الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
الوجه الثامن من وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه) وهو مما خصت به هذه الأمة لحكم، منها التيسير. وقد أجمع المسلمون على جوازه! وأنكره اليهود ظنا منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له أنه باطل، لأنه بيان مدة الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة، وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بداء، فكذا الأمر والنهي. واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها . قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن. وقيل: بل ينسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضا من عند الله، قال تعالى: وما ينطق عن الهوى . وجعل منه آية الوصية الآتية. والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نسخت، وإن كانت باجتهاد فلا. حكاه ابن حبيب النيسابوري في كتابه التفسير. وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بسنة فمعها قرآن عاضد لها، وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق القرآن والسنة. وقد بسطت هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول. وقد أفرد بالتصنيف في هذا الفن خلائق لا تحصى، منهم: أبو عبيد القاسم [ ص: 84 ] ابن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنباري، ومكي. وابن العربي، وآخرون. لكن في هذا النوع مسائل: الأولى: يرد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه قوله: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته . وبمعنى التبديل، ومنه: وإذا بدلنا آية مكان آية . وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد. وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه. قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن. وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ. وأنه إنما يأتي بلفظ آخر. وقال السعيدي: يشهد لما قاله النحاس قوله: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون الجاثية: 29. وقال: وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم . ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون . الثانية: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر، أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد. وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صنع من أدخل في كتاب النسخ كثيرا من آيات الإخبار والوعد والوعيد. [ ص: 85 ] الثالث: النسخ أقسام: أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة، كآية النجوى.

الثاني: ما نسخ مما كان شرعا لمن قبلنا كآية شرع القصاص والدية. أو كان أمر به أمرا جمليا، كنسخ التوجه إلى بيت القدس بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، وإنما يسمى هذا نسخا تجوزا.

الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر - حين القلة والضعف - بالصبر والصلح، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس نسخا، بل من قسم المنسأ، كما قال تعالى: أو ننسها ، فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون. وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبه يضعف ما لهج به كثيرون من أن الآيات في ذلك منسوخة بآية السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى لا يجوز امتثاله. وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مشعرا بالتوقيت والغاية مثل قوله في البقرة: فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره محكم غير منسوخ، لأنه يؤجل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه .

الرابعة: قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة: الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف، والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات، وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون.

وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة، وثلاث بعدها، [ ص: 86 ] والحج، والنور، وتالياها، والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة، والمزمل، والمدثر، وكورت، والعصر. وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ستة: الفتح، والحشر، والمنافقون، والتغابن، والطلاق، والأعلى.

وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية، كذا قال. وفيه نظر يعرف مما يأتي.

الخامسة: قال مكي: الناسخ أقسام: فرض نسخ فرضا، ولا يجوز العمل بالأول، كنسخ الحبس للزواني بالحد. وفرض نسخ فرضا، ويجوز العمل بالأول كآية المصابرة. وفرض نسخ ندبا، كالقتال، كان ندبا ثم صار فرضا. وندب نسخ فرضا، كالقيام نسخ بالقراءة في قوله: فاقرءوا ما تيسر من القرآن .

السادسة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نسخ تلاوته وحكمه معا، قالت عائشة: كان فما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فما يقرأ من القرآن. ورواه الشيخان. وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك. وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن التلاوة نسخت أيضا، ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي وبعض الناس يقرؤها. قال أبو موسى الأشري: نزلت ثم رفعت. وقال مكي: وهذا المثال فيه المنسوخ غير المتلو، والناسخ أيضا غير متلو، ولا أعلم له نظيرا.

الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه [ ص: 87 ] الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جدا، وإن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه، فإن المحققين منهم كالقاضي أبي بكر بن العربي ميز ذلك وأتقنه. والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام: قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له علاقة بهما بوجه من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: ومما رزقناهم ينفقون . أنفقوا مما رزقناكم . ونحو ذلك، قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك، بل هو باق. أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة، كالإعانة والضيافة، وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة. والآية الثانية تصح كلها على الزكاة، وقد فسرت بذلك. وكذا قوله: أليس الله بأحكم الحاكمين 8. قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة. وقوله في البقرة: وقولوا للناس حسنا . عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف. وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق، فهو خبر، فلا نسخ فيه. فقس على ذلك. وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ. وقد اعتنى ابن العربي بتجريده، فأجاد، كقوله: إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا والشعراء يتبعهم الغاوون . إلا الذين آمنوا . الشعراء: 224، 227. فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ، ومنه قوله تعالى: ولا تنكحوا [ ص: 88 ] المشركات حتى يؤمن . قيل نسخ بقوله: والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وإنما هو مخصوص به. وقسم رفع ما كان عليه من الأمر في الجاهلية أو في شرائع من قبلنا، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء، ومشروعية القصاص، والدية، وحصر الطلاق في الثالث. وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجحه مكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لو عد في الناسخ لعد جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب. وقالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية ... انتهى. نعم النوع الآخر منه - وهو رافع ما كان في أول الإسلام - إدخاله أوجب من القسمين قبله. إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون من الجم الغفير مع آيات الصلح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم ينسخها، وبقي ما يصلح لذلك عدد يسير. وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محررا: من البقرة قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر . قيل منسوخة بآية الميراث، وقيل بحديث: لا وصية لوارث. وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي. قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين . قيل منسوخة بقوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . وقيل محكمة و" لا " مقدرة. قوله تعالى: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . ناسخة لقوله: كما كتب على الذين من قبلكم ، لأن [ ص: 89 ] مقتضاها الموافقة فما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم. ذكره ابن العربي، وحكى قولا آخر أنه نسخ لما كان بالسنة. قوله تعالى: يسألونك عن الشهر الحرام . منسوخة بقوله: وقاتلوا المشركين كافة . أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة. قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا . إلى قوله: متاعا إلى الحول . منسوخة بآية: أربعة أشهر وعشرا . والوصية منسوخة بالميراث. والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث: ولا سكنى. قوله تعالى: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله . منسوخة بقوله بعده: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . ومن آل عمران قوله تعالى: اتقوا الله حق تقاته . قيل إنه منسوخ بقوله: فاتقوا الله ما استطعتم . وقيل: لا، بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية. ومن النساء قوله تعالى: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . منسوخة بقوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض . قوله تعالى: وإذا حضر القسمة منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. قوله تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة . منسوخة بآية النور. ومن المائدة قوله تعالى: ولا الشهر الحرام . منسوخة بإباحة القتال فيه. [ ص: 90 ] قوله تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . منسوخة بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله . قوله تعالى: أو آخران من غيركم . منسوخ بقوله: وأشهدوا ذوي عدل منكم الطلاق: 2. ومن الأنفال قوله تعالى: إن يكن منكم عشرون صابرون . منسوخة بالآية بعدها. ومن براءة قوله تعالى: انفروا خفافا وثقالا . منسوخة بآية العذر، وهي قوله: ليس على الأعمى حرج . وقوله: ليس على الضعفاء ... . التوبة: 91، الآيتين وبقوله: وما كان المؤمنون لينفروا كافة . ومن النور قوله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية . منسوخ بقوله: وأنكحوا الأيامى منكم . قوله تعالى: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم . قيل: منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها. ومن الأحزاب قوله تعالى: لا يحل لك النساء من بعد منسوخة بقوله تعالى: إنا أحللنا لك أزواجك . ومن المجادلة قوله تعالى: إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة . منسوخة بما بعدها. ومن الممتحنة قوله تعالى: فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا . قيل منسوخ بآية السيف. وقيل بآية الغنيمة. وقيل محكم. ومن المزمل قوله تعالى: قم الليل إلا قليلا . المزمل: 2. منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس. [ ص: 91 ] فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها. والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة. ويضم إليها قوله تعالى: فأينما تولوا فثم وجه الله البقرة: 165. على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: فول وجهك شطر المسجد الحرام . فتتم عشرين. وقد نظمتها فقلت:

قد أكثر الناس في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر     وهاك تحرير آي لا مزيد لها
... عشرين حررها الحذاق والكبر     آي التوجه حيث المرء كان وأن
... يوصي لأهليه عند الموت محتضر     وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث
... وفدية لمطيق الصوم مشتهر     وحق تقواه فما صح في أثر
... وفي الحرام قتال للألي كفروا     والاعتداد بحول مع وصيتها
... وأن يدان حديث النفس والفكر     والحلف والحبس للزاني وترك ألي
... كفر، وإشهادهم والصبر والنفر     ومنع عقد لزان أو لزانية
... وما على المصطفى في العقد محتظر     ودفع مهر لمن جاءت وآية نجـ
... واه كذاك قيام الليل مستطر     وزيد آية الاستئذان من ملكت
... وآية القسمة الفضلى لمن حضروا

فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم وإبقاء التلاوة، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الفرقان كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كتاب الله، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.

والثاني: أن النسخ غالبا يكون للتخفيف. فأبقيت التلاوة تذكيرا للرحمة ورفع الشقة. وأما ما ورد في القرآن ناسخا لما كان عليه الجاهلية، أو كان في شرع من قبلنا، أو في أول الإسلام، فهو أيضا قليل العدد، كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، في أشياء أخر حررتها في كتابي المشار إليه. [ ص: 92 ] قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلا والمنسوخ قبله في الترتيب إلا آيتين: آية العدة في البقرة، وقوله: لا يحل لك النساء ، كما تقدم. وزاد بعضهم ثالثة، وهي آية الحشر في الفيء على رأي من قال إنها منسوخة بآية الأنفال: واعلموا أنما غنمتم من شيء . وزاد قوم رابعة، وهي قوله: خذ العفو . الأعراف: 198، - يعني الفضل من أموالهم على رأي من قال إنها منسوخة بآية الزكاة. وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . نسخت مائة وأربعا وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها. وقال أيضا: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: خذ العفو . فإن أولها وآخرها - وهو: وأعرض عن الجاهلين - منسوخ، ووسطه محكم، وهو: وأمر بالعرف. وقال: من عجيبه أيضا آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، ولا نظير لها، وهي قوله: عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم المائدة: 105. - يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله: عليكم أنفسكم المائدة: 105. وقال السعدي: لم يمكث منسوخ مدة أكثر من قوله تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل . مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية. وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال في قوله تعالى: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . أن المنسوخ من هذه [ ص: 93 ] الجملة وأسيرا، والمراد بذلك أسير المشركين، فقرئ عليه الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت له: أخطأت يا أبت. قال: وكيف، قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا. فقال: صدقت. وقال شيذلة في البرهان: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخا، كقوله: لكم دينكم ولي دين . نسخها قوله: فاقتلوا المشركين . ثم نسخ هذه بقوله: حتى يعطوا الجزية . كذا قال، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: ما تقدمت الإشارة إليه. والآخر أن قوله: حتى يعطوا الجزية - مخصص للآية لا ناسخ، نعم يمثل له بآخر سورة المزمل، فإنه ناسخ لأولها منسوخ بفرض الصلوات الخمس. وقوله: انفروا خفافا وثقالا ، ناسخ لآية الكف، منسوخ بآية العذر. وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبي ميسرة، قالا: ليس في المائدة منسوخ. ويشكل بما في المستدرك عن ابن عباس أن قوله: فاحكم بينهم أو أعرض عنهم المائدة: 42، - منسوخ بقوله: وأن احكم بينهم بما أنزل الله . وأخرج أبو عبيد وغيره، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة. وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه، قال: أول آية نسخت من القرآن القبلة، ثم الصيام الأول. قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ. قال: وقد ذكر أنه وقع فيه في آيات، منه قوله تعالى في سورة غافر: يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا . غافر: 7. فإنه ناسخ لقوله تعالى: ويستغفرون لمن في الأرض الشورى: هـ. [ ص: 94 ] قلت: أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة اتفاقا.

تنبيه قال ابن الحصار: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي يقول: آية كذا نسخت كذا. وقال: قد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التأويل، ليعلم المتقدم والمتأخر. قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد المجتهدين من غير نقل صريح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات حكم تقرر في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالمعتمد فيه النقل والتاريخ دون الرأي والاجتهاد. قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقبل في النسخ أخبار آحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد. والصواب خلاف قولهما. الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه. وقد أورد بعضهم فيه سؤالا. وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟. وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والنائم أدنى طريق الوحي. وأمثلة هذا الضرب كثيرة، قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله [ ص: 95 ] وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر. قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن أبي لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقدر إلا على ما هو الآن . وقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن الفضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: قال لي أبي بن كعب: كأين تعد سورة الأحزاب، اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثا وسبعين آية، قال: إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنا لنقرأ فيها آية الرجم. قلت: وما آية الرجم، قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد ابن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي أمامة بن سهل - أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة. وقال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي حميد، عن حميدة بنت أبي يونس، قالت: قرأ علي أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما. وعلى الذين يصلون الصفوف الأول - قالت قبل أن يغير عثمان المصاحف. وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوحي إليه أتيناه فعلمنا مما أوحي إليه. قال: فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا لأحب أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحب أن يكون له الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. [ ص: 96 ] وأخرج الحاكم في المستدرك، عن أبي بن كعب، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومن بقيتها: لو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه سأل ثانيا، وإن سأل ثانيا سأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية السمحة غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيرا فلن يكفره. وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حرب، عن أبي الأسود، عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو براءة، ثم رفعت، وحفظ منها: إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعري، قال: كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، فأنسيناها، غير أنى حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة. قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عدي بن عدي، قال: قال عمر: كنا نقرأ لا ترغبون عن آبائكم فإنه كفر بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: كذلك، قال: نعم. قال: وحدثنا - ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، حدثنا ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة، فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن. وقال: حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي سفيان الكلاعي - أن مسلمة بن مخلد الأنصاري، قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه وعندهم أبو الكنود [ ص: 97 ] سعد بن مالك، فقال مسلمة، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ألا فأبشروا أنتم أيها المفلحون. والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب الله عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون. وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر، قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك له، فقال: إنها مما نسخ فألهوا عنها. وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا: وقنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قاتليهم. قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع: أن بلغوا عنا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا. وفي المستدرك عن حذيفة، قال: ما تقرءون ربعها - يعني براءة. قال أبو الحسين بن المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ: ومما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع حفظه من القلوب سورة القنوت في الوتر، وتسمى سورة الخلع والحفد.

تنبيه حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم، إنكار هذا الضرب، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها. وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه. ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في الصحف. فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى . [ ص: 98 ] ولا يعرف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا توفي لا يكون متلوا من القرآن، أو يموت وهو متلو موجود بالرسم، ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانهم. وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. انتهى. وقال في البرهان في قول عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله لكتبتها - يعني آية الرجم، ظاهره أن كتابتها جائزة، وإنما منعه قول الناس. والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب. وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعرج على مقالة الناس، لأن مقال الناس لا يصلح مانعا. وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد، والقرآن لا يثبت به وإن ثبت لا يحكم. ومن هنا أنكر ابن ظفر في " الينبوع " عد هذا مما نسخ تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت به القرآن. قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ، وهما مما يلتبسان، والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه. انتهى. وقوله: لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقاها من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخرج الحاكم من طريق كثير بن الصلت، قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاصي يكتبان المصحف، فمرا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا زنيا الشيخ والشيخة، فارجموهما ألبتة. فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أكتبها؟ ، فكأنه كره ذلك. فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم. قال ابن حجر في شرح البخاري: فيستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها. قلت: وخطر لي في ذلك نكتة حسنة، وهو أن سببه التخفيف على الأمة [ ص: 99 ] بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقيا، لأنه أثقل الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر. وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في المصحف، قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثيبين يرجمان، وقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: وأنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله، اكتبني آية الرجم. قال: لا أستطيع. قوله: اكتبني، أي ائذن لي في كتابتها، ومكني من ذلك. وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، عن يعلى بن حكيم، عن زيد بن أسلم، أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق، وقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبي بن كعب، فقال: ألست أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدفعت في صدري وقلت تستقرئ آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر. قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو الاختلاف.

تنبيه: قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وجميع هذه الأوجه، مع علم اللغة والنحو والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول. قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا. قال: هلكت وأهلكت. قال الخويي: علم التفسير علم غير يسير، أما عسره فظاهر من وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه. وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم بالمراد مستنبط بأمارات ودلائل. والحكمة فيه أن الله أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته. [ ص: 100 ] وقد كان الصحابة يتحاشون عن تفسير القرآن بالرأي، ويتوقفون عن أشياء لم يبلغهم فيها شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد ظهر لي تفصيل حسن أخذته مما رواه ابن جرير عن ابن عباس، موقوفا من طريق، مرفوعا من أخرى: التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعرفه أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، فما كان عن الصحابة مما هو من الوجهين الأولين فليس بمرفوع، لأنهم أخذوه من معرفتهم بلسان العرب، وما كان من الوجه الثالث فهو مرفوع إذ لم يكونوا يقولون في القرآن بالرأي. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: يؤتي الحكمة من يشاء . قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس - مرفوعا: يؤتي الحكمة من يشاء قال: القرآن. قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البر والفاجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني، لأني سمعت الله يقول: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون . قال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي يهذ الشعر هذا. وأخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت؟، وما أراد بها؟. وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق، قال: لأن أعرب آية من القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية. [ ص: 101 ] وأخرج أيضا عن عبد الله بن بريدة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أعلم أني إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت. وأخرج أيضا من طريق الشعبي، قال: قال عمر: من قرأ القرآن وأعربه كان له عند الله أجر شهيد. قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتعبير، لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا يحتاجون إلى تعليمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته وقال بجواز أن يكون المراد الإعراب الصناعي، وفيه بعد. وقد يستدل له بما أخرجه السلفي في الطيوريات من حديث ابن عمر - مرفوعا: أعربوا القرآن يدلكم على تأويله. وقد أجمعوا على أن التفسير من فروض الكفاية، وأجل العلوم الشرعية. قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن، بيان ذلك أن شرف الصنعة إما لشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة. وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة الكناسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح. وإما بشدة الحاجة إليها، كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون من أحد من الخلق إلا وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس في بعض الأوقات. إذ عرف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاثة، أما من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة. ومعدن كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. [ ص: 102 ] وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى. وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيوي عاجلي أو آجلي مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله. والكلام هنا عريض تكفل بجمعه أئمتنا رضي الله عنهم. وإنما ذكرت في هذا المجموع بعض ما يحتاج إليه بعد تقرير قاعدة، وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة: أحدها: كمال فضيلة كلام المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز، فربما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية، ومن هاهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره. وثانيها: إغفاله بعض تتمات المسائل، أو شروط لها، اعتمادا على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبها. وثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز، والاشتراك، ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارح لبيان غرض المصنف وترجيحه. وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط، أو تكرار الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك. وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمان أفصح العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأكثر، كسؤالهم لما نزل: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الأنعام: 82 ، فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه، ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك، واستدل عليه بقوله: إن الشرك لظلم عظيم . [ ص: 103 ] وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال: ذلك العرض. وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأسود والأبيض، وغير ذلك مما سألوا عن آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير. ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ وكشف معانيها. وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض. فإن قلت: قد قلتم إنه يقع النسخ إلى غير بدل. وقد قال تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها . وهذا إخبار لا يدخله خلف. فالجواب ما قاله ابن الحصار: كل ما ثبت الآن من القرآن ولم ينسخ فهو بدل مما نسخت تلاوته، فكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه الآن فقد أبدله الله مما علمناه وتواتر إلينا لفطه ومعناه.

التالي السابق


الخدمات العلمية