الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم قال (تعالى) - في علاج حال الفقراء؛ فقال - عز من قائل -: وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ؛ اللام لام الأمر؛ و " يستعفف " السين والتاء للطلب؛ والمعنى: ليطلب العفة ولا يتجافى سبيلها والوصول إليها؛ والحصول عليها؛ إنما يسلك كل المسالك لطلبها؛ فهي طلب للجهاد في العفة والحصول عليها؛ الذين لا يجدون نكاحا ؛ أي: مهيئات النكاح؛ من مهر ونفقة ومسكن؛ إلى آخر ما يكون سببا للنكاح؛ أو تمهيدا له؛ فالتعبير بالنكاح ذكر للمسبب؛ وإرادة للسبب؛ ومن لم يجد مهيئات النكاح لا يجد النكاح؛ وأسباب الاستعفاف كثيرة؛ منها ضبط النفس؛ ومنها الصيام؛ ومنها الانشغال بالعبادة وتلاوة القرآن؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة [ ص: 5189 ] فليتزوج؛ ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء " ؛ " الباءة " : تكاليف الزواج؛ التي يمكنه أن يبوء بها في هذه العقدة المباركة؛ والصوم يتضمن معاني روحانية؛ والتجرد من الملاذ والأهواء؛ ويتضمن الصبو؛ وضبط النفس؛ وقرع الشهوات؛ و " الوجاء " : قطع الشهوات؛ ودفع سيطرتها؛ فتكون الشهوة أمة ذلولا؛ ولا تكون سيدا مطاعا؛ تخضع له النفوس وتتطامن؛ وتخنع.

                                                          وإن الاستعفاف يستمر حتى يغنيهم الله من فضله؛ فهو يستمر ضابطا نفسه؛ مسيطرا عليها؛ حتى يغنيه الله (تعالى) من فضله؛ أي: بفضله؛ ورحمته؛ وهو ذو الفضل العظيم.

                                                          وإن هذا الاستعفاف للأحرار من الرجال؛ الذين لا يملكون باءة النكاح؛ فما حال الرجال العبيد الذين لا يملكون أسباب النكاح؛ ولهم فيه رغبة؛ ولا يزوجهم مواليهم؟ فما الذي يستطيعونه؟ شرع الله (تعالى) لهم المكاتبة؛ وطالبهم بأدائها؛ وأمر الموالي أن يجيبوهم؛ فقال (تعالى): والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ؛ والذين يبتغون ؛ كلام مستأنف؛ له صلة بالكلام السابق؛ و " يبتغون " ؛ يطلبون راغبين؛ متشددين في الطلب؛ و " الكتاب " ؛ مصدر " كاتب؛ يكاتب " ; لأن مصدر " فاعل " : " فعال " ؛ أو " مفاعلة " ؛ كـ " قتال " ؛ و " مقاتلة " ؛ و " عناد " ؛ و " معاندة " ؛ فمعنى " الكتاب " : " المكاتبة " ؛ أي: إن طلبوا المكاتبة فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ؛ والفاء هي كالفاء الواقعة في جواب الشرط؛ لأن الاسم الموصول؛ " والذين يبتغون الكتاب " ؛ في معنى فعل الشرط؛ و " المكاتبة " : اتفاق بين المالك والمملوك؛ على أن يتركه حتى يحصل على قدر من المال يتفقان عليه؛ فإن أنفذه وأداه عتق؛ وقد شرع الله ذلك العقد؛ تسهيلا لفك الرقاب من غير ضياع حق للمالك؛ وتعليق الأمر بالمكاتبة على قوله: إن علمتم فيهم خيرا ؛ و " الخير " ؛ هنا: الأمانة والاستقامة والقدرة على السعي للحصول على مال المكاتبة؛ وقال [ ص: 5190 ] الظاهرية؛ وبعض الفقهاء: إن الأمر هنا " فكاتبوهم " ؛ للوجوب؛ بمقتضى ظاهر الأمر؛ أي أن الأمر هنا للوجوب بمقتضى ظاهر اللفظ.

                                                          وإنه من الواجب؛ أو المندوب؛ أن يؤتيهم القادرون ما يستعينون به على فك رقابهم؛ ولذا قال (تعالى): وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ؛ أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله (تعالى)؛ ونسبة المال إلى الله (تعالى) فيها حث على الإعطاء; لأنه بمال الله؛ الذي جعلكم مستخلفين فيه؛ فكان حقا عليكم بمقتضى هذا الاستخلاف أن تعطوه لعيال الله (تعالى)؛ وهم الفقراء الأرقاء الذين يحتاجون ليفكوا رقبتهم؛ وقد أوجب الله (تعالى) ذلك فجعله مصرفا من مصارف الزكاة؛ وهو يصرف في الرقاب؛ في قوله (تعالى): إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل

                                                          وقال الفقهاء: إن سهم الرقاب ينفق في معاونة المكاتبين؛ حتى يسدوا ما عليهم؛ وتسارع لهم الحرية.

                                                          وقد نهى - سبحانه - عن إكراه الإماء على البغاء؛ وهو طلب المرأة للزنا؛ وقد كان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول عنده ست إماء؛ كان يكرههن على البغاء؛ ويأخذ أجورهن؛ وهو سحت؛ لأن مهر البغايا سحت؛ وقد قال (تعالى): ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ؛ " الفتيات " ؛ المراد بهن الإماء؛ وعبر عنهن بـ " الفتيات " ؛ لنقتدي بالقرآن؛ والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: " لا تقل: عبدي؛ وأمتي؛ بل قل: فتاي؛ وفتاتي " ؛ وللحض على عدم إكراههن على البغاء؛ لأنهن فتياته؛ فلا يسوغ إكراههن; ولأن التعبير بـ " الفتاة " ؛ فيه إيماء إلى صغرهن؛ وأنه مرغوب فيهن؛ مبغي طلبهن؛ ولسن عجائز يرغب عنهن؛ وقوله (تعالى): إن أردن تحصنا ؛ مبالغة في اللوم والتأثيم؛ و " التحصن " : إرادة حصن العفة؛ يتحصن به؛ ولا يجعلن أنفسهن متاعا يستفرشه الرجال في حرام. [ ص: 5191 ] وليس معنى التعليق أنهن إذا كن يبغين البغاء يكرهن؛ إنما الشرط لتحقيق معنى الإكراه؛ فهو لا يكون إلا حيث تكون إرادة التحصن؛ وهو توبيخ لمالك الأمة التي تفعل؛ فهي الأمة تأبى أن تكون بغيا؛ وهو الذي يريدها بغيا؛ ويقول - سبحانه -: لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ؛ و " عرض الحياة الدنيا " ؛ هو المال من طريقه الرخيص الذي لا يرضاه؛ وهو أدنى طريق وأحقره.

                                                          ثم يقول (تعالى) في بيان أن الله (تعالى) يعفو عن هؤلاء المكرهات؛ ويكون إثم الإكراه على مواليهن؛ فقال: ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ؛ أي أن الله يغفر لهن هذا الذنب الذي كان بإكراه؛ وقوله: من بعد إكراههن ؛ للإشارة إلى أن الفعل الآثم يكون من بعد الإكراه وبسببه؛ فالله يغفر ذلك الإثم؛ لأنه غفور رحيم.

                                                          هذه الأحكام كلها أحكام لصيانة المجتمع الإسلامي؛ وليكون طاهرا؛ لا دنس فيه؛ ولصيانة الأسرة؛ ولصيانة المرأة المسلمة؛ حرة أو أمة؛ والرجل المسلم؛ حرا أو عبدا؛ وهي آيات بينات؛ ولذا قال (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية