الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            وإذ تعرض المصنف لذكر المؤمنين والمسلمين ومعرفة المشتق متوقفة على معرفة المشتق منه وهو هنا الإيمان والإسلام فلنذكرهما على وجه الاختصار ، فالإيمان تصديق القلب بما علم ضرورة مجيء الرسول به من عند الله كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء وافتراض الصلوات الخمس والزكاة والصيام والحج ، والمراد [ ص: 55 ] بتصديق القلب به إذعانه وقبوله له والتكليف به ، وإن كان من الكيفيات النفسانية دون الأفعال الاختيارية إنما هو بالتكليف بأسبابه كإلقاء الذهن وصرف النظر وتوجيه الحواس ورفع الموانع .

                                                                                                                            وذهب جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج إلى أن الإيمان مجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة .

                                                                                                                            والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه تعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال { كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وعطف عليه العمل الصالح في مواضع كثيرة وقرنه بالمعاصي فقال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } وقال صلى الله عليه وسلم { اللهم ثبت قلبي على دينك } { وقال لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا الله هلا شققت عن قلبه } ولما كان تصديق القلب أمرا باطنا لا اطلاع لنا عليه جعله الشارع منوطا بالشهادتين من القادر عليه ، قال تعالى { قولوا آمنا بالله } وقال صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } رواه الشيخان وغيرهما ، فيكون المنافق مؤمنا فيما بيننا كافرا عند الله ، قال تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا } .

                                                                                                                            وهل النطق بالشهادتين شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من الصلاة عليه والتوارث والمناكحة وغيرها غير داخل في مسمى الإيمان ، أو جزء منه داخل في مسماه قولان : ذهب جمهور المحققين إلى أولهما وعليه من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار فهو مؤمن عند الله ، وهذا أوفق باللغة والعرف ، وذهب كثير من الفقهاء إلى ثانيهما ، وألزمهم الأولون بأن من صدق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت [ ص: 56 ] الإقرار بلسانه يكون كافرا ، وهو خلاف الإجماع على ما نقله الإمام الرازي وغيره ، لكن يعارض دعوى الإجماع قول الشفاء الصحيح أنه مؤمن مستوجب للجنة حيث أثبت فيه خلافا ، أما العاجز عن النطق بهما لخرس أو سكتة أو اخترام منية قبل التمكن منه فإنه يصح إيمانه لقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولقوله صلى الله عليه وسلم { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وأما الإسلام فهو أعمال الجوارح من الطاعات كالتلفظ بالشهادتين والصلاة والزكاة وغير ذلك ، { ولهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عنه بقوله أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا } ولكن لا تعتبر الأعمال المذكورة في الخروج عن عهدة التكليف بالإسلام إلا مع الإيمان وهو التصديق المذكور فهو شرط للاعتداد بالعبادات ، فلا ينفك الإسلام المعتبر عن الإيمان وإن كان الإيمان قد ينفك عنه ، كمن اخترمته المنية قبل اتساع وقت التلفظ ، هذا كله بالنظر إلى ما عند الله ، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإسلام هو النطق بالشهادتين فقط ، فمن أقر بهما أجريت عليه أحكام الإسلام في الدنيا ، ولم يحكم عليه بكفر إلا بظهور أمارات التكذيب كالسجود اختيارا للشمس أو الاستخفاف بنبي أو بالمصحف أوبالكعبة أو نحو ذلك والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : وإذ تعرض المصنف ) أي ولأجل ( قوله وقبوله له ) عطف تفسير ، ويؤخذ من هذا ومما يأتي أيضا جواب حادثة وقع السؤال عنها ، وهي أن ذميا حضر عند جماعة من المسلمين يذكرون أوصاف الإسلام ومحاسنه ويذمون النصرانية ويبينون ما يترتب عليها ، فقال الذمي : إن كان ما تقولون حقا فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، ثم وجد باقيا على دين النصرانية ، فهل يكون مرتدا بذلك أم لا ؟ وحاصل الجواب أن ما أتى به لا جزم فيه ، بل هو معلق له على شيء يزعم أنه لا يعرف حقيقته بل يعتقد بطلانه ، وهذا مانع من الجزم فلا يصح إيمانه فلم يحكم بردته ، وإن كان المعلق عليه حقا في نفس الأمر ; لأن المنظور إليه في صحة الإيمان ما يدل على الجزم لا على ما هو حق باعتبار نفس الأمر .

                                                                                                                            ولا يشكل على هذا الحكم بإسلام المؤذن إذا نطق بالشهادتين ; لأن نطقه لما لم يشتمل على تعليق حمل منه على الجزم ، فاحفظه ولا تغتر بما نقل عن بعض أهل العصر [ ص: 55 ] من الإفتاء بخلافه ( قوله : وإن كان من الكيفيات ) أي الإيمان ( قوله : على أنه ) أي الإيمان ( قوله غير داخل ) صفة لشرط أو خبر ثان عن قوله النطق ( قوله : إلى أولهما ) هو قوله شرط لإجراء الأحكام إلخ وهذا هو الراجح ( قوله : إلى ثانيهما ) [ ص: 56 ] هو قوله أو جزء منه داخل في مسماه ( قوله فهو أعمال ) بفتح الهمزة جمع عمل ( قوله : من الطاعات ) بيان للأعمال ( قوله : ولهذا فسره النبي إلخ ) أي الإسلام والله أعلم .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( قوله : فالإيمان تصديق القلب إلخ ) أي الإيمان المنجي عند الله تعالى فقط بقرينة ما يأتي ، بل يأتي التصريح به في آخر السوادة [ ص: 55 ] قوله : تصديق القلب ) أي إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي ( قوله : كإلقاء الذهن وصرف النظر إلخ ) لا يشكل بأن الإيمان ضروري ضرورة أن ما يجب الإيمان به ضروري كما مر ، ; لأن الضروري أيضا متوقف على مقدمات ، ، والفرق حينئذ بينه وبين النظري أن مقدماته حاصلة تعلم بمجرد توجيه النظر ، بخلاف مقدمات النظر ، فهي غير حاصلة وإنما تحصل بالنظر ( قوله : فهو فاسق وفاقا ) فمعنى كون الأعمال جزءا عند جمهور المحدثين كونها جزءا من الإيمان الكامل كما في الإعلام للشهاب ابن حجر وإن كان السياق يأباه ( قوله : وهل النطق بالشهادتين شرط إلخ ) صريح هذا السياق كسياق جمع الجوامع الأصرح منه فيما يأتي أن القائلين بأن الإيمان ليس إلا تصديق القلب بما مر ، وقع خلاف بينهم بعد ذلك حيث أناط الشارع أمره بالنطق بالشهادتين ، هل النطق المذكور شرط لإجراء الأحكام ، فهو خارج عن الإيمان ، أو جزء فيكون داخلا فيه ، فينحل الكلام إلى أنهم فريقان : أحدهما قائل بأن الإيمان مجرد التصديق المذكور والنطق بالشهادتين شرط للإجراء المذكور ، ، والفريق الثاني يقول إن الإيمان مجرد التصديق المذكور والنطق جزء منه وهذا لا يعقل ، فإن قضية قوله هذا أن الإيمان ليس إلا التصديق أن النطق المذكور خارج عن مسماه ، وقضية كون النطق جزءا منه عنده أنه داخل فيه فيكون مركبا منهما لا مجرد التصديق ، وهذا خلف فليحرر ( قوله : وعليه من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار ، فهو مؤمن عند الله تعالى ) هو مقيد بما إذا كان لو عرض عليه النطق بالشهادتين لم يمتنع فلا يرد عليه أبو طالب ( قوله : وألزمهم الأولون ) في هذا الإلزام نظر ظاهر ، ; لأن فرض المسألة أن كون النطق بالشهادتين شرطا أو جزءا إنما هو بالنسبة للقادر كما مر




                                                                                                                            الخدمات العلمية