الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          " الاحتذاء " و " الأسلوب "

                          554- واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبا - [ ص: 469 ] و " الأسلوب " : الضرب من النظم والطريقة فيه - فيعمد شاعر آخر إلى ذلك الأسلوب فيجيء به في شعره، فيشبه بمن يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها فيقال : " قد احتذى على مثاله " وذلك مثل أن الفرزدق قال :


                          أترجو ربيع أن تجيء صغارها بخير وقد أعيا ربيعا كبارها



                          واحتذاه البعيث فقال :


                          أترجو كليب أن يجيء حديثها     بخير وقد أعيا كليبا قديمها



                          وقالوا: إن الفرزدق لما سمع هذا البيت قال :


                          إذا ما قلت قافية شرودا     تنحلها ابن حمراء العجان !



                          ومثل ذلك أن البعيث قال في هذه القصيدة :


                          كليب لئام الناس قد تعلمونه     وأنت إذا عدت كليب لئيمها



                          وقال البحتري :


                          بنو هاشم في كل شرق ومغرب     كرام بني الدنيا وأنت كريمها



                          [ ص: 470 ]

                          وحكى العسكري في " صنعة الشعر " أن ابن الرومي قال : قال لي البحتري : قول أبي نواس :


                          ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم     بشرقي ساباط الديار البسابس



                          مأخوذ من قول أبي خراش الهذلي :


                          ولم أدر من ألقى عليه رداءه؟     سوى أنه قد سل من ماجد محض



                          قال : فقلت : قد اختلف المعنى فقال : أما ترى حذو الكلام حذوا واحدا ؟

                          وهذا الذي كتبت من جلي الأخذ في " الحذو " ، ومما هو في حد الخفي قول البحتري :


                          ولن ينقل الحساد مجدك بعدما     تمكن رضوى واطمأن متالع



                          وقول أبي تمام :


                          ولقد جهدتم أن تزيلوا عزه     فإذا أبان قد رسا ويلملم



                          [ ص: 471 ]

                          قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق :


                          فادفع بكفك إن أردت بناءنا     ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل؟



                          555- وجملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر " محتذيا " إلا بما يجعلونه به آخذا ومسترقا . قال ذو الرمة :


                          وشعر قد أرقت له غريب     أجنبه المساند والمحالا


                          فبت أقيمه وأقد منه     قوافي لا أريد لها مثالا



                          قال : يقول : لا أحذوها على شيء سمعته .

                          فأما أن يجعل إنشاد الشعر وقراءته " احتذاء " فمما لا يعلمونه . كيف؟ وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كل لفظة لفظا في معناه ، كمثل أن يقول في قوله :


                          دع المكارم لا ترحل لبغيتها     واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي


                          ذر المآثر لا تذهب لمطلبها     واجلس فإنك أنت الآكل اللابس



                          لم يجعلوا ذلك " احتذاء " ولم يؤهلوا صاحبه لأن يسموه " محتذيا " ولكن يسمون هذا الصنيع " سلخا " ويرذلونه ويسخفون المتعاطي له . فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبي يقرأ قصيدة امرئ القيس إنه احتذاه في قوله :

                          [ ص: 472 ]


                          فقلت له لما تمطى بصلبه     وأردف أعجازا وناء بكلكل



                          والعجب من أنهم لم ينظروا فيعلموا أنه لو كان منشد الشعر " محتذيا " لكان يكون قائل شعر ، كما أن الذي يحذو النعل بالنعل يكون قاطع نعل .

                          وهذا تقرير يصلح لأن يحفظ للمناظرة

                          مناقشة " الاحتذاء " و " النسق " في إعجاز القرآن

                          556- ينبغي أن يقال لمن يزعم أن المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس ، كان قد أتى بمثله على سبيل " الاحتذاء " : أخبرنا عنك؟ لماذا زعمت أن المنشد قد أتى بمثل ما قاله امرؤ القيس؟ ألأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها، أم لأنه راعى " النسق " الذي راعاه في النطق بها؟

                          فإن قلت : “ إن ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها " أحلت لأنه إنما يصح أن يقال في الثاني أنه أتى بمثل ما أتى به الأول إذا كان الأول قد سبق إلى شيء فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محال، إذ ليس يمكن أن يقال: إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي هي في قوله :


                          قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل



                          قبل امرئ القيس أحد .

                          [ ص: 473 ] وإن قلت : إن ذلك لأنه قد راعى في نطقه بهذه الألفاظ النسق الذي راعاه امرؤ القيس .

                          قيل : إن كنت لهذا قضيت في المنشد أنه قد أتى بمثل شعره، فأخبرنا عنك؟ إذا قلت : “ إن التحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهة الابتداء " ما تعني به؟ أتعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ القرآن بمثل الترتيب والنسق الذي تراه في ألفاظ القرآن؟

                          فإن قال : ذلك أعني .

                          قيل له : أعلمت أنه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في أثر بعض على التوالي نسقا وترتيبا، حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض، غرض فيها ومقصود، لا يتم ذلك الغرض وذاك المقصود إلا بأن يتخير لها مواضع، فيجعل هذا أولا، وذاك ثانيا؟ فإن هذا ما لا شبهة فيه على عاقل .

                          وإذا كان الأمر كذلك لزمك أن تبين الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النسق الذي تراه .

                          ولا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي والموجب للذي تراه من النسق، المعاني وجعله قد وجب لأمر يرجع [ ص: 474 ] إلى اللفظ لم تجد شيئا يحيل في وجوبه عليه البتة . اللهم إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن ويزعم أن " النسق " الذي تراه في ألفاظ القرآن إنما كان معجزا، من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.

                          وإذا قال ذلك، لم يمكنه أن يقول :" إن التحدي وقع إلى أن يأتوا بمثله : في فصاحته وبلاغته " . لأن الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة .

                          فإن عاد بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ إلى أن يجعله في مجرد الوزن، كان قد دخل في أمر شنيع، وهو أنه يكون قد جعل القرآن معجزا، لا من حيث هو كلام ولا بما به كان لكلام فضل على كلام، فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، ولا به كان كلام خيرا من كلام .

                          سهولة " اللفظ " وخفته في شأن إعجاز القرآن

                          557- وهكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو " الجريان والسهولة " . ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللسان، لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاما، ولا هو بالذي يتناهى أمره إن عد في الفضيلة إلى أن يكون الأصل، وإلى أن يكون المعول عليه في المفاضلة بين كلام وكلام . فما به كان الشاعر مفلقا، والخطيب مصقعا " والكاتب بليغا .

                          [ ص: 475 ]

                          558- ورأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن، قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم وفيهم الشعراء والخطباء والذين يدلون بفصاحة اللسان والبراعة والبيان، وقوة القرائح والأذهان، والذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب . ولم نرهم قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم تحداهم وهم العارفون بما ينبغي أن يصنع، حتى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللسان.

                          ولما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم السلام . وقالوا : إن الله تعالى قد جعل معجزة كل نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم، وفيما كانوا يتباهون به، وكانت عوامهم تعظم به خواصهم . قالوا : إنه لما كان السحر الغالب على قوم فرعون، ولم يكن قد استحكم في زمان استحكامه في زمانه، جعل تعالى معجزة موسى عليه السلام في إبطاله وتوهينه . ولما كان الغالب على زمان عيسى عليه السلام الطب، جعل الله تعالى معجزته في إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى - ولما انتهوا إلى ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذكر ما كان الغالب على زمانه، لم يذكروا إلا البلاغة والبيان والتصرف في ضروب النظم .

                          وقد ذكرت في الذي تقدم غير ما ذكرته هاهنا مما يدل على سقوط [ ص: 476 ] هذا القول . وما دعاني إلى إعادة ذكره إلا أنه ليس لتهالك الناس في حديث " اللفظ " والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وضن أنفسهم به حد ، فأحببت لذلك أن لا أدع شيئا مما يجوز أن يتعلق به متعلق ويلجأ إليه لاجئ ويقع منه في نفس سامع شك إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه .

                          559- وهاهنا أمر عجيب، وهو أنه معلوم لكل من نظر، أن الألفاظ من حيث هي ألفاظ وكلم ونطق لسان، لا تختص بواحد دون آخر، وأنها إنما تختص إذا توخي فيها النظم . وإذا كان كذلك، كان من رفع " النظم " من البين وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف وجريانها، جاعلا له فيما لا يصح إضافته إلى الله تعالى، وكفى بهذا دليلا على عدم التوفيق وشدة الضلال عن الطريق .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية