الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( والإبراء ) الموقت والمعلق بغير الموت .

                                                                                                                            أما المعلق به كإذا مت فأنت بريء أو أنت بريء بعد موتي فهو وصية و ( من المجهول ) والذي لم يذكر فيه المبرأ منه ، ولا نوى ، ومراده جهالة الدائن لا وكيله أو المدين إلا فيما فيه معاوضة كإن أبرأتني فأنت طالق لا فيما سوى ذلك على المعتمد ( باطل في الجديد ) لأن البراءة تتوقف على الرضا وهو غير معقول مع الجهل والقديم أنه صحيح بناء على أنه إسقاط محض ومحل الخلاف في الدين ، أما الإبراء من العين فباطل جزما نعم لا أثر لجهل يمكن معرفته أخذا من قولهم : لو كاتبه بدراهم ثم وضع عنه دينارين مريدا ما يقابلهما من القيمة صح ويكفي في النقد الرائج علم العدد وفي الإبراء من حصته من مورثه علم قدر التركة وإن جهل قدر حصته ، ولأن الإبراء ، ومثله التحليل والإسقاط والترك تمليك للمدين ما في ذمته : أي الغالب عليه ذلك دون الإسقاط على المعتمد ومن ثم لو قال لأحد غريميه أبرأت أحدكما لم يصح بخلاف ما لو علمه وجهل من هو عليه فإنه يصح على ما قاله بعضهم .

                                                                                                                            وإنما لم يشترط قبول المدين نظرا لشائبة الإسقاط ، وإنما غلبوا في علمه شائبة التمليك ، وفي قبوله شائبة الإسقاط ; لأن القبول أدون ألا ترى إلى اختيار كثير من الأصحاب جواز المعاطاة في نحو البيع والهبة ولم يختاروا صحة بيع الغائب وهبته ، ولو أبرأ ثم ادعى الجهل قبل باطنا لا ظاهرا قاله الرافعي ، وهو محمول على ما في الأنوار [ ص: 443 ] أنه إن باشر سبب الدين لم يقبل وإلا كدين ورثه قبل ، وفي الجواهر نحوه ، وفيها عن الزبيلي تصدق الصغيرة المزوجة إجبارا بيمينها في جهلها بمهرها .

                                                                                                                            قال الغزي : وكذا الكبيرة المجبرة إن دل الحال على جهلها ، وهذا أيضا يؤيد ما في الأنوار ، ويجوز بذل العوض في مقابلة الإبراء كما قاله المتولي ، وعليه فيملك الدائن العوض المبذول له بالإبراء ويبرأ المدين ، وطريق الإبراء من المجهول أن يبرئه من قدر يعلم أنه لا ينقص عن دينه كألف شك هل يبلغها أو ينقص عنها .

                                                                                                                            نعم يكفي في الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب الندم والاستغفار ، فإن بلغته لم يصح الإبراء منها إلا بعد [ ص: 444 ] تعيينها بالشخص وتعيين حاضرها فيما يظهر حيث اختلف به الغرض ، ولو أبرأه من معين معتقدا عدم استحقاقه له فتبين خلاف ذلك برئ ( إلا ) الإبراء ( من إبل الدية ) فيصح مع الجهل بصفتها لاغتفارهم ذلك في إثباتها في ذمة الجاني فكذا هنا وإلا لتعذر الإبراء منها ، بخلاف غيرها لإمكان معرفته بالبحث عنه ( ويصح ضمانها في الأصح ) كالإبراء للعلم لسنها وعددها ، ويرجع في صفتها لغالب إبل البلد ، والثاني لا لجهالة وصفها ، والإبراء مطلوب فوسع فيه بخلاف الضمان ، وعلى الأول يرجع ضامنها بالإذن إذا غرمها بمثله لا قيمتها كالقرض كما جزم به ابن المقري .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : والإبراء الموقت ) لعل المراد به كأن يقول : أبرأتك من مالي عليك سنة

                                                                                                                            ( قوله : أما المعلق به ) أي بالموت

                                                                                                                            ( قوله : فهو وصية ) أي ففيه تفصيلها وهو أنه إن خرج المبرأ منه من الثلث برئ ، وإلا توقف على إجازة الورثة فيما زاد

                                                                                                                            ( قوله : من العين ) أي كأن غصب منه كتابا مثلا

                                                                                                                            ( قوله : لا أثر لجهل يمكن معرفته ) تقدم في قوله : ومحل الخلاف في مجهول يمكن الإحاطة به أنه لا يصح ضمان المجهول وإن أمكنت معرفته فانظر الفرق بينه وبين الإبراء ، ولعله أن الضمان لكونه إثبات مال في الذمة بعقد يحتاط له ما لا يحتاط للإبراء ; إذ قد يغلب فيه معنى الإسقاط

                                                                                                                            ( قوله : علم قدر التركة ) كأن يعلم أن قدرها ألف وقوله : بأن جهل بأن لم يعلم قدر ما يخصه أهو الربع أو غيره ؟ ( قوله : الغالب عليه ) وقد يغلبون الإسقاط ومنه عدم علم المبرأ بما عليه من الدين ، وعدم اشتراط قبوله ، وعدم اشتراط علم الوكيل به أيضا ( قوله : بخلاف ما لو ) محترز قول المصنف ومن المجهول باطل

                                                                                                                            ( قوله : علمه ) أي الدين

                                                                                                                            ( قوله : وإنما غلبوا في علمه ) أي الدائن [ ص: 443 ]

                                                                                                                            ( قوله : إن باشر سبب الدين ) أي أو روجع فيه كمهر الثيب سم على منهج ( قوله وفيها ) أي الأنوار ( قوله : وكذا الكبيرة المجبرة ) وكذا غيرها إن لم تتعرض للمهر في الإذن ولا روجعت فيه

                                                                                                                            ( قوله : ويجوز بذل العوض ) أي كأن يعطيه ثوبا مثلا في مقابلة الإبراء مما عليه من الدين .

                                                                                                                            أما لو أعطاه بعض الدين على أن يبرئه من الباقي فليس من التعويض في شيء بل ما قبضه بعض حقه ، والباقي ما عداه ( قوله : وعليه فيملك الدائن ) عبارة الشارح قبيل فصل الطريق النافذ إلخ نصها : إنكار حق الغير حرام .

                                                                                                                            فلو بذل للمنكر مالا ليقر ففعل لم يصح الصلح بل يحرم بذله وأخذه لذلك ولا يكون به مقرا كما جزم به ابن كج وغيره ورجحه صاحب الأنوار ; لأنه إقرار بشرط .

                                                                                                                            قال في الخادم : ينبغي التفصيل بين أن يعتقد فساد الصلح فيصح أو يجهله فلا كما في نظائره من المنشآت على العقود الفاسدة ا هـ .

                                                                                                                            أقول : يمكن أن يصور ما هنا بما لو وقع ذلك بالمواطأة منهما قبل العقد ثم دفع ذلك قبل البراءة أو بعدها .

                                                                                                                            فلو قال : أبرأتك على أن تعطيني كذا كان كما لو قال : صالحتك على أن تقر لي على أن لك علي كذا فكما قيل في ذلك بالبطلان لاشتماله على الشرط يقال هنا كذلك لاشتمال البراءة على الشرط فليراجع

                                                                                                                            ( قوله : وطريق الإبراء من المجهول إلخ ) ذكر حج في غير شرح هذا الكتاب أن محل عدم صحة الإبراء من المجهول بالنسبة للدنيا .

                                                                                                                            أما بالنسبة للآخرة فيصح ; لأن المبرئ راض بذلك ا هـ .

                                                                                                                            هكذا رأيته بهامش عن بعض أهل العصر ( قوله والاستغفار ) أي للمغتاب ا هـ حج .

                                                                                                                            كأن يقول : أستغفر الله لفلان أو اللهم اغفر له ، ومعلوم أن هذا الكلام في غيبة البالغ العاقل .

                                                                                                                            وأما غيبة الصبي فهل يقال فيها بمثل ذلك التفصيل وهو أنها إذا بلغته فلا بد من بلوغه وذكرها له وذكر من ذكرت عنده أيضا بعد البلوغ لأن براءته قبل البلوغ غير صحيحة أو يكفي مجرد الاستغفار حالا مطلقا لتعذر الاستحلال منه الآن ؟ فيه نظر .

                                                                                                                            الأقرب الأول ، وقال سم على حج : قوله والاستغفار له : أي ولو بلغته بعد ذلك ، وقوله إلا بعد تعيينها بالشخص أطلق السيوطي في فتاويه اعتبار التعيين وإن لم تبلغ المغتاب وهو ممنوع .

                                                                                                                            وقال فيمن خان رجلا في أهله بزنا وغيره لا تصح التوبة منه إلا بالشروط الأربعة .

                                                                                                                            ومنها استحلاله بعد أن يعرفه به بعينه ، ثم له حالان أحدهما : أن لا يكون على المرأة في ذلك ضرر بأن أكرهها فهذا كما وصفنا .

                                                                                                                            والثاني أن يكون عليها في ذلك ضرر بأن تكون مطاوعة ، فهذا قد يتوقف فيه من حيث إنه ساع في إزالة ضرره في الآخرة بضرر المرأة في الدنيا ، والضرر لا يزال بالضرر ، فيحتمل أن لا يسوغ له في هذه الحالة إخباره به ، وإن أدى إلى بقاء ضرره في الآخرة ، ويحتمل أن يكون ذلك عذرا ، ويحكم بصحة توبته إذا علم الله منه حسن النية ، ويحتمل أن يكلف الإخبار به في هذه الحالة ولكن يذكر معه ما ينفي الضرر عنها بأن يذكر أنه أكرهها .

                                                                                                                            ويجوز الكذب بمثل ذلك وهذا فيه جمع بين المصلحتين ، لكن الاحتمال الأول أظهر عندي ، ولو خاف من ذكر ذلك الضرر على نفسه دون غيره فالظاهر أن ذلك لا يكون عذرا ، لأن التخلص من عذاب الآخرة بضرر الدنيا مطلوب ، ويحتمل أن يقال : إنه [ ص: 444 ] يعذر بذلك ويرجى من فضل الله تعالى أن يرضى عنه خصمه إذا علم حسن نيته ، ولو لم يرض صاحب الحق في الغيبة والزنا ونحوهما أنه يعفو إلا ببذل مال فله بذله سعيا في خلاص ذمته .

                                                                                                                            ثم رأيت الغزالي قال فيمن خانه في أهله أو ولده أو نحوه : لا وجه للاستحلال والإظهار فإنه يولد فتنة وغيظا ، بل يفزع إلى الله تعالى ليرضيه عنه ا هـ باختصار ا هـ .

                                                                                                                            أقول : الأقرب ما اقتضاه كلام الغزالي حتى لو أكره المرأة على الزنا لا يسوغ له ذكر ذلك لزوجها إذا لم يبلغه من غيره لما فيه من هتك عرضها .

                                                                                                                            وبقي ما لو اغتاب ذميا فهل يسوغ الدعاء له بالمغفرة ليتخلص هو من إثم الغيبة أولا ، ويكتفي بالندم لامتناع الدعاء بالمغفرة للكافر ؟ كل محتمل ، والأقرب أنه يدعو له بمغفرة غير الشرك أو كثرة المال ونحوه مع الندم .

                                                                                                                            ووقع السؤال عما لو أتى بهيمة غيره فهل يخبره بذلك وإن كان فيه إظهار لقبح ما صنع أم لا ويكفي الندم ؟ فيه نظر ، ولا يبعد الثاني ، ويفارق ما لو أتى أهل غيره حيث امتنع الإخبار بما وقع ; لأن في ذلك إضرارا للمرأة ولأهلها فامتنع لذلك ، ولا كذلك البهيمة

                                                                                                                            ( قوله : وتعيين حاضرها ) هذا مما لا محيص عنه ، ولو مات بعد أن بلغته قبل الإبراء منها لم يصح إبراء وارثه بخلافه في المال ا هـ م ر ا هـ سم على حج

                                                                                                                            ( قوله : ولو أبرأه من معين ) في الواقع



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( قوله : علم قدر التركة ) ظاهره أنه لا يشترط علم قدر الدين فليراجع . ( قوله : ولأن الإبراء إلخ ) تعليل ثان للجديد ولو أخر حكاية القديم عنه لكان أولى . ( قوله : وجهل من هو عليه ) أي بأن كان الدين واحدا ولكن لا يعلم عين المدين فهو جهل وما قبله إبهام . ( قوله : في علمه ) أي المبرأ منه وكذا الضمير في قبوله [ ص: 443 ] قوله : وإلا كدين ورثه قبل ) أي بأن ادعى أنه يجهل قدر التركة أخذا مما مر آنفا فليراجع .




                                                                                                                            الخدمات العلمية