الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
تعريف الإعجاز وإثباته

الإعجاز : إثبات العجز . والعجز في التعارف : اسم للقصور عن فعل الشيء . وهو ضد القدرة ، وإذا ثبت الإعجاز ظهرت قدرة المعجز ، والمراد بالإعجاز هنا : إظهار صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب عن معارضته في معجزته الخالدة -وهي القرآن- وعجز الأجيال بعدهم .

والمعجزة : أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة .

والقرآن الكريم تحدى به النبي -صلى الله عليه وسلم- العرب ، وقد عجزوا عن معارضته مع طول باعهم في الفصاحة والبلاغة ، ومثل هذا لا يكون إلا معجزا .

فقد ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تحدى العرب بالقرآن على مراحل ثلاث :

أ- تحداهم بالقرآن كله في أسلوب عام يتناولهم ويتناول غيرهم من الإنس والجن تحديا يظهر على طاقتهم مجتمعين ، بقوله تعالى : قل لئن اجتمعت [ ص: 251 ] الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

ب- ثم تحداهم بعشر سور منه في قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله .

جـ- ثم تحداهم بسورة واحدة منه في قوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله ، وكرر هذا التحدي في قوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .

ومن عنده إلمام قليل بتاريخ العرب وأدب لغتهم يدرك العوامل السابقة لبعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- التي رقت بلغة العرب وهذبت لسانها وجمعت خير ما في لهجاتها من أسواق الأدب والمفاخرة بالشعر والنثر ، حتى انتهى مصب جداول الفصاحة وإدارة الكلام بالبيان في لغة قريش التي نزل بها القرآن ، وما كان عليه العرب من صلف يعلو بأحدهم على أبناء عمومته أنفا وكبرا مضرب مثل في التاريخ الذي سجل لهم أياما نسبت إليهم لما أحدثوه فيها من معارك وحروب طاحنة أشعلها شرر من الكبرياء والأنفة .

ومثل هؤلاء مع توفر دواعي اللسان وقوة البيان التي يوقدها حماس القبيل ويؤججها أتون الحمية لو تسنى لهم معارضة القرآن الكريم لأثر هذا عنهم ، وتطاير خبره في الأجيال ، فالقوم قد تصفحوا آيات الكتاب وقلبوها على وجوه ما نبغوا فيه من شعر ونثر فلم يجدوا مسلكا لمحاكاته ، أو منفذا لمعارضته ، بل جرى على [ ص: 252 ] ألسنتهم الحق الذي أخرسهم عفو الخاطر عندما زلزلت آيات القرآن الكريم قلوبهم كما أثر ذلك عن الوليد بن المغيرة ، وعندما عجزت حيلتهم رموه بقول باهت فقالوا : سحر يؤثر ، أو شاعر مجنون ، أو أساطير الأولين . ولم يكن لهم بد أمام العجز والمكابرة إلا أن يعرضوا رقابهم للسيوف ، وكأن اليأس القاتل ينقل بنيه من نظرتهم للحياة الطويلة والعمر المديد إلى ساعة الاحتضار فيستسلمون للموت الزؤام - وبهذا ثبت إعجاز القرآن بلا مراء .

وكان سماعه حجة ملزمة : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ، وكان ما يحتويه من نواحي الإعجاز يفوق كل معجزة كونية سابقة ويغني عنها جميعا : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم .

وعجز العرب عن معارضة القرآن مع توفر الدواعي عجز للغة العربية في ريعان شبابها وعنفوان قوتها .

والإعجاز لسائر الأمم على مر العصور ظل ولا يزال في موقف التحدي شامخ الأنف ، فأسرار الكون التي يكشف عنها العلم الحديث ما هي إلا مظاهر للحقائق العليا التي ينطوي عليها سر هذا الوجود في خالقه ومدبره ، وهو ما أجمله القرآن أو أشار إليه - فصار القرآن بهذا معجزا للإنسانية كافة .

التالي السابق


الخدمات العلمية