الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لله ما في السماوات وما في الأرض في هذه الجملة السامية بيان لشمول ملك الله سبحانه وتعالى ، وفي ذكر هذا الشمول بعد الآيات التي بينت أحكام الأموال ببيان مصارف البر ، ومواضع التحريم ، وطرق التعامل ، وما يوجد الثقة - إشارة إلى معان عامة وخاصة : أما العامة فهي بيان أن ما في يد الإنسان عارية مستردة ، وأن المالك في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى ، فلا يغتر ذو مال بماله ، ولا تذهب به النهمة إلى طلبه من غير حلال ، فإن يده زائلة عنه لا محالة ، وعليه أن يجمل في الطلب ، وأن ينتهز [ ص: 1083 ] فرصة وجود المال بين يديه ليكثر من البر وفعل الخير ، فهو الباقي والدائم ، وأنه سبحانه وتعالى المسيطر على كل شيء المعطي الوهاب ، فهو الذي أعطى ذا المال وبسط له الرزق ، وهو الذي قدر رزق الفقير ، فليس لغني أن يعتز بغناه ، ولا ذي فقر أن يذل لفقره ، فالعزة لله وحده ، والخضوع له وحده ; وإنه سبحانه إذا كان المالك لكل ما في السماوات والأرض ، فله وحده العقاب والثواب ، وليس لأحد من عباده إلا ما ينعم به عليه من نعم .

                                                          وأما الإشارة إلى المعنى الخاص ، فهو أنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية السابقة أنه عليم بكل ما يعملون ; وإن من أسباب هذا العلم الدقيق أنه مالك لكل ما في السماوات والأرض ، لأنه خالق ما في السماوات والأرض ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما بكل ما يعمله الناس ، ومالكا لكل ما في السماوات وما في الأرض فإنه سبحانه وتعالى يحاسب على كل ما يفعله الإنسان سواء أكان من حركات النفس أم كان من حركات الجوارح ، ولذا قال سبحانه :

                                                          وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله في هذا النص الكريم يبين سبحانه أنه يعلم السر والعلن ، ما ظهر وما بطن ، وأنه يعلم حركات النفس وما تصر عليه وما تعزمه من فعل ، سواء أعلنته أم لم تعلنه ، وإن هذا النص كما يفيد علم الله بما ظهر وما بطن من أعمال النفوس ، يفيد بصريحه أنه يحاسب الإنسان على النيات وما تكسبه القلوب ، سواء أأخفاه الشخص أم أظهره ، فما تكسبه القلوب موضع مؤاخذة بهذا النص ; وقد قال تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ولكن قد اعترض على ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم يتكلموا أو يعملوا [ ص: 1084 ] ولقد ادعى بعضهم لهذا الحديث أن الآية منسوخة ; لأن حديث النفس لا يمكن التخلص منه ; وأنها نسخت بقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولكن ذلك القول غير مقبول ; لأنه لا تعارض بين الآيتين ، حتى تنسخ إحداهما الأخرى ، كما أنه لا تعارض بين الآية والحديث الشريف ; لأن حديث النفس ليس هو ما تكسبه النفس ، ويعزمه القلب ، وينويه الشخص ويصر عليه ; وإنما هو تلك الخواطر النفسية التي تعرض للإنسان فتوجهه نحو الهوى والشهوة ; فإن سار وراءها حتى اعتزمها وأرادها وأصر عليها ، ولكن عاقه عائق عن تنفيذها ، لا يكون حديث النفس ، بل يكون كسب النفس ، ولكل نفس ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت ; فالمرتبة الأولى وهي تلك الخواطر ليست موضع مؤاخذة ، بل إن التغلب عليها ، وكفها بعد مكافحتها موضع ثواب ; لأنه جهاد النفس ، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر ، كما ورد في الأثر " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ويقصد به جهاد النفس ; إنما موضع المؤاخذة الإصرار بعد الخواطر .

                                                          وعلى ذلك : نقول إن موضع التجاوز هو حديث النفس ، وموضع الحساب هو الإصرار والنيات ، والاتجاه القلبي إلى الأذى والانتقام وقد بينا ذلك من قبل .

                                                          فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وإن هذه نتيجة الحساب ، فيستر الله سبحانه وتعالى ذنوب من يشاء ويعفو عنه ، وإنه ليعفو عن كثير كما ذكر سبحانه ، ويعذب من يشاء جزاء ما اقترف من آثام ; وإن مشيئة الله سبحانه وتعالى لا قيد يقيدها ، ولا شيء يحدها ، ولكنه سبحانه يغفر لمن سار في طريق الهداية ، ولم تركس نفسه في المعاصي ، ولم تحط به خطاياه حتى تستغرق نفسه ، وتستولي على حسه ، ويغلب عليه حب الخير ; وهذا معنى قوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات أما من استولت عليه الشهوات ، وأحاطت به [ ص: 1085 ] الخطايا ، وغلب عليه الشر والأذى ، ولم يكن منه الخير إلا لماما ، فإن الله محاسبه بما كان ; لأنه لا حسنات تذهب بالسيئات ; والله سبحانه وتعالى هو المالك للإنسان وما يصنع الإنسان ، فلا قيد يقيد إرادته تبارك وتعالى .

                                                          والله على كل شيء قدير هذا ختام الآية الكريمة ، وهو في بيان شمول قدرة الله تعالى وعموم إرادته سبحانه ، فهو القادر على الثواب والعقاب ، وهو القاهر فوق عباده ، ولا سلطان فوق سلطانه ، وهو الذي يلهم التوفيق لمن كتب له التوفيق ، وهو الذي يترك من يقع في غواية الشيطان ، وهو الذي يسهل التوبة لمن يتوب ، غافر الذنب ، قابل التوب ، شديد العقاب ; فالإنسان وما يملك ، وخواطره وهواجسه ، وأحاسيسه ، ونياته واعتزاماته ; كل ذلك تحت سلطان القادر ، وقوة القاهر .

                                                          اللهم اجعلنا من عبادك الطائعين الخاضعين ، الراضين بقضائك وقدرك ، إنك أنت العزيز الحكيم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية