الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                قال أبو المعالي : ( باب ) في ذكر الأسماء والأحكام : اعلم أن غرضنا في هذا الباب يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان . قال : وهذا مما تباينت فيه مذاهب الإسلاميين ثم ذكر قول الخوارج والمعتزلة والكرامية ثم قال : وأما مذاهب أصحابنا فصار أهل التحقيق من أصحاب الحديث والنظار منهم إلى أن الإيمان هو التصديق وبه قال شيخنا أبو الحسن رحمة الله عليه واختلف رأيه في معنى التصديق ; وقال مرة : المعرفة بوجوده وقدمه وإلهيته . وقال مرة : التصديق : قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح أن يوجد دونها وهذا مقتضاه ; فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر [ ص: 146 ] فالتصديق إذا قول في النفس يعبر عنه باللسان فتوصف العبادة بأنها تصديق لأنها عبارة عن التصديق : وقال بعض أصحابنا : التصديق لا يتحقق إلا بالقول والمعرفة جميعا فإذا اجتمعا كانا تصديقا واحدا . ومنهم من اكتفى بترك العناد ; فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان فيقول : الإيمان هو التصديق بالقلب وأوجب ترك العناد بالشرع وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله وإنما يكفر بالعناد لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان .

                وعلى هذا الأصل يقال : إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنهم كفروا عنادا وبغيا وحسدا . قال وعلى قول شيخنا أبي الحسن : كل من حكمنا بكفره فنقول : إنه لا يعرف الله أصلا ولا عرف رسوله ولا دينه . قال أبو القاسم الأنصاري تلميذه : كأن المعنى : لا حكم لإيمانه ولا لمعرفته شرعا . قلت : وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا ولكن على قولهم : المعاند كافر شرعا فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الذي في القلب وتارة بالعناد ، ويجعل هذا كافرا في الشرع وإن كان معه حقيقة الإيمان الذي هو التصديق ويلزمه أن يكون كافرا في الشرع مع أن معه الإيمان الذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة . والحذاق في هذا المذهب ; كأبي الحسن والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل [ ص: 147 ] فقالوا : لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره ; فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء وقالوا : هذا مكابرة وسفسطة . وقد احتجوا على قولهم بقوله تعالى : { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } إلى قوله : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } الآية . قالوا : ومفهوم هذا أن من لم يعمل بمقتضاه لم يكتب في قلوبهم الإيمان . قالوا : فإن قيل معناه لا يؤمنون إيمانا مجزئا معتدا به أو يكون المعنى : لا يؤدون حقوق الإيمان ولا يعملون بمقتضاه .

                قلنا : هذا عام لا يخصص إلا بدليل . فيقال لهم : هذه الآية فيها نفي الإيمان عمن يواد المحادين لله ورسوله وفيها أن من لا يواد المحادين لله ورسوله فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وهذا يدل على مذهب السلف أنه لا بد في الإيمان من محبة القلب لله ولرسوله ومن بغض من يحاد الله ورسوله ثم لم تدل الآية على أن العلم الذي في قلوبهم بأن محمدا رسول الله يرتفع لا يبقى منه شيء والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق بل هو تصديق القلب وعمل القلب ولهذا قال : { وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } فقد وعدهم بالجنة . وقد اتفق الجميع على أن الوعد بالجنة لا يكون إلا مع الإتيان بالمأمور به وترك المحظور ; فعلم أن هؤلاء الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه قد أدوا الواجبات التي بها يستحقون ما وعد الله به الأبرار المتقين ودل هذا على أن الفساق لم يدخلوا في هذا الوعد ودلت هذه الآية على أنه لا يوجد مؤمن يواد الكفار ومعلوم أن خلقا كثيرا من الناس يعرف من نفسه أن التصديق في قلبه لم يكذب الرسول وهو مع هذا يواد بعض الكفار ; فالسلف يقولون : ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب - الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك - لا يستلزم ألا يكون في القلب من التصديق شيء وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا وهذا سفسطة عند جماهير العقلاء .

                وكذلك حكى ابن فورك عن أبي الحسن الأشعري قال : الإيمان هو اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به اعتقادا هو علم ومنه اعتقاد ليس بعلم ; والإيمان بالله - وهو اعتقاد صدقه - إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في أخباره وإنما يكون كذلك إذا كان عالما بأنه يتكلم ، والعلم بأنه متكلم بعد العلم بأنه حي ; والعلم بأنه حي بعد العلم بأنه فاعل ، والعلم بأنه فاعل بعد العلم بالفعل ، وهو كون العالم فعلا له وقال : وكذلك يتضمن العلم بكونه قادرا وله قدرة وعالما وله [ ص: 149 ] علم ومريدا وله إرادة وسائر ما لا يصح العلم بالله إلا بعد العلم به من شرائط الإيمان . قلت : هذا مما اختلف فيه قول الأشعري وهو أن الجهل ببعض الصفات هل يكون جهلا بالموصوف أم لا ؟ على قولين والصحيح الذي عليه الجمهور وهو آخر قوليه أنه لا يستلزم الجهل بالموصوف . وجعل إثبات الصفات من الإيمان مما خالف فيه الأشعري جهما فإن جهما غال في نفي الصفات بل وفي نفي الأسماء . قال أبو الحسن : ثم السمع ورد بضم شرائط أخر إليه وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا وتركا وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم فلو أتى به دل على كفره وكذلك من قتل نبيا أو استخف به دل على كفره وكذلك لو ترك تعظيم المصحف أو الكعبة دل على كفره .

                قال : وأحد ما استدللنا به على كفره ما منع الشرع أن يقرن بالإيمان أو أوجب ضمه إلى الإيمان لو وجد دلنا ذلك على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه وكذلك كل ما كفر به المخالف من طريق التأويل فإنما كفرناه به لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه ; لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه . فيقال : لا ريب أن الشارع لا يقضي بكفر من معه الإيمان بقلبه لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق وإن تجرد عن جميع أعمال القلب غلط ، ولهذا قالوا : أعمال التصديق والمعرفة من قلبه ألا ترى أن الشريعة حكمت بكفره ; والشريعة لا تحكم بكفر المؤمن المصدق ; ولهذا نقول : إن كفر إبليس [ ص: 150 ] لعنه الله كان أشد من كفر كل كافر وأنه لم يعرف الله بصفاته قطعا ولا آمن به إيمانا حقيقيا باطنا وإن وجد منه القول والعبادة وكذلك اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من الكفرة لم يوجد في قلوبهم حقيقة الإيمان المعتد به في حال حكمنا لهم بالكفر .

                قال الله تعالى : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } وقوله : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } الآية فجعل الله هذه الأمور شرطا في ثبوت حكم الإيمان فثبت أن الإيمان المعرفة بشرائط لا يكون معتدا به دونها . فيقال : إن قلتم : إنه ضم إلى معرفة القلب شروطا في ثبوت الحكم أو الاسم لم يكن هذا قول جهم ; بل يكون هذا قول من جعل الإيمان - كالصلاة والحج هو - وإن كان في اللغة بمعنى القصد والدعاء لكن الشارع ضم إليه أمورا إما في الحكم وإما في الحكم والاسم ; وهذا القول قد سلم صاحبه أن حكم الإيمان المذكور في الكتاب والسنة لا يثبت بمجرد تصديق القلب ; بل لا بد من تلك الشرائط ، وعلى هذا فلا يمكنه جعل الفاسق مؤمنا إلا بدليل يدل على ذلك لا بمجرد قوله : إن معه تصديق القلب ومن جعل الإيمان هو تصديق القلب يقول : كل كافر في النار ليس معهم من التصديق بالله شيء لا مع إبليس ولا مع غيره . وقد قال الله تعالى : { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد } وقال تعالى : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } . فقد اعترفوا بأن الرسل أتتهم وتلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم لقاء يومهم هذا ; فقد عرفوا الله ورسوله واليوم الآخر وهم في الآخرة كفار . وقال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء } فقد كذبوا بوجوده وكذبوا بتنزيله .

                وأما في الآخرة فعرفوا الجميع . وقال تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } وقال تعالى : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } إلى قوله : { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } إلى آيات أخر كثيرة تدل على أن الكفار في الآخرة يعرفون ربهم فإن كان مجرد المعرفة إيمانا كانوا مؤمنين في الآخرة . فإن قالوا : الإيمان في الآخرة لا ينفع وإنما الثواب على الإيمان في الدنيا . قيل : هذا صحيح لكن إذا لم يكن الإيمان إلا مجرد العلم ; فهذه الحقيقة لا تختلف فإن لم يكن العمل من الإيمان فالعارف في الآخرة لم يفته شيء من الإيمان . لكن أكثر ما يدعونه أنه حين مات لم يكن في قلبه من التصديق بالرب شيء . ونصوص القرآن في غير موضع تدل على أن الكفار كانوا في الدنيا مصدقين بالرب حتى فرعون الذي أظهر التكذيب كان في باطنه مصدقا . قال تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } وكما قال موسى لفرعون : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } ومع هذا لم يكن مؤمنا ; بل قال موسى : { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } قال الله : { قد أجيبت دعوتكما } ولما قال فرعون : { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } .

                قال الله : { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } . فوصفه بالمعصية ولم يصفه بعدم العلم في الباطن كما قال : { فعصى فرعون الرسول } وكما قال عن إبليس : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } { إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين } فلم يصفه إلا بالإباء والاستكبار ومعارضته الأمر ، لم يصفه بعدم العلم وقد أخبر الله عن الكفار في غير موضع أنهم كانوا معترفين بالصانع في مثل قوله : { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } . ثم يقال لهم : إذا قلتم هو التصديق بالقلب أو باللسان أو بهما ; فهل هو التصديق المجمل ؟ أو لا بد فيه من التفصيل ؟ فلو صدق أن محمدا رسول الله ولم يعرف صفات الحق هل يكون مؤمنا أم لا ؟ فإن جعلوه مؤمنا . قيل : فإذا بلغه ذلك فكذب به لم يكن مؤمنا باتفاق المسلمين فصار بعض الإيمان أكمل من بعض ; وإن قالوا : لا يكون مؤمنا لزمهم أن لا يكون أحد مؤمنا حتى يعرف تفصيل كل ما أخبر به الرسول ; ومعلوم أن أكثر الأمة لا يعرفون ذلك وعندهم الإيمان لا يتفاضل إلا بالدوام فقط . قال أبو المعالي : فإن قال القائل : أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان المنهمك في فسقه كإيمان النبي صلى الله عليه وسلم . [ ص: 153 ] قلنا : الذي يفضل إيمانه على إيمان من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الريب ، والتصديق عرض من الأعراض لا يبقى وهو متوال للنبي صلى الله عليه وسلم ثابت لغيره في بعض الأوقات وزائل عنه في أوقات الفترات فيثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من التصديق ولا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه لذلك أكثر وأفضل ; قال : ولو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان وأريد به ذلك كان مستقيما . قلت : فهذا هو الذي يفضل به النبي غيره في الإيمان عندهم ومعلوم أن هذا في غاية الفساد من وجوه كثيرة كما قد بسط في مواضع أخرى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية