الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 340 ] والمقصود أنه قد يكون من الإيمان ما يؤمر به بعض الناس ويذم على تركه ولا يذم عليه بعض الناس ممن لا يقدر عليه ويفضل الله ذاك بهذا الإيمان وإن لم يكن المفضول ترك واجبا فيقال : وكذلك في الأعمال الظاهرة يؤمر القادر على الفعل بما لا يؤمر به العاجز عنه ويؤمر بعض الناس بما يؤمر به غيره ; لكن الأعمال الظاهرة قد يعطى الإنسان مثل أجر العامل إذا كان يؤمن بها ويريدها جهده ولكن بدنه عاجز كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : وهم بالمدينة حبسهم العذر } وكما قال تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } فاستثنى أولي الضرر . وفي " الصحيحين " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا } .

                وفي حديث أبي كبشة الأنماري : { هما في الأجر سواء وهما في الوزر سواء } رواه الترمذي وصححه ولفظه : { إنما الدنيا لأربعة : رجل آتاه الله علما ومالا فهو يتقي في ذلك المال ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء وعبد [ ص: 341 ] رزقه الله مالا ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء } . ولفظ ابن ماجه : { مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر : رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول : لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما في الأجر سواء ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما فهو يختبط في ماله ينفقه في غير حقه ورجل لم يؤته علما ولا مالا وهو يقول : لو كان لي مثل مال هذا عملت مثل الذي يعمل فهما في الوزر سواء } . كالشخصين إذا تماثلا في إيمان القلوب معرفة وتصديقا وحبا وقوة وحالا ومقاما فقد يتماثلان وإن كان لأحدهما من أعمال البدن ما يعجز عنه بدن الآخر كما جاء في الأثر : إن المؤمن قوته في قلبه وضعفه في جسمه والمنافق قوته في جسمه وضعفه في قلبه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { ليس الشديد ذو الصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } وقد قال : { رأيت كأني أنزع على قليب فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له فأخذها ابن الخطاب فاستحالت في [ ص: 342 ] يده غربا فلم أر عبقريا يفري فريه حتى صدر الناس بعطن } فذكر أن أبا بكر أضعف وسواء أراد قصر مدته أو أراد ضعفه عن مثل قوة عمر فلا ريب أن أبا بكر أقوى إيمانا من عمر .

                وعمر أقوى عملا منه كما قال ابن مسعود : مازلنا أعزة منذ أسلم عمر ; وقوة الإيمان أقوى وأكمل من قوة العمل وصاحب الإيمان يكتب له أجر عمل غيره ، وما فعله عمر في سيرته مكتوب مثله لأبي بكر فإنه هو الذي استخلفه .

                وفي " المسند " من وجهين عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن النبي صلى الله عليه وسلم وزن بالأمة فرجح ثم وزن أبو بكر بالأمة فرجح ثم وزن عمر بالأمة فرجح } وكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد موته يحصل لعمر بسبب أبي بكر من الإيمان والعلم ما لم يكن عنده فهو قد دعاه إلى ما فعله من خير وأعانه عليه بجهده والمعين على الفعل إذا كان يريده إرادة جازمة كان كفاعله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } وقال : { من دل على خير فله مثل أجر فاعله } وقال : { من فطر صائما فله مثل أجره } .

                وقد روى الترمذي { من عزى مصابا فله مثل أجره } وهذا وغيره مما يبين أن الشخصين قد يتماثلان في الأعمال الظاهرة بل يتفاضلان ويكون المفضول فيها أفضل عند الله من الآخر لأنه أفضل في الإيمان الذي في القلب وأما إذا تفاضلا في إيمان القلوب فلا يكون المفضول فيها أفضل عند الله ألبتة [ ص: 343 ] وإن كان المفضول لم يهبه الله من الإيمان ما وهبه للفاضل ولا أعطى قلبه من الأسباب التي بها ينال ذلك الإيمان الفاضل ما أعطى المفضول ولهذا فضل الله بعض النبيين على بعض وإن كان الفاضل أقل عملا من المفضول كما فضل الله نبينا صلى الله عليه وسلم - ومدة نبوته بضع وعشرون سنة - على نوح وقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وفضل أمة محمد وقد عملوا من صلاة العصر إلى المغرب على من عمل من أول النهار إلى صلاة الظهر وعلى من عمل من صلاة الظهر إلى العصر فأعطى الله أمة محمد أجرين وأعطى كلا من أولئك أجرا أجرا لأن الإيمان الذي في قلوبهم كان أكمل وأفضل وكان أولئك أكثر عملا ; وهؤلاء أعظم أجرا وهو فضله يؤتيه من يشاء بالأسباب التي تفضل بها عليهم وخصهم بها . وهكذا سائر من يفضله الله تعالى فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفضيل بالجزاء كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص ; وغير ذلك مما يفضله الله به وإنما فضله في الجزاء بما فضل به من الإيمان . كما قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله } وقال في الآية الأخرى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } وقال : { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وقال : { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } .

                [ ص: 344 ] وقد بين في مواضع أسباب المغفرة وأسباب العذاب وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب وقد عرف أنه قد يخص من يشاء بأسباب الرزق . وإذا كان من الإيمان ما يعجز عنه كثير من الناس ويختص الله به من يشاء فذلك مما يفضلهم الله به وذلك الإيمان ينفي عن غيرهم لكن لا على وجه الذم بل على وجه التفضيل فإن الذم إنما يكون على ترك مأمور أو فعل محظور . لكن على ما ذكره أبو طالب . يقال : فمثل هؤلاء مسلمون لا مؤمنون باعتبار ويقال : إنهم مؤمنون باعتبار آخر وعلى هذا ينفى الإيمان عمن فاته الكمال المستحب ; بل الكمال الذي يفضل به على من فاته وإن كان غير مقدور للعباد بل ينفى عنه الكمال الذي وجب على غيره وإن لم يكن في حقه لا واجبا ولا مستحبا لكن هذا لا يعرف في كلام الشارع ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان فلا ينفى إلا عمن له ذنب فتبين أن قوله : " أو مسلم " توقف في أداء الواجبات الباطنة والظاهرة كما قال جماهير الناس . ثم طائفة يقولون : قد يكون منافقا ليس معه شيء من الإيمان وهم الذين يقولون : الأعراب المذكورون منافقون ليس معهم من الإيمان شيء وهذا هو القول الذي نصره طائفة كمحمد بن نصر والأكثرون يقولون : بل هؤلاء لم يكونوا من المنافقين الذين لا يقبل منهم شيء من أعمالهم وإن كان فيهم شعبة نفاق ; بل كان معهم تصديق يقبل معه منهم ما عملوه لله ولهذا جعلهم مسلمين ; ولهذا قال : { أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } كما [ ص: 345 ] قالوا مثل ذلك في الزاني والسارق وغيرهما ممن نفي عنه الإيمان مع أن معه التصديق .

                وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم . وأبو طالب جعل من كان مذموما لترك واجب من المؤلفة قلوبهم الذين لم يعطوا شيئا وجعل ذلك الشخص مؤمنا غيره أفضل منه . وأما الأكثرون فيقولون : إثبات الإسلام لهم دون الإيمان كإثباته لذلك الشخص كان مسلما لا مؤمنا كلاهما مذموم لا لمجرد أن غيره أفضل منه . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا } ولم يسلب عمن دونه الإيمان . وقال تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } . فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول وهذا متفق عليه بين المسلمين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر } { وقال لسعد بن معاذ لما حكم في بني قريظة : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة } وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية : { إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ; ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك } . وهذه الأحاديث الثلاثة في " الصحيح " وفي حديث سليمان عليه السلام وأسألك حكما يوافق حكمك . فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم [ ص: 346 ] بإحسان أن أحد الشخصين قد يخصه الله باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه ; وذلك العلم الذي خص به هذا والعمل به باطنا وظاهرا زيادة في إيمانه وهو إيمان يجب عليه لأنه قادر عليه . وغيره عاجز عنه فلا يجب . فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه .

                وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه كلاهما محمود مثاب مؤمن وذلك خصه الله من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا ; وذلك المخطئ لا يستحق ذما ولا عقابا وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب كما خص الله أمة نبينا بشريعة فضلها به ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئا ; لكان ذلك سببا للذم والعقاب ; والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك لكن محمد صلى الله عليه وسلم فضله الله على الأنبياء وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء ولا لمن اتبعهم من الأمم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية