ببعض من الأجنبية وذكروا عدة أنواع من التفصيل . وقال قوم : العطف مشترك بين الجميع . وقال قوم : بالوقف في جميع هذه المذاهب . ثم ليس أحد من هؤلاء فرق بين العطف بالواو والفاء أو ثم : بل قولهم المعطوف بعضها على بعض يعم الجميع .

                وكذلك الفقهاء ذكروا هذا في " باب الأيمان " و " باب الوقف " ثم بنوه على أصلهم فقالوا : الاستثناء أو الوصف إذا تعقب جملا عاد [ ص: 160 ] إلى جميعها أو إلى بعضها . وقد اعترف من فصل بأن الأئمة أطلقوا هذا الكلام وأنه هو الذي فصل فلا يجوز أن ينسب إلى الأئمة إلا ما قالوه .

                وأما الأحكام فإنه لو قال : والله لأضربن زيدا ثم عمرا ثم بكرا - إن شاء الله . عاد الاستثناء إلى الجميع . وكذلك لو قال : الطلاق يلزمني لأضربن هذا ثم هذا ثم هذا . أو قال : لآخذن الدية لأذبحن الشاة . لأطبخنها . إلى غير ذلك من الصور .

                وأما ما استدل به فإنه قال : إذا كان العطف بما يقتضي ترتيبها فالصرف إلى جميع المتقدمين فيه بعض النظر والغموض فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به وانعطافه على جميع السابقين . والعطف بالحرف المرتب محتمل غير مقطوع به . وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره : وجب تقرير الاستحقاق ولم يجز تغييره لمحتمل متردد . فنقول : الجواب من وجوه .

                أحدها : أن هذا بعينه موجود في العطف بالواو ; فإن انعطافه على جميع السابقين محتمل غير مقطوع سواء كان العطف بحرف مرتب أو مشترك غير مرتب . وهذا بعينه دليل من أوجب قصر الاستثناء على الجملة الأخيرة .

                [ ص: 161 ] فإن قال : قد ثبت العموم في الجمل المتقدمة فلا يجوز تخصيصه بمحتمل متردد - وليس غرضنا هنا إفساد هذا الدليل - بل نقول موجب هذا الدليل اختصاص التوابع بالجملة الأخيرة مطلقا . أما التفريق بين عاطف وعاطف فليس في هذا الدليل ما يقتضيه أصلا . وأي فرق عند العقلاء بين أن يقول : وقفت على أولادي وعلى المساكين إلا أن يكونوا فساقا نعم صاحب هذا القول ربما قوي عنده اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة وهاب مخالفة الشافعي فغاظ ما عنده من الرجحان مع أنا قد بينا أن مسألتنا ليست من موارد الخلاف ; وإنما الخلاف في الاستثناء أو الصفة الإعرابية . فأما الشرط والصفة الشرطية فلا خلاف فيهما بين الفقهاء .

                وبالجملة من سلم أن الجمل المعطوفة بالواو يعود الاستثناء إلى جميعها كان ذكره لهذا الدليل مبطلا لما سلمه فلا يقبل منه ; فإن تسليم الحكم مستلزم تسليم بطلان ما يدل على نقيضه فلا يقبل منه دليل يدل على عدم عود الاستثناء إلى الجميع .

                الوجه الثاني : أن قوله : انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوع به . فممنوع بل يجوز أن يعود الاستثناء إلى الجملة الأولى فقط إذا دل على ذلك دليل . ويجوز للمتكلم أن ينوي ذلك ويقصده وإن [ ص: 162 ] كان حالفا مظلوما ; فإنه لو قال : قاتل أهل الكتاب وعادهم وأبغضهم إلا أن يعطوا الجزية . كان الاستثناء عائدا إلى الجملة الأولى فقط وقد قال سبحانه : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة } وهذا الاستثناء في الظاهر عائد إلى الجملة الأولى .

                وقال سبحانه : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } - إلى قوله - { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } وليس هذا مستثنى مما يليه ; بل من أول الكلام .

                وقد قال جماعة من أهل العلم في قوله : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلا } إن { قليلا } عائد إلى قوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } { إلا قليلا } وهذا الاستثناء عائد إلى جملة بينها وبين الاستثناء جمل أخرى . " والمقدم في القرآن والمؤخر " باب من العلم وقد صنف فيه العلماء : منهم الإمام أحمد وغيره وهو متضمن هذا . وشبهه أن يكون الاستثناء مؤخرا في اللفظ مقدما في النية .



                ثم التقديم والتأخير في لغة العرب والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة معترضة وبين غيرهما : لا ينكره إلا من لم يعرف اللغة وقد قال سبحانه : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } فقوله : { أن يؤتى } من تمام قول أهل الكتاب . أي : كراهة أن يؤتي فهو مفعول تؤمنوا وقد فصل بينهما بقوله : { قل إن الهدى هدى الله } وهي جملة أجنبية ; ليست من كلام أهل الكتاب ; فأيما أبلغ الفصل بين الفعل والمفعول أو بين المستثنى والمستثنى منه وإذا لم يكن عود الاستثناء إلى الأخيرة مقطوعا به لم يجب عود الاستثناء إليها ; بل ربما كان في سياقه ما يقتضي أن عوده إلى الأولى أوكد . ومسألتنا من هذا الباب كما تقدم .



                الثالث قوله : إذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا ولم يثبت ما يغيره وجب تقرير الاستحقاق .

                قلنا أولا : مسألتنا ليست من هذا الباب ; فإن قوله : على أولاده ثم على أولادهم ليس نصا في ترتيب الطبقة على الطبقة ; فإنه صالح لترتيب الأفراد على الأفراد ; لكن هذا يجب في خصوص مسألتنا مع من يريد أن يدخلها تحت عموم هذا الكلام ثم من يقول من راس : لا نسلم ثبوت الاستحقاق بلفظ الواقف نصا في شيء من الصور التي يعقبها استثناء أو شرط ; فإن اللفظ إنما يكون نصا إذا لم يتصل بما يغيره والتغيير محتمل فشرط كونه نصا مشكوك فيه ومتى كان شرط [ ص: 164 ] الحكم مشكوكا فيه لم يثبت ; فإنه لا نص مع احتمال التغيير ; لا سيما مثل هذا الاحتمال القوي الذي هو عند أكثر العلماء راجح . فإن قال : المقتضي لدخولهم قائم والمانع من خروجهم مشكوك فيه . قلت على قول من يمنع تخصيص العلة لا أسلم قيام المقتضي لدخولهم فإن المقتضي لدخولهم هو اللفظ الذي لم يوصل به ما يخرجهم فلا أعلم أن هذا اللفظ لم يوصل به ما يخرجهم حتى أعلم أن هذا الاستثناء لا يخرجهم وهذا الشرط مشكوك فيه .

                وأما على قول من يقول بتخصيصها فأسلم قيام المقتضي لكن شرط اقتضائه عدم المانع المعارض . وهنا ما يصلح أن يكون مانعا معارضا فما لم يقم دليل يبقى صلاحه للمعارضة وإلا لم يعمل المقتضي عمله والصلاح للمعارضة لا مزية فيه .

                وهذا البحث بعينه - وهو بحث القائلين بعود الاستثناء إلى جميع الجمل مع القاصرين على الجملة الأخيرة . ثم يقول من راس : إذا قال مثلا وقفت على أولادي ثم على الفقراء إلا الفساق - المنازع يقول : ولدي نص في أولاده والفساق يجوز أن يختص بالفقراء .

                فنقول له : هذا معارض بمثله ; فإن الفساق نص في جميع الفساق فإنه اسم جمع معرف باللام وإذا كان عاما وجب شموله لكل فاسق ; فدعوى اختصاصه بفساق الفقراء دون الأولاد يحتاج إلى مخصص .

                [ ص: 165 ] فليست المحافظة على عموم الأولاد لعدم العلم بالتخصيص بأولى من المحافظة على عموم الفساق لعدم العلم بالمخصص ; بل الراجح إخراجهم لأسباب .

                أحدها : أن الأصل عدم دخولهم في الوقف وقد تعارض عمومان في دخولهم وخروجهم فيسلم النافي لدخولهم عن معارض راجح .

                الثاني : أنا قد تيقنا خروجهم من إحدى الجملتين فكان أحد العمومين المعطوفين مخصوصا فإلحاق شريكه في التخصيص أولى من إدخال التخصيص على ما ليس بشريكه .

                الثالث : أن المعطوف والمعطوف عليه بمنزلة الجملة الواحدة فإذا ورد التخصيص عليها ضعفت ; بخلاف عموم المستثنى فإنه لم يرد عليه تخصيص .

                الرابع : كون الفسق مانعا يقتضي رجحانه عند الواقف على المقتضي للإعطاء فإذا تيقنا رجحانه في موضع كان ترجيحه في موضع آخر أولى من ترجيح ما لم يعرف رجحانه بحال .

                الخامس أن قوله : نص الواقف . إن عنى به ظاهر لفظه فعود الاستثناء إلى جميع الجمل ظاهر لفظه أيضا عند هذا القول فلا فرق بينهما . وإن عنى به النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فمعلوم أن [ ص: 166 ] كل لفظ يقبل الاستثناء فلا بد أن يكون إما عددا أو عموما والعمومات ظواهر ليست نصوصا .

                السادس قوله : لا يجوز تغييره بمحتمل متردد . نقول بموجبه ; فإن عود الاستثناء عندنا إلى جميع الجمل ليس بمحتمل متردد بل هو نص أيضا بالتفسير الأول . والدليل على ذلك غلبته على الاستعمال قال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } - إلى قوله - { ومن يفعل ذلك يلق أثاما } { يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } { إلا من تاب } وهو عائد إلى قوله : { يلق } و { يضاعف } { ويخلد } .

                وقال سبحانه : { أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } وقال تعالى : { أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } { خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون } { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وقال تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } - إلى قوله - { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فهذا استثناء قد تعقب عدة جمل .

                فإن معنى الجملة في هذا الباب هو اللفظ الذي يصح إخراج بعضه وهو الاسم العام . أو اسم العدد ; ليس معناه الجملة التي هي الكلام [ ص: 167 ] المركب من اسمين أو اسم وفعل أو اسم وحرف . وقد ثبت بما روي عن الصحابة أن قوله : { إلا الذين تابوا } في آية القذف عائد إلى الجملتين وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى } . وهذا كثير في الكتاب والسنة ; بل من تأمل غالب الاستثناءات الموجودة في الكتاب والسنة التي تعقبت جملا وجدها عائدة إلى الجميع . هذا في الاستثناء . فأما في الشروط والصفات فلا يكاد يحصيها إلا الله .

                وإذا كان الغالب على الكتاب والسنة وكلام العرب عود الاستثناء إلى جميع الجمل فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب ; لأن الاستثناء إما أن يكون موضوعا لهما حقيقة فالأصل عدم الاشتراك أو يكون موضوعا للأقل فقط فيلزم أن يكون استعماله في الباقي مجازا والمجاز على خلاف الأصل ; فكثرته على خلاف الأصل فإذا جعل حقيقة فيما غلب على استعماله فيه مجازا فيما قل استعماله فيه : كنا قد عملنا بالأصل النافي للاشتراك وبالأصل النافي للمجاز في صور التفاوت . وهو أولى من تركه مطلقا .

                [ ص: 168 ] وإذا ثبت أن عود الاستثناء إلى جميع الجمل نص بمعنى أنه ظاهر اللفظ فهو المطلوب . وليس الغرض هنا تقرير هذه المسألة وإنما الغرض التنبيه على مواضع المنع .

                وهذا البحث الذي ذكره وارد في كل تخصيص متصل ; فإنه ليس المحافظة على عموم المخصوص بأولى من المحافظة على عموم المخصص ; بل هذا أولى ; لأنه عام باق على عمومه ; ولأن ذكر التخصيص عقب كل جملة مستقبح . فلو قال : وقفت على أولادي على أنه من مات منهم عن ولد أو عن غير ولد كان نصيبه لولده أو لذوي طبقته ثم على ولد ولدي على هذا الشرط ثم على ولد ولد ولدي على هذا الشرط . لعد هذا من الكلام الذي غيره أفصح منه وأحسن .

                ثم يقال لمن نازعنا : ومعلوم قطعا أن عامة الواقفين يقصدون الاشتراط في جميع الطبقات ; ولا يعبرون بهذه العبارة المستغربة ; بل يقتصرون على ما ذكره أولا . فلولا أن ذلك كاف في تبليغ ما في نفوسهم لما اقتصروا عليه . والله يشهد - وكفى بالله شهيدا - أنا نتيقن أن الكلام في مسألتنا يقيني وأنه ليس من مسالك المظنون ; لكن في قدرة الله سبحانه أن يجعل اليقين عند قوم جهلا عند آخرين . ويعد الكلام على هذا تكلفا . ولولا أن الحاجة مست إلى ذلك بظن من يظن أن لمن ينازع في هذه المسألة متعلقا أو أنها مسألة من مسائل الاجتهاد [ لما أطلنا هذه الإطالة ] .



                [ ص: 169 ] فإن قيل : الذي يرجح عود الضمير إلى الجملة الأخيرة هنا : أن الجملة الأخيرة عطفت بالواو وعطف عليها بالواو فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب ; إذ الوقف ههنا مشترك بين البطون فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمى الوقفية على الجميع والكيفية مختلفة فاقتضى ذلك استقلالها بنفسها واختصاصها بما يعقبها : فإنه إذا تخلل الجمل الفصل بشرط كل جملة أوجب ذلك اختصاص الشرط الأخير وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام حينئذ . والاختلاف موجود ههنا .

                قيل عنه وجوه : أحدها أن قوله : عطفت بالواو وعطف عليها بالواو . يقتضي أنها هي لفظ النسل . فإن كان لفظ النسل والعقب بمعنى واحد فلم يعطف عليها في المعنى شيء . وإن كانا بمعنيين فيجب أن يكون الضمير عائدا إلى الجملة المعطوفة ; لا المعطوف عليها . الثاني قوله : فاقتضى ذلك مخالفتها للأولى في حكم الترتيب . قد تقدم منع ذلك . وذكرنا أن من الفقهاء من يجعل هذا الوقف مرتبا إلى يوم القيامة فإن قوله : ثم على أولاد أولاده ونسله وعقبه . لم يتعرض فيه للترتيب بنفي ولا إثبات ; لكن لما كان الأصل عدم الترتيب نفيناه عند الانطلاق . [ ص: 170 ] فلما رتب هنا في كلامه الأول - مع العلم بأن العاقل لا يفرق في مثل هذا بل يكتفي بما ذكره أولا - كان إعادة الشرط تسمح ; ولكن غرضنا هنا تقرير هذا .

                الثالث : [ لو ] سلمنا أنه يوجب الاشتراك بين المعطوف فلا يوجب ذلك اختلافهما في الحكم الذي اشتركا فيه بحرف العطف ; فإن غاية ما في هذا أنه جعل البطن الرابع وما بعده طبقة واحدة كما جعل في البطن الأول ولد الكبير والصغير . والولد الكبير والصغير طبقة واحدة ولم يرتب بعضهم على بعض باعتبار الأسنان . فقوله . فاقتضى ذلك مخالفتها لحكم الأولى في الترتيب . فيه إبهام ; فإنه إن عني به أن هذه الجملة بالنسبة إلى أفرادها مخالفة لتلك الجمل : فليس كذلك بل جملة . فإنها حاوية لأفرادها على سبيل الاشتراك لا على سبيل الترتيب . وإن عني به أن هذه الجملة لم يرتب عليها غيرها فالجملة الأولى لم تترتب على غيرها . وهذا إنما جاء من ضرورة كونها آخر الجمل وليس ذلك بفرق مؤثر . كما لم يكن كون الأولى غير مرتبة فرقا مؤثرا . وإن عني به أن هذه الجملة مشتملة على طبقات متفاوتة بخلاف الجمل الأولى فذلك فرق لا يعود إلى دلالة اللفظ ولا إلى الحكم المدلول عليه باللفظ مع أن الجمل الأولى قد يحصل فيها من التفاوت أكثر من ذلك فقد يكون أولاد الأولاد عشرين بين الأول والآخر سبعون سنة ويكون للأول [ ص: 171 ] أولاد قبل وجود إخوته فيموت أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده قبل انقراض إخوته . وربما لم يكن قد بقي من النسل والعقب إلا نفر يسير فينقرضون . ثم هذه فروق عادت إلى الموجود لا إلى دلالة اللفظ .

                الرابع قوله : فلم يبق بينها وبين الأولى من الأحكام إلا مسمى الوقفية . قيل : ليس بينهما فرق أصلا ; بل تناول الجملة الأولى لأفرادها كتناول الثانية لأفرادها ; لكن الجملة الثانية أكثر في الغالب . وهذا غير مؤثر . وقوله : الكيفية مختلفة . ممنوع ; فإن كيفية الوقف على الأولاد مثل كيفية الوقف على النسل والعقب : يشترك هؤلاء فيه وهؤلاء فيه . الخامس : لو سلم أن بينهما فرقا خارجا عن دلالة اللفظ فذلك لا يقدح في اشتراكهما في العطف ; فإن هذا الاختلاف في الكيفية لو كان صحيحا كان بمنزلة قوله : { كل نفس ذائقة الموت } فإن ذوق الميت يختلف اختلافا متباينا ; لكن هذا الاختلاف لا دلالة للفظ عليه فلم يمنع من الاشتراك الذي دل عليه العموم .

                السادس : أن الكيفية المختلفة مدلول عليها بالعطف وذلك لا يوجب الاستقلال والاختصاص بما يعقبها كما لو قال : وقفت على أولادي الذكور والإناث وأولاد بني وأولاد أولاد أولادي : على أنه من توفي منهم [ ص: 172 ] وإنما الفصل الذي يقطع الثانية عن الأولى أن يفصل بين الجملتين بشرط : مثل أن يقول : وقفت على أولادي على أن يكونوا فقراء ثم على أولاد أولادي على أن يكونوا عدولا . فإن الشرط الثاني مختص عما قبله ; لكون الأول قد عقب بشرطه . والفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بشرط يفصله عن مشاركة الثاني في جميع أحكامه ; بخلاف ما إذا كان الاختلاف من غير فصل لفظي . السابع قوله : وما ذاك إلا لاختلاف الأحكام . قلنا لا نسلم ; بل إنما ذاك لأجل الفصول اللفظية المانعة من الاشتراك فيما ذكر من الأحكام للفظ .

                أما إذا كان الفرق بين المعطوف والمعطوف عليه لمعنى يرجع إلى لفظ المعطوف : فهذا شأن كل معطوف ومعطوف عليه من جنسين . وفرق بين أن يفصل بين الجملتين بشرط مذكور وبين أن يكون مفهوم لفظ إحدى الجملتين غير مفهوم الأخرى . وهذا بين لمن تدبره .



                فإن قيل : هنا مرجح ثان وهو أن جعله مختص بالجملة الأخيرة يفيد ما لم يدل اللفظ عليه وهو منع اشتراك النسل في نصيب من مات عن غير ولد ; فإنه لولا هذا الشرط لاشتركوا في جميع حقهم المتلقى عمن فوقهم وعمن مات عن ولد أو غير ولد ; بخلاف ما إذا عاد إلى جميع [ ص: 173 ] الجمل ; فإنه يكون مؤكدا فقط ; فإنا كنا نجعل نصيب الميت عن غير ولد لطبقته . قيل عنه وجوه : أحدها : أنا قدمنا أن هذه الفائدة باطلة ; فإن العاقل لا يقول : هؤلاء أعلاهم وأسفلهم مشتركون في الوقف فمن مات عن غير ولد اختص بنصيبه إخوته ; دون آبائه وأعمامه . ومن مات عن ولد لم يختص بنصيبه أحد لا ولده ولا غيره ; فإن هذا لم يفعله أحد ولا يفعله من يستحضره فإنه بمنزلة [ من يقول : ] أعطوا البعيد مني ومن الميت واحرموا القريب مني ومن الميت . وقول القائل : يقصد مثل هذا في العادات . فما علمنا أحدا قصد هذا .

                الثاني : أنا قد منعنا كون هذا مقتضاه التشريك فتبطل الفائدة . الثالث : أن في عوده إلى جميع الجمل فوائد . أحدها : أنه يدل بنطقه على نقل نصيب الميت عن غير ولد إلى ذوي طبقته وتنبيهه الذي هو أقوى من النطق على نقل نصيب المتوفى عن ولد إلى ولده كما تقدم ذكره . [ ص: 174 ] الفائدة الثانية : أن قوله : على أولاده ثم أولاد أولاده - إلى قوله دائما ما تناسلوا وأبدا ما تعاقبوا . يقتضي استحقاق ذريته للوقف فإذا مات الميت وليس له إلا ذوي طبقته وأولاد أولاده : أفاد الشرط إخراج الطبقة ; فيبقى الأولاد داخلين في اللفظ الأول مع الثاني . فمجموع قوله : على أولادي ثم أولاد أولادي . مع قوله : على أن نصيب الميت عن غير ولد ينتقل إلى إخوته . دلنا على أن نصيب الميت عن ولد ينتقل إلى ولده ; لأنهم في عموم قوله : أولاد أولادي ودخلت الطبقة في العموم فلما خرجت الطبقة بالشرط بقي ولد الولد . وهكذا كل لفظ عام لنوعين أخرج أحدهما فإنه يتعين الآخر .

                وهذه دلالة ثانية على انتقال نصيب الميت عن ولد إلى ولده من جهة اللفظ العام الذي لم يبق فيه إلا هم وهي غير دلالة التنبيه . وإن شئت عبرت عن ذلك بأن تقول : نصيب الميت إما للأولاد أو لأولاد الأولاد كما دل على انحصار الوقف فيهما قوله : على أولادي ثم على أولادهم . فكما منع الأولاد أن ينتقل إليهم نصيب الميت عن ولد : تعين أن يكون للنوع الآخر . يبقى أن يقال : فقد يكون هناك من ليس من الطبقة ; ولا من الولد . قلنا : إذا ظهرت الفائدة في بعض الصور حصل المقصود وهي صورة مسألتنا فإنا لم نتكلم إلا في نصيب الميت : هل يصرف إلى إخوته أو ولده ؟ [ ص: 175 ] أما لو كان للميت عم - مثلا - فنقول : - حرمان طبقة الميت تنبيه على حرمان من هم أبعد عنه ; فإن طبقته لم يحرمهم لبعدهم من الوقف ; فإن الولد أبعد منهم . وقد بينا أن ذلك يقتضي إعطاء الولد في أكثر الصور فعلم أنه حرمهم لبعدهم عن الميت .

                وهذا المعنى في أعمام الميت أقوى فيكونون بالمنع مع الولد أحرى . الفائدة الثالثة : أنه دليل على أنه قصد ترتيب الأفراد على الأفراد ; لا ترتيب المجموع على المجموع كما لو قال : على أنه من مات منهم عن ولد كان نصيبه لولده . فإن قيل : هذا حمل اللفظ الواحد على مفهومين مختلفين فإن فائدته في الأول بيان ترتيب الأفراد على الأفراد وفي الثاني بيان اختصاص الطبقة بنصيب المتوفى . فمن منع من أن يراد باللفظ الواحد حقيقتان . أو مجازان أو حقيقة ومجاز : يمنع منه . ومن جوزه . قلنا : على هذا التقدير : إذا ثبت أمر بلفظ الواقف نصا لم يجز تغييره بمحتمل متردد . قيل هذا السؤال ضعيف جدا لوجوه : أحدها : أن مورده جعله مقررا لوجه ثان في بيان عود الضمير إلى الجملة الأخيرة ; غير ما ذكر أولا من عود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة . ثم إنه في آخر الأمر - على قول المجوزين لأن يراد باللفظ الواحد معنياه - اعتمد على ذلك الجواب فما صار وجها آخر .

                [ ص: 176 ] الثاني : أنا نقول : هذا مبني على أن الشرط أفاد في الطبقة الأخيرة عدد نصيب المتوفى عن غير ولد إلى ذوي طبقته . والمتوفى عن ولد يشترك فيه جميع الطبقة . وهذا ممنوع من وجهين تقدما . الثالث : لو سلمنا ذلك فليس هذا من باب استعمال اللفظ في معنيين مختلفين إنما هو من باب استعمال اللفظ الواحد في معنى واحد وذلك معدود من الألفاظ المتواطئة . وذلك أن فائدة اللفظ بمنطوقه نقل نصيب المتوفى عن غير ولد إلى طبقته . وهذه فائدة متجددة في جميع الجمل . ثم إن تقيد الانتقال إلى الطبقة بوجود الولد دليل على أنه عنى ترتيب الأفراد . وهذه دلالة لزومية . واللفظ إذا دل بالمطابقة على معنى وبالالتزام على معنى آخر لم يكن هذا من القسم المختلف فيه كعامة الألفاظ فإن كونه دليلا على ترتيب الأفراد إنما جاء من جهة أنه شرط في استحقاق الطبقة نصيب المتوفى عدم ولده . ثم علم بالعقل أنه لو قصد ترتيب المجموع لم يشرطه بهذا الشرط ; فإن ترتيب المجموع واشتراط هذا الشرط متنافيان وكون هذين المعنيين يتنافيان قضية عقلية فهمت بعد تصور كل واحد من المعنيين ; لأن أحد اللفظين دل عليهما بالوضع .

                وهذا كما فهموا من قوله { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله تعالى { يرضعن أولادهن حولين كاملين } أن أقل الحمل ستة أشهر . ونظائره كثيرة . [ ص: 177 ] الرابع : لو فرض أن هذا من " باب استعمال اللفظ الواحد في معنييه " فلا نسلم أن منع ذلك هو الحق ; بل ليس ذلك مذهب أحد من الأئمة المعتبرين ; وإنما هو قول طائفة من المتكلمين . والذي يدل عليه كلام عامة الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء وعامة أهل اللغة وأكثر المتكلمين جواز ذلك فلم لا يجوز أن يحمل كلامه على ما يعتقد هو صحته ويناظر عليه . الخامس : أن ما ادعوه من أن النص لا يدفع بمحتمل . تقدم جوابه وبينا أنه لا نص هنا ; بل يدفع المحتمل بالنص . وذكرنا أن هذا البحث هو المنصوص عن الأئمة الكبار الفائدة الرابعة : أنه قصد بهذا الشرط نفي انقطاع الوقف ونفي اشتراك جميع أهل الوقف في نصيب المتوفى عن غير ولد ونبه بذلك على أنه عنى بقوله عن : ولده . ترتيب الأفراد .

                فإن قيل : عوده إلى جميع الجمل يوجب انقطاع الوقف في الوسط فحمل اللفظ على ما ينفي الانقطاع أولى ; لأن من مات عن ولد لا يصرف نصيبه إلى الطبقة عملا بموجب الشرط ولا إلى الولد عملا بموجب الترتيب المطلق . فإن قلتم : إذا جعلناه مبنيا لترتيب الأفراد لم يكن موجبا للانقطاع [ ص: 178 ] فنجيب عنه بالبحث المتقدم وهو أن استحقاق الطبقة مستحق لظاهر اللفظ فلا يترك بمتردد محتمل . قيل : أولا هذا الوجه لا يتم إلا بهذا البحث وهو إنما ذكر ليكون مؤيدا له والمؤيد للشيء يجب أن يكون غيره ولا يكون معتمدا عليه . فإذا كان الوجه لا يتم إلا بذلك البحث كانت صحته موقوفة على صحته والفرع لا يكون أقوى من أصله ولا يكسبه قوة ; بل يكون تقوية ذلك الوجه به تقوية الشيء بنفسه . وهذا نوع من المصادرة . وإذا كان هذا مبنيا على ذلك الوجه وقد أجبنا عنه فيما مضى : فقد حصل الجواب عن هذا . ثم نقول : الانتفاع ينتفي من ثلاثة أوجه :

                أحدها : أن الوقف محصور في الأولاد ثم أولادهم . فإذا مات الميت عن ولد فنصيبه إما لإخوته أو لبنيهم أو لبنيه أو لعمومته ; لأن الشرط يقتضي انحصار الوقف في الأولاد ثم أولاد الأولاد . وهم إما ذو طبقته أو من هو أعلى منه : عمومته ونحوهم ; فإنه لا يستحق شيئا مع وجود أبيه ومن هو أسفل منه : ولده وولد إخوته وطبقتهم . فأما طبقته فانتفوا بالقيد المذكور في استحقاقهم . وأما بنوهم فانتفوا لثلاثة أسباب [ ص: 179 ] أحدها : بطريق التنبيه ; فإن أباهم أقرب إلى الميت وإلى الواقف . فإذا لم ينقل إلى الأقرب فإلى الأبعد أولى . والثاني : أنه سواء عنى بالترتيب ترتيب المجموع أو ترتيب الأفراد لا يستحقون في هذه الحال ; فإن الطبقة العليا لم تنقرض وآباؤهم لم يموتوا . الثالث أنهم في هذه الحال ليسوا من أهل الوقف ولم ينتقل إليهم ما هم أصل فيه فلا ينتقل إليهم ما هم فروع فيه .

                وأما العمومة فإنه لا يتصور أن يستحق الميت شيئا مع وجود عمومته إلا على قولنا ففرض هذه الصورة على رأي المنازع محال . وإذا كان وجود العمومة مستلزما لصحة هذا القول : فمحال أنه يستلزم ذلك ما يفسده ; فإن الشيء الواحد لا يستلزم صحة الشيء وفساده ; لكن يقال : قد كان الميت أولا لم يخلف إلا إخوة وولدا ثم مات ولده عن ولد وأعمامه . فنقول : حرمان الإخوة مع الولد تنبيه على حرمان العمومة . وهذا حقيقة الجواب : أن نفي إخوته تنبيه على نفي عمومته كما تقدم . الوجه الثاني : - النافي للانقطاع - أن إعطاء الإخوة نصيب الميت دون سائر أهل الوقف تنبيه على إعطاء الولد كما تقدم . [ ص: 180 ] الثالث : أن ذلك دليل على أن الترتيب المتقدم : ترتيب الأفراد على الأفراد . وقد قدمنا تقرير هذا . والله سبحانه يوفقنا لما يحبه ويرضاه . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .




                الخدمات العلمية