الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 256 - 258 ] عدل ، [ ص: 259 ] ذكر ، فطن ، مجتهد ، إن وجد وإلا : فأمثل مقلد

التالي السابق


( عدل ) بفتح فسكون أي بالغ عاقل مسلم ذكر حر غير فاسق ولا مرتكب ما يخل بمروءته . ابن رشد للقضاء خصال مشترطة في صحة ولايته ، وهي أن يكون حرا مسلما بالغا ذكرا عاقلا واحدا ، فهذه الست خصال لا يصح أن يولى القضاء على مذهبنا إلا من اجتمعت فيه ، فإن ولي من لم تجتمع فيه لم تنعقد ولايته وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية سقطت الولاية . القرطبي في شرح مسلم نص أصحاب مالك رضي الله تعالى عنه على أن القاضي لا بد أن يكون حرا وأمير الجيش والحرب في معناه ، فإنها مناصب دينية يتعلق بها تنفيذ أحكام شرعية فلا يصلح لها العبد لأنه ناقص بالرق محجور عليه لا يستقل بنفسه ومسلوب أهلية الشهادة والتنفيذ لا يصلح للقضاء ولا للإمارة ، وأظن جمهور علماء المسلمين على هذا ، وظاهر كلام المصنف جواز ولاية العتيق . ابن عرفة وهو المعروف ، وعزاه ابن عبد السلام للجمهور ، قالا ومنعها سحنون خوف استحقاقه فيرد إلى الرق ، وترد أحكامه .

وظاهر كلامه أيضا أن ولاية الفاسق لا تصح ولا ينفذ حكمه وافق الحق أم لا ، وهو المشهور صرح به في توضيحه ، وقاله في التنبيهات ، ونقله ابن فرحون وغيره . وقال أصبغ فسقه موجب لعزله ولا تجوز تولية الفاسق ، ويمضي من أحكامه ما وافق الحق . وفي العمدة هل ينعزل بفسقه أو يجب عزله قولان . القرافي إن لم يوجد عدل ولي أمثل [ ص: 259 ] الموجودين . مالك رضي الله تعالى عنه لا أرى خصال القضاة تجتمع اليوم في أحد ، فإن اجتمع منها خصلتان العلم والورع ولي .

( ذكر ) فلا تصح تولية امرأة لحديث البخاري { لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة } ( فطن ) بفتح الفاء وكسر الطاء المهملة صفة مشبهة من الفطانة ، أي النباهة وجودة العقل فلا تصح تولية المغفل الذي ينخدع بتحسين الكلام ، ولا يتنبه لما يفيد الإقرار وحيل الخصوم والشهود . ابن عرفة عد ابن الحاجب من هذا القسم فطانته وهو ظاهر كلام الطرطوشي ، فلا يكتفي بالعقل التكيفي ، ولا بد أن يكون ظاهر الفطنة بعيد الغفلة وعدها ابن شاس وابن رشد من الصفات المستحبة غير الواجبة ، والحق أن مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل من القسم الأول ، والفطنة الموجبة للشهرة بها غير النادرة ينبغي كونها من الصفات المستحسنة ، فطريقة ابن رشد أنسب لأن فطن من أبنية المبالغة كحذر والمبالغة في الفطانة مستحبة لا لازمة . ابن عبد السلام المراد بالفطن من لا يستزل في رأيه ولا تمشي عليه حيل الشهود والخصوم . الحط الأحسن ذو فطنة المسناوي ولم أر من ذكر الفطنة من الشروط إلا ابن الحاجب ومحققو المذهب أنها من المندوبات .

( مجتهد ) أي فيه أهلية الاجتهاد المطلق ( إن وجد ) بضم فكسر فلا تصح تولية مقلد مع وجوده ( وإلا ) أي وإن لم يوجد مجتهد ( فأمثل ) أي أكمل ( مقلد ) بضم ففتح فكسر مثقلا ، فلا تصح تولية مقلد دونه مع وجوده .

البناني هذا يقتضي أن ولاية الأمثل شرط صحة فلا تنعقد ولاية من دونه مع وجوده ، ولا أظن هذا يسلم ، وعبارة ابن عبد السلام وغيره ينبغي أن يختار أعلم المقلدين ممن له فقه نفيس إلخ . الباجي لا خلاف في اعتبار كون القاضي عالما مع وجوده والذي يحتاج إليه من العلم كونه مجتهدا . عياض المازري وابن العربي شرطه كونه عالما مجتهدا أو مقلدا إن فقد المجتهد كشرط كونه حرا مسلما . المازري زماننا عار من الاجتهاد في إقليم المغرب فضلا عن قضاته . الحط يشير إلى أن القاضي يشترط فيه كونه عالما ، وجعل ابن رشد العلم من الصفات المستحبة . وقال [ ص: 260 ] ابن عبد السلام المشهور أنه من القسم الأول ، وعده صاحب الجواهر والقرافي من القسم الأول وعليه عامة أهل المذهب ، وعليه فلا تصح تولية الجاهل ويجب عزله وأحكامه مردودة ما لم يوافق الحق منها وما وافقه ، وسيصرح المصنف بأنها مردودة ما لم يشاور العلماء ثم إنه إذا وجد مجتهد وجبت توليته ولا يجوز أن يتولى غيره . ابن العربي إن تولى المقلد مع وجود المجتهد فهو متعد جائر ، نقله القرافي وابن فرحون ، وهذا يفيد أن الاجتهاد إن وجد ليس شرطا خلاف ما يفيده كلام المصنف أنه شرط ، وإنما الشرط العلم ، وأما الاجتهاد فواجب غير شرط .

ابن عرفة جعل ابن زرقون كونه عالما من القسم المستحب ، وكذا ابن رشد إلا أنه عبر عنه بأن يكون عالما يسوغ له الاجتهاد . وقال عياض وابن العربي والمازري يشترط كونه عالما مجتهدا أو مقلدا إن فقد المجتهد كشرط كونه مسلما حرا ، ثم قال ابن العربي قبول المقلد الولاية مع وجود المجتهد جور وتعد ، ومع عدم المجتهد جائز ، ثم قال ففي صحة تولية المقلد مع وجود المجتهد قولان لابن زرقون مع ابن رشد وعياض مع ابن العربي والمازري قائلا هو محكي أئمتنا عن المذهب ، ومع فقده جائز ، ومع وجود المجتهد أولى اتفاقا فيهما . ا هـ . فانظر كيف عزا لابن العربي عدم صحة ولاية المقلد مع وجود المجتهد مع نقله قبل هذا قول ابن العربي قبول المقلد الولاية مع وجود المجتهد جور وتعد إلا أن يكون فهم من قوله جور وتعد أنها لا تصح فيصح كلامه ، إلا أن الذي يتبادر للفهم من قوله جور وتعد أنها تصح مع التعدي والجور ، وعلى ما فهمهابن عرفة يسقط الاعتراض عن المصنف ، إذ لعله فهم ذلك منه ، فعلم من هذا أن كلام المصنف ماش على ما عزاه ابن عرفة لعياض والمازري وابن العربي والله أعلم .

وقوله أمثل مقلد أشار به لقول ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب ، فإن لم يوجد مجتهد فمقلد إلا أنه ينبغي أن يختار أعلم المقلدين ممن له فقه نفيس وقدرة على الترجيح بين أقوال أهل المذهب ، ويعلم ما هو يجري على أصل إمامه مما ليس كذلك ، ومن لم [ ص: 261 ] يكن بهذه المرتبة فيظهر من كلام الشيوخ اختلافهم في جواز توليته القضاء . ابن عرفة إن أراد مع وجود ذي الرتبة الأولى فصحيح ، وإن أراد مع فقده فظاهر أقوالهم صحة توليته خوف تعطيل الحكم بين الناس دون خلاف في ذلك .

( تنبيهات )

الأول : البساطي كلام المصنف يقتضي إمكان وجود المجتهد ، فإن عنى أنه مجتهد في مذهب مالك رضي الله تعالى عنه فقد يدعي أنه ممكن ، وإن أراد المجتهد في الأدلة فهذا غير ممكن ، وقول بعض الناس المازري وصل رتبة الاجتهاد كلام غير محقق لأن الاجتهاد مبدؤه صحة الحديث عنده وهو غير ممكن ، ولا بد فيه من التقليد ، وقول النووي ممكن غير محقق أيضا . الحط تأمل هذا مع اختلاف الأصوليين في إمكان خلو الزمان عن مجتهد ، وقول ابن عبد السلام ما أظنه انقطع بالمشرق وقد وجد منهم من نسب إلى الاجتهاد في حياة أشياخنا ، ومواد الاجتهاد في زمننا أيسر منها في زمان المتقدمين لو أراد الله تعالى بنا الهداية ، ولكن لا بد من قبض العلم كما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم زاد في التوضيح لأن الأحاديث الصحيحة دونت ، وكذا تفسير القرآن العزيز ، وقد كان الرجل يرحل في سماع الحديث الواحد شهرا . فإن قيل يحتاج المجتهد إلى كونه عالما بمواضع الإجماع والخلاف وهو متعذر في زمننا لكثرة المذاهب وتشعبها . قيل يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها ، إذ المقصود الاحتراز من خرق الإجماع وهذا متيسر ا هـ . ابن عرفة يسر الاجتهاد سمعت ابن عبد السلام يحكيه عن بعض الشيوخ ، إذ قراءة مثل الجزولية والمعالم الفقهية والأحكام الكبرى لعبد الحق ونحوها يكفي في تحصيل آلة الاجتهاد مع الاطلاع على فهم مشكل اللغة بمختصر العين ، ونحو صحاح الجوهري وغريب الحديث ، ولا سيما مع نظر ابن القطان وتحقيق أحاديث الأحكام وبلوغ درجة الإمامة أو مقاربتها في العلوم المذكورة لا تشترط في الاجتهاد إجماعا الفخر في محصوله والسراج في تحصيله والتاج في حاصله لو بقي من المجتهدين والعياذ بالله واحد لكان قوله حجة ، فاستعاذتهم تدل على بقاء الاجتهاد في عصرهم ، والفخر توفي سنة ست وستمائة ، [ ص: 262 ] ولكن في الاستغناء انعقد الإجماع في زمننا على جواز تقليد الميت ، إذ لا مجتهد فيه ، وقول البساطي لا بد من التقليد في صحة الحديث إن سلم فلا يمنع من صحة الاجتهاد ، والله أعلم ، أفاده الحط .

( فائدة )

في آخر خطبة البيان والتحصيل إذا جمع الطالب المقدمات إلى هذا الكتاب عنى به البيان والتحصيل حصل على معرفة ما لا يسعه جهله من أصول الديانات وأصول الفقه ، وعرف العلم من طريقه وأخذه من بابه وسبيله وأحكم رد الفرع إلى الأصل ، واستغنى بمعرفة ذلك كله عن الشيوخ في المشكلات ، وحصل في درجة من يجب تقليده في النوازل المعضلات ، ودخل في زمرة العلماء الذين أثنى الله تعالى عليهم في كثير من الآيات ووعدهم فيها بترفيع الدرجات .

الثاني : بقي على المصنف شرط وهو كونه واحدا نص عليه في المقدمات وتقدم نصها ، ونقلها ابن شاس والقرافي ، واستوفى " غ " الكلام عليه عند قوله وجاز تعدد مستقل .



الثالث : في المقدمات يجب أن لا يولى القضاء من طلبه وإن اجتمعت فيه شروطه مخافة أن يوكل إليه فلا يقوم به ا هـ ، أراد إلا أن يتعين عليه فيجب عليه حينئذ طلبه ، وهذا في طلبه بغير بذل مال فكيف مع بذل المال نسأل الله تعالى العافية والسلامة والظاهر أنه إذا طلبه فولي وهو جامع لشروطه فلا يجب عزله والله أعلم . القرطبي قوله صلى الله عليه وسلم { لا تسأل الإمارة } ، نهي وظاهره التحريم ، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم بعده { إنا لا نولي على عملنا من أراده } ، والله أعلم .



الرابع : السيوري إذا تحرج الناس من القضاء أو لم يوجد فيهم من هو أهله فجماعتهم يكفون في جميع ما وصفته وفي جميع الأشياء ، فيجتمع أهل الدين والفضل ويقومون مقام القاضي مع فقده في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك . الحط تقدم أن الجماعة تقوم مقام القاضي مع فقده إلا في مسائل تقدم شيء منها . [ ص: 263 ]

الخامس : في النوادر إذا لم يوجد في جهة إلا غير العدول فأصلحهم وأقلهم فجورا يرتب للشهادة عليهم ، ويلزم مثل هذا في القضاة وغيرهم لئلا تضيع المصالح ، وما أظن أحدا يخالف في هذا ، إذ التكليف مشروط بالإمكان ، وإذا جاز نصب الفسقة شهودا لعموم الفساد جاز التوسع في الحكام لمنع المظالم والله تعالى أعلم .




الخدمات العلمية