الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 272 ] سئل شيخ الإسلام - قدس الله روحه - عن قوم قد خصوا بالسعادة وقوم قد خصوا بالشقاوة والسعيد لا يشقى والشقي لا يسعد وفي الأعمال لا تراد لذاتها بل لجلب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال فلا وجه لإتعاب النفس في عمل ولا كفها عن ملذوذ فإن المكتوب في القدم واقع لا محالة بينوا ذلك ؟

                التالي السابق


                فأجاب رحمه الله الحمد لله . هذه " المسألة " قد أجاب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ففي الصحيحين عن عمران بن الأزارقة قال : { قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : نعم . قيل : ففيم يعمل العاملون ؟ قال : كل ميسر لما خلق له } وفي رواية البخاري { قلت : يا رسول الله كل يعمل لما خلق له أو لما يسر له } رواه مسلم في صحيحه { عن أبي الأسود الدؤلي قال : قال لي عمران بن الأزارقة : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم قال : فقال : أفلا يكون ذلك ظلما .

                قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا . وقلت : [ ص: 273 ] كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون . فقال : يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأجود عقلك إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سابق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال : لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم .

                وتصديق ذلك في كتاب الله { ونفس وما سواها } { فألهمها فجورها وتقواها }
                } . وروى مسلم في صحيحه عن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : { جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟ أم فيما يستقبل ؟ قال : لا ; بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير قال : ففيم العمل ؟ قال زهير : ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه فسألت : عما قال ؟ فقال : اعملوا فكل ميسر } وفي لفظ آخر { فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم كل عامل ميسر بعمله }

                . وفي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال { كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقال : رجل يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل من كان [ ص: 274 ] من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال : اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة وأما أهل الشقاوة فسييسرون إلى عمل أهل الشقاوة . ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى } { وصدق بالحسنى } { فسنيسره لليسرى } { وأما من بخل واستغنى } { وكذب بالحسنى } { فسنيسره للعسرى } } وفي رواية البخاري { أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل السعادة سيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة سيصير إلى عمل أهل الشقاوة .

                وقال : أما عمل أهل السعادة
                } الحديث . وفي رواية في الصحيحين عن علي قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال : ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار فقالوا : يا رسول الله فلم نعمل أو لا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ { فأما من أعطى واتقى } { وصدق بالحسنى } إلى قوله : { فسنيسره للعسرى } }

                . فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وغيرها بما دل عليه القرآن أيضا من أن الله سبحانه وتعالى تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : { حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - : إن أحدكم يجمع خلقه في [ ص: 275 ] بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا بأربع كلمات فيكتب : عمله ، وأجله ، ورزقه ، وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها } وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال : { إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول : أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد أن يقضي خلقه قال الملك أي رب ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيكتب ذلك في بطن أمه } .

                وهذا المعنى في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري أيضا . والنصوص والآثار في تقدم علم الله وكتابته وقضائه وتقديره الأشياء قبل خلقها وأنواعها كثيرة جدا . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة والشقاوة وأن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة وقد نهي أن يتكل الإنسان على القدر السابق ، ويدع العمل ; ولهذا كان من اتكل [ ص: 276 ] على القدر السابق ، وترك ما أمر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة فإن أهل السعادة هم الذين يفعلون المأمور ويتركون المحظور فمن ترك العمل الواجب الذي أمر به وفعل المحظور متكلا على القدر كان من جملة أهل الشقاوة الميسرين لعمل أهل الشقاوة .

                وهذا الجواب الذي أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في غاية السداد والاستقامة وهو نظير ما أجاب به في الحديث الذي رواه الترمذي { أنه قيل : يا رسول الله : أرأيت أدوية نتداوى بها ؟ ورقى نسترقي بها ؟ وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا ؟ فقال : هي من قدر الله } . وذلك لأن الله - سبحانه وتعالى - هو يعلم الأشياء على ما هي عليه وكذلك يكتبها فإذا كان قد علم أنها تكون بأسباب من عمل وغيره وقضى أنها تكون كذلك وقدر ذلك لم يجز أن يظن أن تلك الأمور تكون بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابا وهذا عام في جميع الحوادث .

                مثال ذلك : إذا علم الله وكتب أنه سيولد لهذين ولد وجعل الله سبحانه ذلك معلقا باجتماع الأبوين على النكاح وإنزال الماء المهين الذي ينعقد منه الولد فلا يجوز أن يكون وجود الولد بدون السبب الذي علق به وجود الولد والأسباب وإن كانت " نوعين " معتادة وغريبة . [ ص: 277 ] فالمعتادة : كولادة الآدمي من أبوين والغريبة : كولادة الإنسان من أم فقط كما ولد عيسى أو من أب فقط كما ولدت حواء أو من غير أبوين كما خلق آدم أبو البشر من طين .

                فجميع الأسباب قد تقدم علم الله بها وكتابته لها وتقديره إياها وقضاؤه بها كما تقدم [ ربط ] ذلك بالمسببات كذلك أيضا الأسباب التي بها يخلق النبات من إنزال المطر وغيره من هذا الباب كما قال تعالى : { وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة } وقال : { فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات }

                . وقال : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } وأمثال ذلك . فجميع ذلك مقدر معلوم مقضي مكتوب قبل تكوينه ; فمن ظن أن الشيء إذا علم وكتب أنه يكفي ذلك في وجوده ولا يحتاج إلى ما به يكون من الفاعل الذي يفعله ، وسائر الأسباب ; فهو جاهل ضال ضلالا مبينا ; من وجهين . ( أحدهما من جهة كونه جعل العلم جهلا ; فإن العلم يطابق المعلوم ; ويتعلق به على ما هو عليه ; وهو سبحانه قد علم أن المكونات تكون بما يخلقه من الأسباب لأن ذلك هو الواقع فمن قال : إنه يعلم شيئا بدون الأسباب ; فقد قال على الله الباطل وهو بمنزلة من قال : إن الله يعلم أن هذا الولد ولد بلا أبوين وأن هذا النبات نبت بلا ماء فإن تعلق العلم بالماضي والمستقبل سواء فكما أن من أخبر عن الماضي بعلم الله بوقوعه بدون الأسباب يكون مبطلا ; فكذلك من أخبر عن المستقبل كقول القائل : إن الله علم أنه خلق آدم من غير طين وعلم [ ص: 278 ] أنه يتناسل الناس من غير تناكح ; وأنه أنبت الزروع من غير ماء ولا تراب فهو باطل ظاهر بطلانه لكل أحد وكذلك إخباره عن المستقبل .

                وكذلك " الأعمال " هي سبب في الثواب والعقاب . فلو قال قائل : إن الله أخرج آدم من الجنة بلا ذنب وأنه قدر ذلك أو قال : إنه غفر لآدم بلا توبة وإنه علم ذلك كان هذا كذبا وبهتانا بخلاف ما إذا قال : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } { فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } فإنه يكون صادقا في ذلك .

                والله سبحانه علم ما يكون من آدم قبل أن يكون وهو عالم به بعد أن كان .

                وكذلك كل ما أخبر به من " قصص الأنبياء " فإنه علم أنه أهلك قوم نوح وعاد وثمود وفرعون ولوط ومدين وغيرهم بذنوبهم وأنه نجى الأنبياء ومن اتبعهم بإيمانهم وتقواهم كما قال : { فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون } وقال : { فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا } الآية وقال : { ذلك جزيناهم ببغيهم } وقال : { فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } وقال : { فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } وقال : { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون } { وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } وقال : { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } وقال : [ ص: 279 ] { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } وقال : { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا } وقال : { إلا آل لوط نجيناهم بسحر } { نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر } وقال : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } وأمثال ذلك في القرآن كثير .

                وكذلك خبره عما يكون من السعادة والشقاوة بالأعمال كقوله : { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } وقوله تعالى { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } وقوله : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء } وقوله : { إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون } وقوله : { وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا } الآيات . وقوله : { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } وقوله : { ما سلككم في سقر } { قالوا لم نك من المصلين } { ولم نك نطعم المسكين } { وكنا نخوض مع الخائضين } { وكنا نكذب بيوم الدين } { حتى أتانا اليقين } { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } وأمثال هذا في القرآن كثير جدا .

                بين سبحانه فيما يذكره من سعادة الآخرة وشقاوتها : أن ذلك كان بالأعمال المأمور بها والمنهي عنها كما يذكر نحو ذلك فيما يقضيه من العقوبات والمثوبات في الدنيا أيضا . [ ص: 280 ] و ( الوجه الثاني : أن العلم بأن الشيء سيكون والخبر عنه بذلك وكتابة ذلك لا يوجب استغناء ذلك عما به يكون من الأسباب التي لا يتم إلا بها كالفاعل وقدرته ومشيئته ; فإن اعتقاد هذا غاية في الجهل إذ هذا العلم ليس موجبا بنفسه لوجود المعلوم باتفاق العلماء ; بل هو مطابق له على ما هو عليه لا يكسبه صفة ولا يكتسب منه صفة بمنزلة علمنا بالأمور التي [ قبلنا ] كالموجودات التي كانت قبل وجودنا مثل علمنا بالله وأسمائه وصفاته فإن هذا العلم ليس مؤثرا في وجود المعلوم باتفاق العلماء وإن كان من علومنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم كعلمنا بما يدعونا إلى الفعل ويعرفنا صفته وقدره ; فإن الأفعال الاختيارية لا تصدر إلا ممن له شعور وعلم إذ الإرادة مشروطة بوجود العلم وهذا التفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علم فعلي له تأثير في المعلوم وعلم انفعالي لا تأثير له في وجود المعلوم هو فصل الخطاب في العلم .

                فإن من الناس من يقول : " العلم " صفة انفعالية لا تأثير له في المعلوم ; كما يقوله طوائف من أهل الكلام ومنهم من يقول بل هو صفة فعلية له تأثير في المعلوم كما يقوله طوائف من أهل الفلسفة والكلام . والصواب أنه " نوعان " - كما بيناه - وهكذا علم الرب - تبارك وتعالى - فإن علمه بنفسه سبحانه لا تأثير له في وجود المعلوم وأما علمه بمخلوقاته التي خلقها بمشيئته وإرادته فهو مما له تأثير في وجود معلوماته والقول في [ ص: 281 ] الكلام والكتاب كالقول في العلم : فإنه - سبحانه وتعالى - إذا خلق الشيء خلقه بعلمه وقدرته ومشيئته ولذلك كان الخلق مستلزما للعلم ودليلا عليه كما قال تعالى : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }

                . وأما إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون فعلمه وخبره حينئذ ليس هو المؤثر في وجوده لعلمه وخبره به بعد وجوده لثلاثة أوجه :

                ( أحدها ) : أن العلم والخبر عن المستقبل كالعلم والخبر عن الماضي .

                ( الثاني ) : أن العلم المؤثر هو المستلزم للإرادة المستلزمة للخلق ليس هو ما يستلزم الخبر وقد بينا الفرق بين العلم العملي والعلم الخبري .

                ( الثالث ) أنه لو قدر أن العلم والخبر بما سيكون له تأثير في وجود المعلوم المخبر به فلا ريب أنه لا بد مع ذلك من القدرة والمشيئة فلا يكون مجرد العلم موجبا له بدون القدرة والإرادة . فتبين أن العلم والخبر والكتاب لا يوجب الاكتفاء بذلك عن الفاعل القادر المريد مما يدل على ذلك أن الله - سبحانه وتعالى - يعلم ويخبر بما سيكون من مفعولات الرب كما يعلم أنه سيقيم القيامة ويخبر بذلك ومع ذلك فمعلوم أن هذا العلم والخبر لا يوجب وقوع المعلوم المخبر به بدون الأسباب التي جعلها الله أسبابا له . إذا تبين ذلك فقول السائل : السعيد لا يشقى ، والشقي لا يسعد [ ص: 282 ] كلام صحيح : أي من قدر الله أن يكون سعيدا يكون سعيدا لكن بالأعمال التي جعله يسعد بها والشقي لا يكون شقيا إلا بالأعمال التي جعله يشقى بها التي من جملتها الاتكال على القدر وترك الأعمال الواجبة .

                وأما قوله : والأعمال لا تراد لذاتها بل لجلب السعادة ودفع الشقاوة وقد سبقنا وجود الأعمال فيقال له : السابق نفس السعادة والشقاوة أو تقدير السعادة والشقاوة علما وقضاء وكتابا هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثير من الناس حيث لا يميزون بين ثبوت الشيء في العلم والتقدير وبين ثبوته في الوجود والتحقيق .

                فإن الأول هو العلم به والخبر عنه وكتابته وليس شيء من ذلك داخلا في ذاته ولا في صفاته القائمة به . ولهذا يغلط كثير من الناس في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ميسرة قال : { قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ وفي رواية - متى كتبت نبيا ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد } .

                فيظنون أن ذاته ونبوته وجدت حينئذ وهذا جهل فإن الله إنما نبأه على رأس أربعين من عمره وقد قال له : { بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } وقال : { ووجدك ضالا فهدى } وفي الصحيحين { أن الملك قال له : - حين جاءه - اقرأ فقال : لست بقارئ - ثلاث مرات - } . [ ص: 283 ] ومن قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان نبيا قبل أن يوحى إليه فهو كافر باتفاق المسلمين وإنما المعنى أن الله كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه كما أخبر أنه يكتب رزق المولود وأجله وعمله وشقاوته وسعادته بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه كما في حديث العرباض بن سارية الذي رواه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إني عبد الله وخاتم النبيين } وفي رواية { إني عبد الله لمكتوب خاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام }

                . وكثير من الجهال المصنفين وغيرهم يرويه { كنت نبيا وآدم بين الماء والطين } { وآدم لا ماء ولا طين } ويجعلون ذلك وجوده بعينه وآدم لم يكن بين الماء والطين بل الماء بعض الطين لا مقابله . وإذا كان كذلك فإن قال : السابق نفس السعادة والشقاوة فقد كذب ; فإن السعادة إنما تكون بعد وجود الشخص الذي هو السعيد وكذلك الشقاوة لا تكون إلا بعد وجود الشقي كما أن العمل والرزق لا يكون إلا بعد وجود العامل ولا يصير رزقا إلا بعد وجود المرتزق ، وإنما السابق هو العلم بذلك وتقديره لا نفسه وعينه وإذا كان كذلك فالعمل - أيضا - سابق كسبق السعادة والشقاوة وكلاهما معلوم مقدر وهما [ ص: 284 ] متأخران في الوجود والله سبحانه علم وقدر أن هذا يعمل كذا فيسعد به وهذا يعمل كذا فيشقى به وهو يعلم أن هذا العمل الصالح يجلب السعادة كما يعلم سائر الأسباب والمسببات كما يعلم أن هذا يأكل السم فيموت وأن هذا يأكل الطعام فيشبع ويشرب الشراب فيروى وظهر فساد قول السائل : فلا وجه لإتعاب النفس في عمل ولا لكفها عن ملذوذات والمكتوب في القدم واقع لا محالة .

                وذلك أن المكتوب في القدم هو سعادة السعيد لما يسر له من العمل الصالح وشقاوة الشقي لما يسر له من العمل السيئ ليس المكتوب أحدهما دون الآخر . فما أمر به العبد من عمل فيه تعب أو امتناع عن شهوة هو من الأسباب التي تنال بها السعادة . والمقدر المكتوب هو السعادة والعمل الذي به ينال السعادة وإذا ترك العبد ما أمر به متكلا على الكتاب كان ذلك من المكتوب المقدور الذي يصير به شقيا وكان قوله ذلك بمنزلة من يقول : أنا لا آكل ولا أشرب .

                فإن كان الله قضى بالشبع والري حصل وإلا لم يحصل أو يقول لا أجامع امرأتي فإن كان الله قضى لي بولد فإنه يكون . وكذلك من غلط فترك الدعاء أو ترك الاستعانة والتوكل ظانا أن ذلك من مقامات الخاصة ناظرا إلى القدر فكل هؤلاء جاهلون ضالون ; ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن [ ص: 285 ] بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان } . فأمره بالحرص على ما ينفعه والاستعانة بالله ونهاه عن العجز الذي هو الاتكال على القدر ثم أمره إذا أصابه شيء أن لا ييأس على ما فاته بل ينظر إلى القدر ويسلم الأمر لله فإنه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء : الأمور " أمران " أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه فما فيه حيلة لا يعجز عنه وما لا حيلة فيه لا يجزع منه .

                وفي سنن أبي داود { أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أحدهما فقال المقضي عليه : حسبنا الله ونعم الوكيل فقال : النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل }

                . وفي الحديث الآخر { الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال حديث حسن . وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله عز وجل }

                . ومن الناس من يصحفه فيقول الفاجر وإنما هو العاجز [ ص: 286 ] في مقابلة الكيس كما في الحديث الآخر { كل شيء بقدر حتى العجز والكيس } .



                وهنا سؤال يعرض لكثير من الناس وهو : أنه إذا كان المكتوب واقعا لا محالة فلو لم يأت العبد بالعمل هل كان المكتوب يتغير ؟ وهذا السؤال يقال في مسألة المقتول - يقال لو لم يقتل هل كان يموت ؟ ونحو ذلك . فيقال هذا لو لم يعمل عملا صالحا لما كان سعيدا ولو لم يعمل عملا سيئا لما كان شقيا وهذا كما يقال : إن الله يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون فإن هذا من باب العلم والخبر بما لا يكون لو كان كيف يكون كقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } وقوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وقوله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } وقوله { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } وأمثال ذلك كما روي أنه يقال للعبد في قبره حين يفتح له باب إلى الجنة وإلى النار . ويقال : هذا منزلك ولو عملت كذا وكذا أبدلك الله به منزلا آخر .

                وكذلك يقال هذا لو لم يقتله هذا لم يمت بل كان يعيش إلا أن يقدر له سبب آخر يموت به واللازم في هذه الجملة خلاف الواقع المعلوم والمقدور والتقدير للممتنع قد يلزمه حكم ممتنع ولا محذور في ذلك . [ ص: 287 ] ومما يشبه هذه المسألة { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر فأخبر أصحابه بمصارع المشركين فقال : هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ثم إنه دخل العريش وجعل يجتهد في الدعاء ويقول : اللهم أنجز لي ما وعدتني }

                . وذلك لأن علمه بالنصر لا يمنع أن يفعل السبب الذي به ينصر وهو الاستغاثة بالله . وقد غلط بعض الناس هنا وظن أن الدعاء الذي علم وقوع مضمونه كالدعاء الذي في آخر سورة البقرة لا يشرع إلا عبادة محضة وهذا كقول بعضهم : إن الدعاء ليس هو إلا عبادة محضة ; لأن المقدور كائن دعا أو لم يدع . فيقال له : إذا كان الله قد جعل الدعاء سببا لنيل المطلوب المقدر فكيف يقع بدون الدعاء ؟ وهو نظير قولهم : أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ ومما يوضح [ ذلك ] أن الله قد علم ، وكتب أنه يخلق الخلق ويرزقهم ويميتهم ويحييهم فهل يجوز أن يظن أن تقدم العلم والكتاب مغن لهذه الكائنات عن خلقه وقدرته ومشيئته فكذلك علم الله بما يكون من أفعال العباد وأنهم يسعدون بها ويشقون كما يعلم - مثلا - أن الرجل يمرض أو يموت بأكله السم أو جرحه نفسه ونحو ذلك . [ ص: 288 ]

                وهذا الذي ذكرناه مذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور " الطوائف " من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم وإنما نازع في ذلك غلاة القدرية وظنوا أن تقدم العلم يمنع الأمر والنهي وصاروا فريقين : ( فريق أقروا بالأمر والنهي والثواب والعقاب وأنكروا أن يتقدم بذلك قضاء وقدر وكتاب وهؤلاء نبغوا في أواخر عصر الصحابة فلما سمع الصحابة بدعهم تبرءوا منهم كما تبرءوا منهم ورد عليهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم وقد نص " الأئمة " كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم .

                و ( الفريق الثاني : من يقر بتقدم علم الله وكتابه لكن يزعم أن ذلك يغني عن الأمر والنهي والعمل وأنه لا يحتاج إلى العمل بل من قضي له بالسعادة دخل الجنة بلا عمل أصلا ومن قضي عليه بالشقاوة شقي بلا عمل فهؤلاء ليسوا طائفة معدودة من طوائف أهل المقالات وإنما يقوله كثير من جهال الناس . وهؤلاء أكفر من أولئك وأضل سبيلا ومضمون قول هؤلاء تعطيل الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى بكثير وهؤلاء هم الذين سأل السائل عن مقالتهم .

                وأما " جمهور القدرية " فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون [ ص: 289 ] أن الله خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات وتعارضهم القدرية المجبرة الذين يقولون ليس للعبد قدرة ولا إرادة حقيقية ولا هو فاعل حقيقة وكل هؤلاء مبتدعة ضلال . وشر من هؤلاء من يجعل خلق الأفعال وإرادة الله الكائنات مانعة من الأمر والنهي كالمشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى ومضمون قولهم : تعطيل جميع ما جاءت به الرسل كلهم من الأمر والنهي .

                ثم قولهم متناقض معلوم الفساد بالضرورة لا يمكن أن يحيى معه بنو آدم لاستلزامه فساد العباد فإنه إذا لم يكن على العباد أمر ونهي كان لكل أحد أن يفعل ما يهواه كما قال تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض } فإذا قيل : إنه يمكن كل أحد مما يهواه من قتل النفوس ، وفعل الفواحش وأخذ الأموال وغير ذلك كان ذلك غاية الفساد ولهذا لا تعيش أمة من بني آدم إلا بنوع من الشريعة التي فيها أمر ونهي ولو كانت بوضع بعض الملوك مع ما فيها من فساد من وجوه أخرى .

                فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه يبين أن تقدم علم الله وكتابه بالسعادة والشقاوة وغير ذلك من الأمور لا يمنع توقف ذلك على الأعمال والأسباب التي [ ص: 290 ] جعل الله بها تلك الأمور وذلك يبين أن ذلك لا يمنع أن يكون العبد عاملا للعمل الصالح الذي به يسعده الله وأن يكون قادرا على ذلك مريدا له وإن كان ذلك كله بتيسير الله للعبد - وإن تنازع الناس في تسمية ذلك جبرا - لكن هل يكون العبد قادرا على غير الفعل الذي فعله الذي سبق به العلم والكتاب فهذا مما تنازع فيه الناس كما تنازعوا في أن الاستطاعة هل يجب أن تكون مع الفعل أو يجب أن تتقدمه فمن قال من أهل الإثبات : إن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل يقول العبد لا يستطيع غير ما يفعله وهو ما تقدم به العلم والكتاب .

                ومن قال : إن الاستطاعة قد تتقدم الفعل وقد توجد دون الفعل فإنه يقول : إنه يكون مستطيعا لما لم يفعله ولما علم وكتب أنه لا يفعله . وفصل الخطاب أن " الاستطاعة " جاءت في كتاب الله على نوعين : الاستطاعة المشترطة للفعل وهي مناط الأمر والنهي كقوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } الآية { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } وقوله { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن الأزارقة : { صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا . فإن لم تستطع فعلى جنب } . فإن الاستطاعة في هذه النصوص لو كانت لا توجد إلا مع الفعل لوجب ألا يجب الحج إلا على من حج ولا يجب صيام شهرين إلا على من [ ص: 291 ] صام ولا القيام في الصلاة إلا على من قام وكان المعنى : على الذين يصومون الشهر طعام مسكين والآية إنما أنزلت لما كانوا مخيرين بين الصيام والإطعام في شهر رمضان . والاستطاعة التي يكون معها الفعل قد يقال هي المقترنة بالفعل الموجبة له - وهي النوع الثاني - وقد ذكروا فيها قوله تعالى { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا } وقوله تعالى { يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } ونحو ذلك قوله : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فإن الاستطاعة المنفية هنا - سواء كان نفيها خبرا أو ابتداء - ليست هي الاستطاعة المشروطة في الأمر والنهي فإن تلك إذا انتفت انتفى الأمر والنهي والوعد والوعيد والحمد والذم والثواب والعقاب ومعلوم أن هؤلاء في هذه الحال مأمورون منهيون موعودون متوعدون ; فعلم أن المنفية هنا ليست المشروطة في الأمر والنهي المذكورة في قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم }

                . لكن قد يقال : الاستطاعة هنا كالاستطاعة المنفية في قول الخضر لموسى { إنك لن تستطيع معي صبرا } فإن هذه الاستطاعة المنفية لو كان المراد بها مجرد المقارنة في الفاعل والتارك لم يكن فرق بين هؤلاء المذمومين وبين المؤمنين [ ص: 292 ] ولا بين الخضر وموسى ; فإن كل أحد فعل أو لم يفعل لا تكون المقارنة موجودة قبل فعله والقرآن يدل على أن هذه الاستطاعة إنما نفيت عن التارك لا عن الفاعل فعلم أنها مضادة لما يقوم بالعبد من الموانع التي تصد قلبه عنه إرادة الفعل وعمله وبكل حال فهذه الاستطاعة منتفية في حق من كتب عليه أنه لا يفعل بل وقضي عليه بذلك .

                وإذا عرف هذا التقسيم - أن إطلاق القول بأن العبد لا يستطيع غير ما فعل ، ولا يستطيع خلاف المعلوم المقدر ، وإطلاق القول بأن استطاعة الفاعل والتارك سواء وأن الفاعل لا يختص عن التارك باستطاعة خاصة [ عرف أن ] كلا الإطلاقين خطأ وبدعة . ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها وجمهور طوائف أهل الكلام على أن الله قادر على ما علم وأخبر أنه لا يكون وعلى ما يمتنع صدوره عنه لعدم إرادته لا لعدم قدرته عليه ; وإنما خالف في ذلك طوائف من أهل الضلال من الجهمية والقدرية والمتفلسفة الصابئة الذين يزعمون انحصار المقدور في الموجود ، ويحصرون قدرته فيما شاءه وعلم وجوده ; دون ما أخبر أنه لا يكون كما رجحه النظام والأسواري وكما يقوله من يزعم : أنه ليس من المقدور غير هذا العالم ، ولا في المقدور ما يمكن أن يهدى به الضال وقد قال الله تعالى : { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } مع أنه سبحانه لا يسوي بنانه ، وقال تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض }

                . وقد ثبت في الصحيح عن جابر : { أنه لما نزلت هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك - { أو من تحت أرجلكم } - قال : أعوذ بوجهك { أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض } . قال : هاتان أهون } . وقال الله تعالى { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } . ومن حكى من أهل الكلام عن أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : إن العبد ليس قادرا على غير ما فعل الذي هو خلاف المعلوم فإنه - مخطئ فيما نقله عنهم من نفي القدرة مطلقا وهو مصيب فيما نقله عنهم من نفي القدرة التي اختص بها الفاعل دون التارك وهذا من أصول نزاعهم في جواز تكليف ما لا يطاق .

                فإن من يقول الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فالتارك لا استطاعة له بحال يقول : إن كل من عصى الله فقد كلفه الله ما لا يطيقه كما قد يقولون : إن جميع العباد كلفوا ما لا يطيقون . ومن يقول : إن استطاعة الفعل هي استطاعة الترك يقول : إن العباد لم يكلفوا إلا بما هم مستوون في طاقته وقدرته واستطاعته ; لا يختص الفاعل دون التارك باستطاعة خاصة فإطلاق القول بأن العبد كلف بما لا يطيقه كإطلاق القول بأنه مجبور على أفعاله [ ص: 294 ] - إذ سلب القدرة في المأمور نظير إثبات الجبر في المحظور - وإطلاق القول بأن العبد قادر مستطيع على خلاف معلوم الله ومقدوره .

                وسلف الأمة وأئمتها ينكرون هذه الإطلاقات كلها لا سيما كل واحد من طرفي النفي والإثبات على باطل وإن كان فيه حق أيضا ; بل الواجب إطلاق العبارات الحسنة وهي المأثورة التي جاءت بها النصوص والتفصيل في العبارات المجملة المشتبهة وكذلك الواجب نظير ذلك في سائر أبواب أصول الدين أن يجعل ما يثبت بكلام الله عز وجل ورسوله وإجماع سلف الأمة هي النص المحكم ، وتجعل العبارات المحدثة المتقابلة بالنفي والإثبات المشتملة في كل من الطرفين في حق وباطل من باب المجمل المشتبه المحتاج إلى تفصيل الممنوع من إطلاق طرفيه . وقد كتبنا في غير هذا الموضع ما قاله الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل ; وغيرهم من الأئمة من كراهة إطلاق الجبر ومن منع إطلاق نفيه أيضا .

                وكذلك أيضا : القول بتكليف ما لا يطاق لم تطلق الأئمة فيه واحدا من الطرفين . قال أبو بكر عبد العزيز : صاحب الخلال في " كتاب القدر " الذي في مقدمة " كتاب المقنع " له لم يبلغنا عن أبي عبد الله في هذه المسألة قول فنتبعه ; والناس فيه قد اختلفوا فقال قائلون : بتكليف ما لا يطاق ونفاه [ ص: 295 ] آخرون ومنعوا منه . قال : والذي عندنا فيه أن القرآن شهد بصحة ما إليه قصدناه .

                وهو أن الله عز وجل ; يتعبد خلقه بما يطيقون وما لا يطيقون . ثم قال في آخر الفصل : ولعل قائلا أن يعارض قولنا فيقول : لو جاز أن يكلف الله العبد ما لا يطيق جاز أن يكلف الأعمى صنعة الألوان ، والمقعد المشي ; ومن لا يدله البطش وما أشبه ذلك فيقال له : قد قال ابن عباس : في قوله تعالى { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } هو مشيهم على وجوههم وسقط السؤال في كل ما سألوا عنه على جواب ابن عباس في المشي على الوجوه .

                ثم قال : وقد أبان أبو الحسن يعني الأشعري - فيما قدمنا ذكره عنه في هذه المعاني بما فيه كفاية قال القاضي أبو يعلى : لما حكى كلام أبي الحسن - يعني أبا الحسن الأشعري - قد فصل بين ما يقدر على فعله لا لاستحالته فيجوز تكليفه وما يستحيل لا يجوز قال : وظاهر كلام أبي الحسن الأشعري الاحتمال فيما يستحيل وجوده هل يصح تكليفه أم لا ؟ قال : والصحيح ما ذكرناه من التفصيل وهو أن ما لا يقدر على فعله لاستحالته كالأمر بالمحال وكالجمع بين الضدين ، وجعل المحدث قديما والقديم محدثا أو كان مما لا يقدر عليه للعجز عنه كالمقعد الذي لا يقدر على القيام والأخرس الذي لا يقدر على الكلام فهذا الوجه لا يجوز تكليفه .

                و ( الوجه الثاني : ما لا يقدر على فعله لا لاستحالته ولا للعجز عنه لكن لتركه والاشتغال بضده كالكافر كلفه الإيمان في حال كفره لأنه غير [ ص: 296 ] عاجز عنه ولا مستحيل منه فهو كالذي لا يقدر على العلم لاشتغاله بالمعيشة فهذا الذي ذكره القاضي أبو يعلى قول جمهور الناس من الفقهاء والمتكلمين وهو قول جمهور أصحاب الإمام أحمد وذكر القاضي المنصوص عن الأشعري - فيما ذكره القاضي عنه - وقد ذكر أن أبا بكر عبد العزيز ذكر كلام أبي الحسن في ذلك كما يذكر المصنف كلام أبي الحسن في ذلك وكما يذكر المصنف كلام موافقيه وأصحابه لأنه كان من جملة المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد وسائر أئمة السنة كما ذكر ذلك في كتبه .

                وأما أتباع أبي الحسن فمنهم من وافق نفس الذي ذكره القاضي كأبي علي ابن شاذان وأتباعه ومنهم من خالفه كأبي محمد اللبان والرازي وطوائف قالوا : إنه يجوز تكليف الممتنع كالجمع بين الضدين والمعجوز عنه .

                و ( القول الثالث ) : الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز وهو أنه يجوز تكليف كل ما يمكن ، وإن كان ممتنعا في العادة كالمشي على الوجوه ونقط الأعمى المصحف . وذكر أبو عبد الله بن حامد شيخ القاضي أبي يعلى في أصوله : قولي " التفريق والإطلاق " عن أصحاب أحمد فقال : [ ص: 297 ] ( فصل ) لأنه ما وجد في الأمر ولو وجد بالفكر وهذا مثل ما لم ترد الشريعة به كأمر الأطفال ومن لا عقل له ، والأعمى البصر ، والفقير النفقة .

                والزمن أن يسير إلى مكة فكل ذلك ما جاءت به الشريعة ولو جاءت به لزم الإيمان به والتصديق فلا يقيد الكلام فيه . قال : وذهبت طائفة من أصحابنا إلى إطلاق الاسم من جواز تكليف ما لا يطاق من زمن وأعمى وغيرهم وهو مذهب جهم وبرغوث .

                و ( الوجه الثاني ) سلامة الآلة لكن عدم الطاقة لعدم التوفيق والقبول وذلك يجوز وجها واحدا في معنى هذا أنه يجوز التكليف لمن قدر علم الله فيه أنه لا يفعله وأبى ذلك المعتزلة والدليل عليه قوله تعالى لإبليس { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقوله : { ألا تسجد إذ أمرتك } الآيات فأمر وقد سبق من علمه أنه لا يقع منه فعله . فكان الأمر متوجها إلى ما قد سبق من علم الله أنه لا يطيقه .

                ( القول الثاني ) : منقول عن أبي الحسن أيضا ، وزعم أبو المعالي الجويني أنه الذي مال إليه أكثر أجوبة أبي الحسن وأنه الذي ارتضاه كثير من أصحابه [ ص: 298 ] وقد توقف أبو الحسن عن الجواب في هذه المسألة في الموجز وكان أبو المعالي يختاره أولا ثم رجع عنه وقطع أن تكليف ما لا يطاق محال وهذا القول الأول قول ابن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي عبد الله الرازي وغيره وهذا ( الثاني ) هو مذهب أبي إسحاق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك ، وأبي القاسم الأشعري والغزالي وادعى أبو إسحاق الإسفراييني أنه مذهب شيخه أبي الحسن وأنه مذهب أهل الحق فأما القاضي أبو بكر فقد قال بجوازه في بعض كتبه وأكثر كلامه على التفريق بين تكليف العاجز وبين تكليف القادر على الترك كما هو قول الجمهور .

                وفي المسألة ( قول ثالث ) : وهو الذي ذكره أبو بكر عبد العزيز أنه يجوز تكليف كل ما يمكن وإن كان ممتنعا في العادة كالمشي على الوجه ونقط الأعمى المصحف دون الممتنع كالجمع بين الضدين . وفصل الخطاب في " هذه المسألة " أن النزاع فيها في أصلين : أحدهما : التكليف الواقع الذي اتفق المسلمون على وقوعه في الشريعة وهو أمر العباد كلهم بما أمرهم الله به ورسوله من الإيمان به وتقواه هل يسمى هذا أو شيء منه تكليف ما لا يطاق ؟ فمن قال : بأن القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول : إن العاصي كلف ما لا يطيقه ويقول : إن كل أحد كلف حين كان غير مطيق ; وكذلك من زعم أن تقدم العلم ، والكتاب بالشيء يمنع [ ص: 299 ] أن يقدر على خلافه قال : إن كلف خلاف المعلوم فقد كلف ما لا يطيقه وكذلك من يقول : إن العرض لا يبقى زمانين يقول : إن الاستطاعة المتقدمة لا تبقى إلى حين الفعل .

                وهذا في الحقيقة ليس نزاعا في الأفعال التي أمر الله بها ونهى عنها هل يتناولها التكليف ؟ وإنما هو نزاع في كونها غير مقدورة للعبد التارك لها وغير مقدورة قبل فعلها وقد قدمنا أن القدرة نوعان وأن من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها - كإطلاق القول بالجبر - وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة كأبي الحسن وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن حامد ; والقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى ، وأبي المعالي وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس بن سريج وأبي العباس القلانسي وغيرهما ، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه وهو مقتضى قول جميع الأمة .

                ولهذا امتنع أبو إسحاق بن شاقلا من إطلاق ذلك . وحكى فيه القولين : فقال - فيما ذكره عنه القاضي أبو يعلى - الاستطاعة مع الفعل أو قبله ؟ حجة من قال : إن الصلاة والحج والجهاد لا يجوز أن يأمر به غير مستطيع [ ص: 300 ] وحجة من قال إن الفعل خلق من خلق الله عز وجل فإذا خلق فيه فعلا فعله . وهذا كما أن من قال : إنه ليس للعبد إلا قدرة واحدة يقدر بها على الفعل والترك وأنه مستغن في حال الفعل عن معونة من الله تعالى يفعل بها وسوى بين نعمته على المؤمن والكافر والبر والفاجر فهو مبطل وهم من القدرية الذين حاد منهم في الأيام المشهورة حيث كان قولهم إن العبد لا يفتقر إلى الله تعالى حال الفعل بالبر عما وجد قبل الفعل وأنه ليس لله تعالى نعمة أنعم بها على من آمن به وأطاعه أكبر من نعمته على من كفر به وعصاه فهذا القول خطأ قطعا ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على تضليل صاحب هذا القول .

                ثم النزاع بينهم بعد ذلك في هذه الأمور كثير منه لفظي ومنه ما هو اعتباري كتنازعهم في أن العرض هل يبقى أم لا يبقى وبنوا على ذلك بقاء الاستطاعة ولكن أحسن الألفاظ والاعتبارات ما يطابق الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمتها ، والواجب أن يجعل نصوص الكتاب والسنة هي الأصل المعتمد الذي يجب اتباعه ويسوغ إطلاقه ويجعل الألفاظ التي تنازع فيها الناس نفيا أو إثباتا موقوفة على الاستفسار والتفصيل ويمنع من [ ص: 301 ] إطلاق نفي ما أثبته الله ورسوله وإطلاق إثبات ما نفى الله ورسوله .



                و " الأصل الثاني " فيما اتفق الناس على أنه غير مقدور للعبد وتنازعوا في جواز تكليفه . وهو " نوعان " : ما هو ممتنع عادة كالمشي على الوجه والطيران ونحو ذلك وما هو ممتنع في نفسه كالجمع بين الضدين فهذا في جوازه عقلا ثلاثة أقوال كما تقدم . وأما وقوعه في الشريعة وجوازه شرعا فقد اتفق حملة الشريعة على أن مثل هذا ليس بواقع في الشريعة وقد حكى انعقاد الإجماع على ذلك غير واحد منهم أبو الحسن بن الزاغوني ، فقال : ( فصل ) تكليف ما لا يطاق وهو على ضربين : ( أحدهما ) : تكليف ما لا يطاق لوجود ضده من العجز وذلك مثل أن يكلف المقعد القيام ، والأعمى الخط ونقط الكتاب ، وأمثال ذلك فهذا مما لا يجوز تكليفه وهو مما انعقد الإجماع عليه وذلك لأن عدم الطاقة فيه ملحقة بالممتنع والمستحيل وذلك يوجب خروجه عن المقدور فامتنع تكليف مثله .

                و ( الثاني ) : تكليف ما لا يطاق لا لوجود ضده من العجز مثل أن يكلف الكافر الذي سبق في علمه أنه لا يستحب التكليف كفرعون وأبي جهل [ ص: 302 ] وأمثالهم فهذا جائز وذهبت المعتزلة إلى أن تكليف ما لا يطاق غير جائز . قال وهذه المسألة كالأصل لهذه . قلت : وهذا الإجماع هو إجماع الفقهاء وأهل العلم فإنه قد ذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن تكليف الممتنع لذاته واقع في الشريعة وهذا قول الرازي ، وطائفة قبله وزعموا أن تكليف أبي لهب وغيره من هذا الباب حيث كلف أن يصدق بالأخبار التي من جملتها الإخبار بأنه لا يؤمن وهذا غلط فإنه من أخبر الله أنه لا يؤمن وأنه يصلى النار بعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الإيمان فقد حقت عليه كلمة العذاب : كالذي يعاين الملائكة وقت الموت لم يبق بعد هذا مخاطبا من جهة الرسول بهذين الأمرين المتناقضين .

                وكذلك من قال : تكليف العاجز واقع محتم بقوله : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } فإنه يناقض هذا الإجماع ، ومضمون الإجماع نفي وقوع ذلك في الشريعة و " أيضا " فإن مثل هذا الخطاب إنما هو خطاب تعجيز على وجه العقوبة لهم لتركهم السجود وهم سالمون يعاقبون على ترك العبادة في حال قدرتهم بأن أمروا بها حال عجزهم على سبيل العقوبة لهم وخطاب العقوبة والجزاء من جنس خطاب التكوين لا يشترط فيه قدرة المخاطب إذ ليس المطلوب فعله وإذا تبينت الأنواع والأقسام زال الاشتباه والإبهام .




                الخدمات العلمية