الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ما رأيك في قوله : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ؟

هذه تشتمل على ست كلمات ، سناؤها وضياؤها على ما ترى ، وسلاستها وماؤها على ما تشاهد ، ورونقها على ما تعاين ، وفصاحتها على ما تعرف .

وهي تشتمل على جملة وتفصيل ، وجامعة وتفسير : ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان وسبي النساء ، وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما ! ؟ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم ، والقلوب لا تقر على هذا الجور .

[ ص: 194 ] ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد ، وكفت في التظليم ، وردت آخر الكلام على أوله ، وعطفت عجزه على صدره .

ثم ذكر وعده تخليصهم بقوله : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين . وهذا من التأليف بين المؤتلف ، والجمع بين المستأنس .

كما أن قوله : وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين .

وهي خمس كلمات ، متباعدة في المواقع ، نائية المطارح ، قد جعلها النظم البديع أشد تألفا من الشيء المؤتلف في الأصل ، وأحسن توافقا من المتطابق في أول الوضع .

ومثل هذه الآية قوله : وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون .

ومثلها : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين .

ومن المؤتلف قوله : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين .

وهذه ثلاث كلمات ، كل كلمة منها أعز من الكبريت الأحمر .

ومن الباب الآخر قوله تعالى : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .

* * *

كل سورة من هذه السور تتضمن من القصص ما لو تكلفت العبارة عنها بأضعاف كلماتها ، لم تستوف ما استوفته . ثم تجد فيما تنظم ثقل النظم ، [ ص: 195 ] ونفور الطبع ، وشراد الكلام ، وتهافت القول ، وتمنع جانبه ، وقصورك في الإيضاح عن واجبه . ثم لا تقدر على أن تنتقل من قصة إلى قصة ، وفصل إلى فصل ، حتى تتبتر عليك مواضع الوصل ، وتستصعب عليك أماكن الفصل ، ثم لا يمكنك أن تصل بالقصص مواعظ زاجرة ، وأمثالا سائرة وحكما جليلة ، وأدلة على التوحيد بينة ، وكلمات في التنزيه والتحميد شريفة .

وإن أردت أن تتحقق ما وصفت لك ، فتأمل شعر من شئت من الشعراء المفلقين ، هل تجد كلامه في المديح والغزل والفخر والهجو يجري مجرى كلامه في ذكر القصص ؟

إنك لتراه إذا جاء إلى وصف وقعة ، أو نقل خبر ، عامي الكلام ، سوقي الخطاب ، مسترسلا في أمره ، متساهلا في كلامه ، عادلا عن المألوف من طبعه ، وناكبا عن المعهود من سجيته . فإن اتفق له في قصة كلام جيد ، كان قدر ثنتين أو ثلاثة ، وكان ما زاد عليها حشوا ، وما تجاوزها لغوا . ولا أقول : إنها تخرج من عادته عفوا ؛ لأنه يقصر عن العفو ، ويقف دون العرف ، ويتعرض للركاكة .

فإن لم تقنع بما قلت لك من الآيات ، فتأمل غير ذلك من السور ، هل تجد الجميع على ما وصفت لك ؟

لو لم تكن إلا سورة واحدة لكفت في الإعجاز ؛ فكيف بالقرآن العظيم ؟

ولو لم يكن إلا حديث من سورة لكفى ، وأقنع وشفى .

ولو عرفت قدر قصة موسى وحدها من سورة الشعراء ، لما طلبت بينة سواها .

بل قصة من قصصه ، وهي قوله : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون إلى قوله : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام [ ص: 196 ] كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين حتى قال : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم .

ثم قصة إبراهيم - عليه السلام - .

ثم لو لم تكن إلا الآيات التي انتهى إليها القول في ذكر القرآن ، وهي قوله : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .

وهذه كلمات مفردة بفواصلها ، منها ما يتضمن فاتحة وفاصلة ، ومنها ما هي فاتحة وواسطة وفاصلة ، ومنها كلمة بفاصلتها تامة .

دل على أنه نزله على قلبه ليكون نذيرا ، وبين أنه آية لكونه نبيا ، ثم وصل بذلك كيفية النذارة فقال : وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين .

فتأمل آية آية ، لتعرف الإعجاز ، وتتبين التصرف البديع ، والتنقل في الفصول إلى آخر السورة .

ثم راع المقطع العجيب ، وهو قوله : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

هل يحسن أحد أن يأتي بمثل هذا الوعيد ؟ وأن ينظم مثل هذا النظم ، وأن يجد مثل هذه النظائر السابقة ؟ ويصادف مثل هذه الكلمات المتقدمة ؟

ولولا كراهة الإملال ، لجئت إلى كل فصل ، فاستقريت على الترتيب كلماته ، وبينت لك ما في كل واحدة منها من البراعة ، وعجيب البلاغة .

[ ص: 197 ] ولعلك تستدل بما قلنا على ما بعده ، وتستضيء بنوره ، وتهتدي بهداه .

* *

التالي السابق


الخدمات العلمية