الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين .

                                                          أرادوا إعنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قيام الحجة ووضوح الدليل وقد لبث فيهم - صلى الله عليه وسلم - عمرا طويلا، أمينا صادقا عاقلا رزينا، حكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ومع هذا طلبوا آية أخرى غير القرآن.

                                                          وإذا ذكر لهم قصص أمم أهلكها الله إذ كفروا وبغوا على أنبيائهم تحدوا الرسول وطلبوا آية تهلكهم كما هلك عاد وثمود وقوم تبع وقوم نوح.

                                                          ويقولون لولا أنـزل عليه آية من ربه - آية حسية أو آية مهلكة - التعبير بالمضارع يفيد تكرارهم ذلك القول آنا بعد آن، وهو الموقف السلبي لمن يريد جعل [ ص: 3541 ] الوقت في صالحه فالمحاورة مستمرة وطلب الدليل بعد الدليل يحسبون أنهم بذلك قد فازوا بالوقت.

                                                          (لولا) بمعنى " هلا " للتحضيض، كأن الحجة التي ساقها النبي غير كافية وكأنهم يتحدونه - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم ممن قص قصصهم، فالمطلوب إذن آية حسية تقنعهم - في زعمهم - أو تهلكهم.

                                                          ومعنى إنزالها - إتيانها - تشبيها بالقرآن إذ نزل على قلبه الأمين، ولكن المعجزات الحسية قد جاءت للأنبياء السابقين وكذبوا، فما الجدوى من التغيير; يقول تعالى: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

                                                          إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية

                                                          ولو نـزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين

                                                          إنهم كانوا ليستعجلون العذاب الذي نزل بالمكذبين قبلهم مبالغة في التحدي والإعنات، بل طلبوا الآية المهلكة.

                                                          يقول تعالى: ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب

                                                          وقد أجابهم - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين

                                                          " الفاء " تدل على أن ما بعدها مترتب على قولهم الذي قالوه: فقل إنما الغيب أي: إن ما تطلبون معجزة كان أم هلاكا هو أمر يغيب عني ومفوض لربكم; ولذلك جاءت العبارة القرآنية مصدرة بـ " إنما " الدالة على القصر، وفي هذا إشعار بأمرين: [ ص: 3542 ]

                                                          أولهما أن المعجزة الكبرى (القرآن) هي من عند الله اختارها لكم في غيبه المكنون، وأنه أمهلكم لا ينزل عليكم الآيات المهلكة لحكمة يعلمها; لأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - تخاطب الأجيال كلها، وعسى أن يخرج من أصلابكم من يعبد الله.

                                                          ثانيهما: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم الغيب، وهو بشر مثلكم بعث فيكم رسولا منكم، ولذا يقول سبحانه: فانتظروا إني معكم من المنتظرين

                                                          " الفاء " للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها; لأنه إذا كان علم الغيب عند الله تعالى وحده فإنه - صلى الله عليه وسلم - عليه انتظار ما غيب عنهم.

                                                          كما أن قوله هذا سبحانه وتعالى يومئ إلى المساواة بينهم وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - في علم الغيب، وأكد هذه المعية إدماجه - صلى الله عليه وسلم - في المنتظرين وأنه معهم.

                                                          ليس في ذلك تصغير لمقام النبوة، ولكنه بيان لمنزلة النبي البشر، وتأكيد بأنه يتكلم عن الله سبحانه.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية