الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
[ ص: 283 ] الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه) وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي نوع. وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة. وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل والمناسبات والفواتح والخواتم وفي الوجه الذي قبل هذا ما لا مزيد لذكره. ونذكر هنا بعضها لتطلع بذلك على أسرار هذا الكلام الذي أعجز عقول ذوي الأفهام عن إدراك عجائبه التي لا تنقضي، لأنه في أحسن نظام، فإن أيقظ المتكلم به أحد هذه الأمة المحمدية للنظر في هذا الكتاب فلا يغفل عن أجرة الدلال الموصل له هذه الذخائر التي يعجز عنها كثير من الطلاب - بالدعاء له بمجاورة الموصل لنا هذا بعد الصلاة والسلام عليه وعلى جميع الآل والأصحاب. وإن لم يفتح الله له جملة - وهذا ظني لوصف الخلق بأوصاف البطلة - فنرده إلى الله ورسوله، ونسأله بمعاقد العز من عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه واسمه الأعظم أن يجعله لنا وجميع ما ألفنا وقاية وشفيعا من جميع المكاره دينا ودنيا، لأنه ولي ذلك والقادر عليه. فمن ألقاب علوم البديع: الإيهام: ويدعى التورية: أن يذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك، أو التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز: أحدهما قريب والآخر بعيد، ويقصد البعيد ويورى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع في أول وهلة. قال الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطف من التورية، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله. قال: ومن أمثلته: الرحمن على العرش استوى ، فإن الاستواء على معنيين: الاستقرار في المكان - وهو المعنى القريب المورى به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى [ ص: 284 ] عنه. والثاني الاستيلاء والملك، وهذا المعنى البعيد المقصود الذي ورى عنه بالقريب المذكور. انتهى. وهذه التورية تسمى مجردة، لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورى به ولا المورى عنه. ومنها ما تسمى مرشحة، وهي التي ذكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا. كقوله تعالى: والسماء بنيناها بأيد ، فإنه يحتمل الجارحة وهو المورى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان. ويحتمل القدرة والقوة، وهو البعيد المقصود. وقال ابن أبي الإصبع في كتابه الإعجاز: ومنها: قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم . فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمله أولاد يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب. فاليوم ننجيك ببدنك . على تفسيره بالدرع، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد البعيد وهو الجسد، قال: ومن ذلك قوله تعالى - بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى حيث قال: ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم . ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت النصارى إلى المشرق كانت قبلة الإسلام وسطا بين القبلتين، قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، أي خيارا، فظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين - صدق على لفظة " وسط " ها هنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين. ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية. قلت: وهي مرشحة بلازم الموري عنه، وهو قوله: لتكونوا شهداء على الناس ، فإنه من لوازم كونهم خيارا، أي عدولا، والإتيان قبله من قسم المجردة. [ ص: 285 ] ومن ذلك قوله: والنجم والشجر يسجدان ، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا ساق له من النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية. ونقلت من خط شيخ الإسلام ابن حجر أن التورية في القرآن قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس ، فإن كافة بمعنى مانع، أي يكفهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب المتبادر أن المراد جامعة، أي جميعا، لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول رأيت جميعا الناس لا تقول رأيت كافة الناس. ومنها الاستخدام، وهو والتورية أشرف أنواع البديع، وهما سيان، بل فضله بعضهم عليها، وله فيه عبارتان: إحداهما: أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مرادا به أحد معانيه، ثم يؤتى بضميره مرادا به المعنى الآخر، وهذه طريقة السكاكي وأتباعه. والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين. ومن الآخر الآخر، وهذه طريقة بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليه ابن أبي الإصبع، ومثل له بقوله تعالى: لكل أجل كتاب . فلفظ كتاب يحتمل الأمد المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظ " أجل " يخدم المعنى الأول، " ويمحو " يخدم المعنى الثاني. ومثل غيره بقوله تعالى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . فالصلاة يحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها. وقوله تعالى: حتى تعلموا ما تقولون ، يخدم الأولى، و إلا عابري سبيل يخدم الثاني. قال: ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي. قلت: وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته: [ ص: 286 ] منها قوله: أتى أمر الله . فأمر الله يراد به قيام الساعة والعذاب وبعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أريد بلفظه الأخير، كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: أتى أمر الله - قال: محمد، وأعيد الضمير عليه في تستعجلوه مرادا به قيام الساعة والعذاب. ومنها - وقد أريد بلفظه أظهرها - قوله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ، فإن المراد به آدم، ثم أعيد الضمير عليه مرادا به ولده، فقال: ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ومنها قوله تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، ثم قال. قد سألها قوم من قبلكم . أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سألوا عنها، فنهوا عن سؤالها.

ومنها الالتفات ، وهو نقل الكلام من أسلوب، إلى آخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور. وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فما حقه التعبير بغيره. وله فوائد، منها: تطرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجر والملل، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على منوال واحد. هذه فائدته العامة. ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله كما سنبينه. مثاله من التكلم إلى الخطاب، ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالواجهة - قوله تعالى: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . الأصل: وإليه أرجع. فالتفت من التكلم إلى الخطاب. ونكتته أنه أخرج الكلام في موضع مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه تلطفا وإعلاما أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت لكونهم في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا جعلوا هذه الآية من [ ص: 287 ] الالتفات، وفيه نظر، لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبار عن نفسه في كلا الجملتين، وهنا ليس كذلك، لجواز أن يريد بقوله: وإليه ترجعون المخاطبين لا نفسه. وأجيب بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري، لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يعيده غير ذلك الراجع، فالمعنى كيف لا أعبد من إليه رجوعي، وإنما عدل عن "وإليه أرجع" إلى: وإليه ترجعون . لأنه داخل فيهم، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع. ومن أمثلته أيضا قوله: وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة واتقوه . ومثاله من التكلم إلى الغيبة - ووجهه أن يفهم السامع أن هذا غلط المتكلم وقصده من السامع حضر أو غاب، وأنه في كلامه ليس ممن يتلون ويتوجه ويبدي في الغيبة خلاف ما يبديه في الحضور - قوله تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . والأصل ليغفر لك. إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك والأصل لنا. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك . والأصل منا. إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله . والأصل وبي، وعدل عنه لنكتتين: إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها. والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوة. ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثل له بعضهم بقوله: فاقض ما أنت قاض . ثم قال: إنا آمنا بربنا . وهذا المثال لا يصح، لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا. ومثاله من الخطاب إلى الغيبة: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم [ ص: 288 ] بريح طيبة . والأصل بكم، ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة. وقيل: لأن الخطاب أولا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل: هو الذي يسيركم في البر والبحر ، فلو كان: وجرين بكم للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص. قلت: ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك، وهو أن الخطاب أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر - قال: ذكر الحديث عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجرين بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته. فلله در السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانا طويلا، ويفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمى. ومما ذكر في توجيههم أيضا أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاك وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية. ومن أمثلته أيضا: وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون . وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون . ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم بصحاف . والأصل عليكم، ثم قال: وأنتم فيها خالدون ، فكرر الالتفات. ومثاله من الغيبة إلى التكلم: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه . وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا [ ص: 289 ] سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ... إلى قوله: باركنا حوله لنريه من آياتنا . ثم التفت ثانيا إلى الغيبة فقال: إنه هو السميع البصير . وعلى قراءة الحسن ليريه - بالغيبة يكون التفاتا ثانيا من " باركنا " . وفي آياتنا التفات ثالث، وفي إنه التفات رابع. قال الزمخشري: فائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد. ومثاله من الغيبة إلى الخطاب: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا . ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم . وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء . إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين . ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة، فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحده، ثم ذكر صفاته التي كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها: مالك يوم الدين ، المفيد أنه مالك للأمر كله في يوم الجزاء - يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات. وقيل: إنما اختير لفظ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن الحمد دون العبادة في الرتبة، لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده، فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب، لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة، وذلك على طريق التأدب. وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة. فقال: الذين أنعمت عليهم ، مصرحا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظا، ولم يقل صراط المنعم عليهم. فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظا، وجاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب، فلم يقل: غير الذين غضبت عليهم، تأدبا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة. وقيل: إنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه [ ص: 290 ] رب العالمين، ورحمانا ورحيما، ومالكا ليوم الدين - تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبودا دون غيره، مستعانا به، فخوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة، تعظيما لشأنه، حتى كأنه قيل: إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، لا غيرك. قيل: ومن لطائفه التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبة منهم عنه سبحانه. وقصوركم عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له وتوسلوا للقرب بالثناء عليه، وأقروا بالمحامد له، وتعبدوا له بما يليق بهم - تأهلوا لمخاطبته ومناجاته، فقالوا: إياك نعبد وإياك نستعين.

التالي السابق


الخدمات العلمية