الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الاتباع يكون عن بينة.

                                                          وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين

                                                          إن قوة الحق ليست بكثرة من يقولون، وإنما قوته بقوة دليله، فلا تطع الأكثرين لأنهم الكثرة، بل أطعهم لقوة ما عندهم من دليل، فالآية تدعو إلى اتباع العقل والمنطق واليقين، وليس اتباع الكثرة لأنها كثرة، وقد ذكر الله تعالى عن كثرة ضلت، وقلة اهتدت، فقال تعالى مثلا لذلك: ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين وقال تعالى: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

                                                          [ ص: 2641 ] ولقد قال تعالى في الآية التي نتكلم في معناها: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله

                                                          هذه الآية تدل بجملتها وظاهر ألفاظها أن الله تعالى يقول لنبيه الأمين: إنك تضل لو أطعت من في الأرض واتبعت كثرتهم، وإذا أريد بالأرض أرض المشركين من بلاد العرب، فالمعنى يكون محدودا بحدود الكثرة العربية الذين كانوا في ذلك الوقت مشركين، فإن تطع أكثرهم يضلوك عن سبيل الله تعالى; لأنهم مشركون والشرك ضلال، فإن أطعتهم دخلت في ضلالهم، ويكون معنى القول نهيا لمن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن يتبعوا المشركين في ضلالهم لأنهم الأكثرون، فالكثرة لا تعطي الدليل قوة، ولا تتبع اليقين دائما، بل إن أقوالهم تعتمد على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا; ولذا قال تعالى: إن يتبعون إلا الظن و: (إن) هنا نافية بمعنى (ما) ، أي: إنهم لا يتبعون إلا الظن فيظنون الأمر ظنا، ثم يعتقدونه اعتقادا، كما قال تعالى عن أمثالهم: إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين وأكد هذا ببيان طريق ظنهم فقال تعالى: وإن هم إلا يخرصون

                                                          والخرص مأخوذ من خرص النخل; ليعرف ما تحمل من بلح، فيقال: خرص النخل يخرصه إذا حزره، ولا يمكن أن تكون نتيجة الخرص علما قطعيا تبنى عليه عقيدة، أو يؤخذ به رأي سليم في أي أمر من الأمور، وأقصى ما ينتهي إليه ظن لا قطع فيه. فالمعنى: إن هم إلا يظنون، وإن هم في سبيل ذلك لا يتبعون إلا الخرص الذي لا ينتهي إلى يقين قط.

                                                          هذا الكلام خرجناه على أن الأرض المراد بها أرض الشرك، ويكون المقصود طاعة المشركين، ولكن الأرض لو يراد منها الأرض الواسعة أرض الله تعالى، ويكون المراد: إن تطع الناس فيما يرون ويبتغون يضلوك عن سبيل الله تعالى، وليس الحق دائما مع الكثرة، بل قد تكون الكثرة على غير الحق، بل إنه ثبت من التحليل للعقلية الجماعية أنها لا تدرك ما يدركه المتفكر في خاصة نفسه، وذلك [ ص: 2642 ] لأن الجماعات تغلب عليها العاطفة الجماهيرية، ولا يكون مجال لتمحيصها، ولعل هذا هو ما يرمي إليه النص القرآني في وصف تفكير أكثر من في الأرض؛ إذ يقول سبحانه: إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

                                                          ومهما يكن فإن الآية الكريمة تدل على أمرين:

                                                          أولهما: أن الاتباع عن غير بينة لا يجوز، بل إنه يجب النظر والبحث، وأن اتباع الجماعات من غير دراسة لا يجوز، وأن الجماعات يغلب على تفكيرها الحدس والتخمين، ولا يسودها التفكير والدرس العميق والمنطق السليم.

                                                          ثانيهما: أن قوة الآراء ليست بكثرة معتنقيها، وإنما بقوة ما فيها من دليل، وإنه يترتب على ذلك أنالتقليد لا يجوز.

                                                          وقد يقول قائل: إن الكثرة تغلب في الآراء عند الشورى، فلا يغلب رأي القلة، وإن كان معقولا، فكيف رأي الكثرة غير صحيح.

                                                          ونقول في الإجابة عن ذلك: إن أساس الشورى الرضا بالعمل، ورأي الكثرة اتباعه هو الدليل على النزول على رضا الجماعة، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نزل على رأي الكثرة عند الشورى في حرب أحد، ولو كان رأيه غير ذلك.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية