الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 641 ] سئل رحمه الله عن ( الإيمان بالله ورسوله هل فوقه مقام من المقامات أو حال من الأحوال أم لا ؟ وهل يدخل فيه جميع المقامات والأحوال المحمودة عند الله ورسوله أم لا ؟ وهل تكون صفة الإيمان نورا يوقعه الله في قلب العبد ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل أم لا ؟ وهل يكون لأول حصوله سبب من الأسباب - مثل رؤية أهل الخير أو مجالستهم وصحبتهم أو تعلم عمل من الأعمال أو غير ذلك ؟ . فإن كان لأول حصوله سبب فما هو ذلك السبب ؟ وما الأسباب أيضا التي يقوى بها الإيمان - إلى أن يكمل على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد حتى يصححه ؟ أم بالعلم حتى يرسخ فيه ؟ أم بالعبادة حتى يجهد نفسه ؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ أم كيف يتوصل إلى حقيقة الإيمان الذي مدحه الله ورسوله ؟ بينوا لنا الأسباب وأنواعها وشرحها التي يتوصل بها إلى حقيقة الإيمان وما وصف صاحبه - رضي الله عنكم

                [ ص: 651 ]

                التالي السابق


                [ ص: 642 ] فأجاب الحمد لله رب العالمين اسم " الإيمان " يستعمل مطلقا ويستعمل مقيدا وإذا استعمل مطلقا فجميع ما يحبه الله ورسوله من أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة يدخل في مسمى الإيمان عند عامة السلف والأئمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين يجعلون الإيمان قولا وعملا يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ويدخلون جميع الطاعات فرضها ونفلها في مسماه وهذا مذهب الجماهير من أهل الحديث والتصوف والكلام والفقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم . ويدخل في ذلك ما قد يسمى مقاما وحالا مثل الصبر والشكر والخوف والرجاء والتوكل والرضا والخشية والإنابة والإخلاص والتوحيد وغير ذلك . ومن هذا ما خرج في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال : { الإيمان بضع وستون - أو بضع وسبعون - شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان } . فذكر أعلى شعب الإيمان وهو قول لا إله إلا الله فإنه لا شيء أفضل منها كما في الموطأ وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الدعاء دعاء يوم [ ص: 643 ] عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } وفي الترمذي وغيره أنه قال : { من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة } وفي الصحيح عنه { أنه قال : لعمه عند الموت يا عم قل : لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله } .

                وقد تظاهرت الدلائل على أن أحسن الحسنات هو التوحيد كما أن أسوأ السيئات هو الشرك وهو الذنب الذي لا يغفره الله كما قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وتلك الحسنة التي لا بد من سعادة صاحبها كما ثبت في الصحيح عنه حديث الموجبتين : موجبة السعادة وموجبة الشقاوة ; فمن مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة وأما من مات يشرك بالله شيئا دخل النار وذكر في الحديث أنها أعلا شعب الإيمان . وفي الصحيحين { عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لوفد عبد القيس : آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتؤدوا خمس المغنم } فجعل هذه الأعمال من الإيمان وقد جعلها من الإسلام في { حديث جبرائيل الصحيح - لما أتاه في صورة أعرابي - وسأله عن الإيمان ; فقال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره وسأله عن الإسلام فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله [ ص: 644 ] وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت } وفي حديث في المسند قال : { الإسلام علانية والإيمان في القلب } .

                فأصل الإيمان في القلب وهو قول القلب وعمله وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد وما كان في القلب فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه ; ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له ; لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح كما قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : إن القلب ملك والأعضاء جنوده فإن طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب } . ولهذا ظن طوائف من الناس أن الإيمان إنما هو في القلب خاصة وما على الجوارح ليس داخلا في مسماه ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدالة عليه حتى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا : يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة الكفر مع قدرته على إظهارها فيكون الذي في القلب إيمانا نافعا له في الآخرة وقالوا : حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول : فلكونه دليلا على انتفاء ما في القلب وقولهم متناقض ; فإنه إذا كان ذلك دليلا مستلزما لانتفاء الإيمان الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتا في [ ص: 645 ] القلب مع الدليل المستلزم لنفيه وإن لم يكن دليلا لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن . والله سبحانه في غير موضع يبين أن تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظاهرة والباطنة . كقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون } { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { أولئك هم المؤمنون حقا } وقال : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } وقال تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } .

                فإذا قال القائل : هذا يدل على أن الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدل على أنها من الإيمان قيل هذا اعتراف بأنه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظاهرة فلا يجوز أن يدعي أنه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة : لا قول ولا عمل وهو المطلوب - وذلك تصديق - وذلك لأن القلب إذا تحقق ما فيه أثر في الظاهر ضرورة لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التامة توجب وقوع المقدور فإذا كان في القلب حب الله ورسوله ثابتا استلزم موالاة أوليائه [ ص: 646 ] ومعاداة أعدائه { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } فهذا التلازم أمر ضروري . ومن جهة ظن انتفاء التلازم غلط غالطون ; كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامة بدون الفعل حتى تنازعوا : هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع وبينا : أن الهمة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهام ليست إرادة جازمة وأن الإرادة الجازمة لا بد أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد والعفو وقع عمن هم بسيئة ولما يفعلها ; لا عن من أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قتل أحدهما ; فإن هذا يعاقب ; لأنه أراد وفعل المقدور من المراد ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها .



                بقي أن يقال : فهل اسم الإيمان للأصل فقط أو له ولفروعه ؟ . والتحقيق : أن الاسم المطلق يتناولهما وقد يخص الاسم وحده بالاسم مع الاقتران وقد لا يتناول إلا الأصل إذا لم يخص إلا هو ; كاسم الشجرة فإنه يتناول الأصل والفرع إذا وجدت ولو قطعت الفروع لكان اسم الشجرة يتناول الأصل وحده وكذلك اسم الحج هو اسم لكل ما يشرع فيه من ركن وواجب [ ص: 647 ] ومستحب وهو حج أيضا تام بدون المستحبات وهو حج ناقص بدون الواجبات التي يجبرها دم . والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عن العبد لترك مستحب لكن لترك واجب ; بحيث ترك ما يجب من كماله وتمامه ; لا بانتفاء ما يستحب في ذلك ولفظ الكمال والتمام : قد يراد به الكمال الواجب والكمال المستحب ; كما يقول بعض الفقهاء : الغسل ينقسم : إلى كامل ومجزئ فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا إيمان لمن لا أمانة له } و { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } . ونحو ذلك كان لانتفاء بعض ما يجب فيه ; لا لانتفاء الكمال المستحب .

                والإيمان يتبعض ويتفاضل الناس فيه : كالحج والصلاة ; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم { يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ومثقال شعيرة من إيمان } . وأما إذا استعمل اسم الإيمان مقيدا : كما في قوله تعالى { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وقوله : { الذين آمنوا وكانوا يتقون } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت } ونحو ذلك فهنا قد يقال : إنه متناول لذلك وإن عطف ذلك عليه من باب عطف الخاص على العام كقوله تعالى : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم } . [ ص: 648 ] وقد يقال : إن دلالة الاسم تنوعت بالإفراد والاقتران كلفظ الفقير والمسكين فإن أحدهما إذا أفرد تناول الآخر وإذا جمع بينهما كانا صنفين : كما في آية الصدقة ولا ريب أن فروع الإيمان مع أصوله كالمعطوفين وهي مع جميعه كالبعض مع الكل ومن هذا الموضع نشأ نزاع واشتباه هل الأعمال داخلة في الإيمان أم لا ؟ لكونها عطفت عليه . ومن هذا الباب قد يعطف على الإيمان بعض شعبه العالية أو بعض أنواعه الرفيعة : كاليقين والعلم ونحو ذلك فيشعر العطف بالمغايرة ; فيقال هذا : أرفع الإيمان - أي اليقين والعلم أرفع من الإيمان الذي ليس معه هذا اليقين والعلم كما قال الله تعالى : { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } . ومعلوم أن الناس يتفاضلون في نفس الإيمان والتصديق في قوته وضعفه وفي عمومه وخصوصه وفي بقائه ودوامه وفي موجبه ونقيضه وغير ذلك من أموره فيخص أحد نوعيه باسم يفضل به على النوع الآخر ويبقى اسم الإيمان في مثل ذلك متناولا للقسم الآخر وكذلك يفعل في نظائر ذلك ; كما يقال : الإنسان خير من الحيوان والإنسان خير من الدواب وإن كان الإنسان يدخل في الدواب في قوله : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } . فإذا عرف هذا ; فحيث وجد في كلام مقبول تفضيل شيء على الإيمان فإنما هو تفضيل نوع خاص على عمومه أو تفضيل بعض شعبه العالية على غيره [ ص: 649 ] واسم الإيمان قد يتناول النوعين جميعا وقد يخص أحدهما كما تقدم وقد قيل : أكثر اختلاف العقلاء من جهة أسمائه .



                فصل : وأما قول القائل : هل تكون صفة الإيمان نورا يوقعه الله في قلب العبد ويعرف العبد عند وقوعه في قلبه الحق من الباطل ؟ فيقال له : قد قال الله تعالى : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } قال أبي بن كعب وغيره : مثل نوره في قلب المؤمن إلى قوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وقال تعالى : { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات } فالإيمان الذي يهبه الله لعبده سماه نورا وسمي الوحي النازل من السماء الذي به يحصل الإيمان { نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقال تعالى : { فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه } وأمثال ذلك ولا ريب أن المؤمن يفرق بين الحق والباطل بل يفرق بين أعظم الحق لكن لا يمكن أن يقال : بأن كل من له إيمان يفرق بمجرد ما أعطيه من الإيمان بين كل حق وكل باطل .



                [ ص: 650 ] فصل : وأما قوله : هل يكون لأول حصوله سبب ؟ فلا ريب أنه يحصل بسبب مثل استماع القرآن ومثل رؤية أهل الإيمان والنظر في أحوالهم ومثل معرفة أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته والنظر في ذلك ومثل النظر في آيات الله تعالى ومثل التفكر في أحوال الإنسان نفسه ومثل الضروريات التي يحدثها الله للعبد التي تضطره إلى الذل لله والاستسلام له واللجوء إليه وقد يكون هذا سببا لشيء من الإيمان وهذا سببا لشيء آخر ; بل كل ما يكون في العالم من الأمور فلا بد له من سبب وسبب الإيمان وشعبه يكون تارة من العبد وتارة من غيره مثل من يقيض له من يدعوه إلى الإيمان ومن يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويبين له علامات الدين وحججه وبراهينه وما يعتبره وينزل به ويتعظ به وغير ذلك من الأسباب .



                [ ص: 651 ] فصل : وأما قوله : فالأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها ؟ هل يبدأ بالزهد ؟ أو بالعلم ؟ أو بالعبادة ؟ أم يجمع بين ذلك على حسب طاقته ؟ فيقال : له لا بد من الإيمان الواجب والعبادة الواجبة والزهد الواجب ثم الناس يتفاضلون في الإيمان ; كتفاضلهم في شعبه وكل إنسان يطلب ما يمكنه طلبه ويقدم ما يقدر على تقديمه من الفاضل . والناس يتفاضلون في هذا الباب : فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه ومنهم من تكون العبادة أيسر عليه منهما فالمشروع لكل إنسان أن يفعل ما يقدر عليه من الخير كما قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } وإذا ازدحمت شعب الإيمان قدم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له وهو في حقه أفضل ولا يطلب ما هو أفضل مطلقا إذا كان متعذرا في حقه أو متعسرا يفوته ما هو أفضل له وأنفع ; كمن يقرأ القرآن بالليل فيتدبره وينتفع بتلاوته والصلاة تثقل عليه ولا ينتفع منها بعمل أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة . [ ص: 652 ] فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقه من تكلف عمل لا يأتي به على وجهه بل على وجه ناقص ويفوته به ما هو أنفع له ; ومعلوم أن الصلاة آكد من قراءة القرآن وقراءة القرآن أفضل من الذكر والدعاء ومعلوم أيضا أن الذكر في فعله الخاص : كالركوع والسجود أفضل من قراءة القرآن في ذلك المحل وأن الذكر والقراءة والدعاء عند طلوع الشمس وغروبها خير من الصلاة . والزهد هو ضد الرغبة وهو كالبغض المخالف للمحبة والكراهة المخالفة للإرادة وكل من الإرادة والكراهة له أقسام في نفسه وفي متعلقه فالزهد ( فيه انقسام : إلى المزهود فيه وإلى نفس الزهد .

                أما الأول : فإن الزهد وأما نفس الزهد الذي هو ضد الرغبة وهو الكراهة والبغض فحقيقة المشروع منه أن يكون كراهة العبد وبغضه وحبه تابعا لحب الله وبغضه ورضاه وسخطه فيحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله ويرضى ما يرضاه ويسخط ما يسخطه الله بحيث لا يكون تابعا هواه بل لأمر مولاه فإن كثيرا من الزهاد في الحياة الدنيا أعرضوا عن فضولها ولم يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله وليس مثل هذا الزهد يأمر الله به ورسوله ولهذا كان في المشركين زهاد وفي أهل الكتاب زهاد وفي أهل البدع زهاد . [ ص: 653 ] ومن الناس من يزهد لطلب الراحة من تعب الدنيا ومنهم من يزهد لمسألة أهلها والسلامة من أذاهم ومنهم من يزهد في المال لطلب الراحة إلى أمثال هذه الأنواع التي لا يأمر الله بها ولا رسوله وإنما يأمر الله ورسوله أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله ويرغب فيما يحبه الله ورسوله فيكون زهده هو الإعراض عما لا يأمر الله به ورسوله أمر إيجاب ولا أمر استحباب سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا مستوي الطرفين في حق العبد ويكون مع ذلك مقبلا على ما أمر الله به ورسوله وإلا فترك المكروه بدون فعل المحبوب ليس بمطلوب وإنما المطلوب بالمقصود الأول فعل ما يحبه الله ورسوله وترك المكروه متعين كذلك به تزكو النفس ; فإن الحسنات إذا انتفت عنها السيئات زكت فبالزكاة تطيب النفس من الخبائث وتعظم في الطاعات كما أن الزرع إذا أزيل عنه الدغل زكا وظهر وعظم .



                فصل : وأما طريق الوصول إلى ذلك : فبالاجتهاد في فعل المأمور وترك المحظور والاستعانة به على ذلك ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا . ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ; فإن لو تفتح عمل [ ص: 654 ] الشيطان } وفي السنن { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى على رجل فقال المقضي عليه : حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل } . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم العبد بأن يحرص على ما ينفعه ويستعين بالله على ذلك والحرص على ما ينفعه هو الاجتهاد في الخير وهو العبادة ; فإن كل ما ينفع العبد فهو مأمور بطلبه وإنما ينهى عن طلب ما يضره - وإن اعتقد أنه ينفعه - كما يطلب المحرمات وهي تضره ويطلب المفضول الذي لا ينفعه والله تعالى أباح للمؤمنين الطيبات وهي ما ينفعهم وحرم عليهم الخبائث وهي ما يضرهم والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا




                الخدمات العلمية