الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                و " المرجئة " أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان ; فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بين ومن قصد إخراج العمل الظاهر قيل لهم العمل الظاهر لازم للعمل الباطن لا ينفك عنه وانتفاء الظاهر دليل انتفاء الباطن [ ص: 555 ] فبقي النزاع في أن العمل الظاهر هل هو جزء من مسمى الإيمان يدل عليه بالتضمن أو لازم لمسمى الإيمان . و " التحقيق " أنه تارة يدخل في الاسم وتارة يكون لازما للمسمى - بحسب إفراد الاسم واقترانه - فإذا قرن الإيمان بالإسلام كان مسمى الإسلام خارجا عنه كما في حديث جبريل وإن كان لازما له وكذلك إذا قرن الإيمان بالعمل كما في قوله : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فقد يقال : اسم الإيمان لم يدخل فيه العمل وإن كان لازما له ; وقد يقال : بل دخل فيه وعطف عليه عطف الخاص على العام ; وبكل حال فالعمل تحقيق لمسمى الإيمان وتصديق له ولهذا قال طائفة من العلماء - كالشيخ أبي إسماعيل الأنصاري ؟ وغيره - : الإيمان كله تصديق فالقلب يصدق ما جاءت به الرسل ، واللسان يصدق ما في القلب ، والعمل يصدق القول كما يقال : صدق عمله قوله . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { العينان تزنيان وزناهما النظر والأذنان تزنيان وزناهما السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه } والتصديق يستعمل في الخبر وفي الإرادة يقال : فلان صادق العزم وصادق المحبة وحملوا حملة صادقة .

                و " السلف " اشتد نكيرهم على المرجئة لما أخرجوا العمل من الإيمان وقالوا إن الإيمان يتماثل الناس فيه ولا ريب أن قولهم بتساوي إيمان الناس [ ص: 556 ] من أفحش الخطأ بل لا يتساوى الناس في التصديق ولا في الحب ولا في الخشية ولا في العلم ; بل يتفاضلون من وجوه كثيرة . و " أيضا " فإخراجهم العمل يشعر أنهم أخرجوا أعمال القلوب أيضا وهذا باطل قطعا فإن من صدق الرسول وأبغضه وعاداه بقلبه وبدنه فهو كافر قطعا بالضرورة وإن أدخلوا أعمال القلوب في الإيمان أخطئوا أيضا ; لامتناع قيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن . وليس المقصود هنا ذكر كل معين ; بل من كان مؤمنا بالله ورسوله بقلبه هل يتصور إذا رأى الرسول وأعداءه يقاتلونه وهو قادر على أن ينظر إليهم ويحض على نصر الرسول بما لا يضره هل يمكن مثل هذا في العادة إلا أن يكون منه حركة ما إلى نصر الرسول ؟ فمن المعلوم أن هذا ممتنع ; فلهذا كان الجهاد المتعين بحسب الإمكان من الإيمان وكان عدمه دليلا على انتفاء حقيقة الإيمان بل قد ثبت في الصحيح عنه { من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة نفاق } وفي الحديث دلالة على أنه يكون فيه بعض شعب النفاق مع ما معه من الإيمان ومنه قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } . و " أيضا " فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [ ص: 557 ] { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وفي رواية وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل } . فهذا يبين أن القلب إذا لم يكن فيه بغض ما يكرهه الله من المنكرات كان عادما للإيمان والبغض والحب من أعمال القلوب . ومن المعلوم أن إبليس ونحوه يعلمون أن الله عز وجل حرم هذه الأمور ولا يبغضونها بل يدعون إلى ما حرم الله ورسوله . و " أيضا " فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله ; والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفرا في الباطن ولكنه دليل في الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم في الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به فإذا أقيمت عليهم حجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا .

                قالوا : هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك ; فيقال لهم : معنا أمران معلومان . ( أحدهما ) : معلوم بالاضطرار من الدين . و ( الثاني ) معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل . أما " الأول " : فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعا بغير كره ; بل من تكلم بكلمات الكفر طائعا غير مكره ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو [ ص: 558 ] كافر باطنا وظاهرا وأن من قال : إن مثل هذا قد يكون في الباطن مؤمنا بالله وإنما هو كافر في الظاهر فإنه قال قولا معلوم الفساد بالضرورة من الدين . وقد ذكر الله كلمات الكفار في القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها ولو كانت أقوالهم الكفرية بمنزلة شهادة الشهود عليهم أو بمنزلة الإقرار الذي يغلط فيه المقر لم يجعلهم الله من أهل الوعيد بالشهادة التي قد تكون صدقا وقد تكون كذبا بل كان ينبغي أن لا يعذبهم إلا بشرط صدق الشهادة وهذا كقوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وأمثال ذلك . وأما " الثاني " : فالقلب إذا كان معتقدا صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محبا لرسول الله معظما له امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيمانا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب . و " أيضا " فإن الله سبحانه قال : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } وقال : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } فتبين أن الطاغوت يؤمن به ويكفر به . ومعلوم أن مجرد التصديق بوجوده وما هو عليه من الصفات يشترك فيه المؤمن والكافر ; فإن الأصنام والشيطان والسحر يشترك في العلم بحاله المؤمن والكافر . وقد قال الله تعالى في السحر : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إلى قوله : { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة ومع هذا فيكفرون .

                وكذلك المؤمن بالجبت والطاغوت إذا كان عالما بما يحصل بالسحر من التفريق بين المرء وزوجه ونحو ذلك من الجبت وكان عالما بأحوال الشيطان والأصنام وما يحصل بها من الفتنة لم يكن مؤمنا بها مع العلم بأحوالها . ومعلوم أنه لم يعتقد أحد فيها أنها تخلق الأعيان وأنها تفعل ما تشاء ونحو ذلك من خصائص الربوبية ولكن كانوا يعتقدون أنه يحصل بعبادتها لهم نوع من المطالب كما كانت الشياطين تخاطبهم من الأصنام وتخبرهم بأمور . وكما يوجد مثل ذلك في هذه الأزمان في الأصنام التي يعبدها أهل الهند والصين والترك وغيرهم وكان كفرهم بها الخضوع لها والدعاء والعبادة واتخاذها وسيلة ونحو ذلك لا مجرد التصديق بما يكون عند ذلك من الآثار فإن هذا يعلمه العالم من المؤمنين ويصدق بوجوده لكنه يعلم ما يترتب على ذلك من الضرر في الدنيا والآخرة فيبغضه ; والكافر قد يعلم وجود ذلك الضرر لكنه يحمله حب العاجلة على الكفر . يبين ذلك قوله : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } { [ ص: 560 ] ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون } { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } فقد ذكر تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة ثم قال { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } . وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا .

                ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض وهؤلاء يقولون إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم وإن كان ذلك قد يكون سببه حب الدنيا على الآخرة والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق . و " أيضا " فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكره ; لأن الإكراه على ذلك ممتنع فعلم أن التكلم بالكفر كفر لا في حال الإكراه . وقوله تعالى { ولكن من شرح بالكفر صدرا } أي : لاستحبابه الدنيا على الآخرة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم { يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا } والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح وأمثالهما من المؤمنين [ ص: 561 ] المستضعفين لما أكرههم المشركون على سب النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك من كلمات الكفر فمنهم من أجاب بلسانه كعمار ومنهم من صبر على المحنة كبلال ولم يكره أحد منهم على خلاف ما في قلبه بل أكرهوا على التكلم فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به .

                وأيضا فقد { جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا : نشهد إنك لرسول ولم يكونوا مسلمين بذلك ; لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم أي نعلم ونجزم أنك رسول الله قال : فلم لا تتبعوني ؟ قالوا : نخاف من يهود } فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم . فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين فكانوا كفارا في الباطن وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين فكانوا كفارا في الظاهر والباطن وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد وأنشد عنه :

                ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

                لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حبا لدين سلفه وكراهة أن يعيره قومه فلما لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمنا . [ ص: 562 ] وأما إبليس وفرعون واليهود ونحوهم فما قام بأنفسهم من الكفر وإرادة العلو والحسد منع من حب الله وعبادة القلب له الذي لا يتم الإيمان إلا به وصار في القلب من كراهية رضوان الله واتباع ما أسخطه ما كان كفرا لا ينفع معه العلم .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية