الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( هو فرض كفاية ) كل ما فرض لغيره فهو فرض كفاية إذا حصل المقصود بالبعض ، [ ص: 123 ] وإلا ففرض عين ولعله قدم الكفاية لكثرته ( ابتداء ) وإن لم يبدءونا وأما قوله تعالى : - { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } وتحريمه في الأشهر الحرم فمنسوخ بالعمومات ك { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( إن قام به البعض ) ولو عبيدا أو نساء ( سقط عن الكل وإلا ) يقم به أحد في زمن ما ( أثموا بتركه ) أي أثم الكل من المكلفين ، [ ص: 124 ] وإياك أن تتوهم أن فرضيته تسقط عن أهل الهند بقيام أهل الروم مثلا بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية فلو لم تقع إلا بكل الناس فرض عينا كصلاة وصوم ومثله الجنازة والتجهيز وتمامه في الدرر

التالي السابق


( قوله هو فرض كفاية ) قال في الدر المنتقى وليس بتطوع أصلا هو الصحيح فيجب على الإمام أن يبعث سرية إلى دار الحرب كل سنة مرة أو مرتين ، وعلى الرعية إعانته إلا إذا أخذ الخراج فإن لم يبعث كان كل الإثم عليه وهذا إذا غلب على ظنه أنه يكافئهم وإلا فلا يباح قتالهم بخلاف الأمر بالمعروف قهستاني عن الزاهدي . ا هـ . ( قوله إذا حصل المقصود بالبعض ) هذا القيد لا بد منه لئلا ينتقض بالنفير العام فإنه معه مفروض لغيره مع أنه فرض عين لعدم حصول المقصود بالبعض نهر .

قلت : يعني أنه يكون فرض عين على من يحصل به المقصود وهو دفع العدو فمن كان بحذاء العدو إذا لم يمكنهم مدافعته يفترض عينا على من يليهم ، وهكذا كما سيأتي ، ولا يخفى أن هذا عند هجوم العدو أو عند خوف هجومه وكلا منا في فريضته ابتداء ، وهذا لا يمكن أن يكون فرض عين إلا إذا كان بالمسلمين قلة والعياذ بالله [ ص: 123 ] تعالى بحيث لا يمكن أن يقوم به بعضهم ، فحينئذ يفترض على كل واحد منهم عينا تأمل ( قوله ولعله قدم الكفاية ) أي الذي هو فرض كفاية على فرض العين وهو الآتي في قوله وفرض عين إن هجم العدو ( قوله لكثرته ) أي كثرة وقوعه ( قوله وأما قوله تعالى إلخ ) جواب عما يرد على قوله ابتداء ، وعلى عدم تقييده بغير الأشهر الحرم ثم اعلم أن الأمر بالقتال نزل مرتبا فقد كان صلى الله عليه وسلم مأمورا أولا بالتبليغ ، والإعراض : - { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } - ثم بالمجادلة بالأحسن - { ادع إلى سبيل ربك } الآية - ثم أذن لهم بالقتال - { أذن للذين يقاتلون } - الآية ، ثم أمروا بالقتال إن قاتلوهم - { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } - ثم أمروا به بشرط انسلاخ الأشهر الحرم - { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } - ثم أمروا به مطلقا - { وقاتلوا في سبيل الله } الآية - واستقر الأمر على هذا سرخسي ملخصا يعني في جميع الأزمان والأماكن ، سوى الحرم كما في القهستاني عن الكرماني ثم نقل عن الخانية أن الأفضل أن لا يبتدأ به في الأشهر الحرم ا هـ والمراد بقوله : سوى الحرم إذا لم يدخلوا فيه للقتال فلو دخلوه للقتال حل قتالهم فيه لقوله تعالى - { حتى يقاتلوكم فيه } وتمامه في شرح السير ( قوله إن قام به البعض ) هذه الجملة وقعت موقع التفسير لفرض الكفاية فتح .

مطلب في الفرق بين فرض العين وفرض الكفاية وحاصله : أن فرض الكفاية ما يكفي فيه إقامة البعض عن الكل ; لأن المقصود حصوله في نفسه من مجموع المكلفين كتغسيل الميت وتكفينه ورد السلام بخلاف فرض العين ; لأن المطلوب إقامته من كل عين أي من كل ذات مكلفة بعينها ، فلا يكفي فيه فعل البعض عن الباقين ، ولذا كان أفضل كما مر ; لأن العناية به أكثر ثم إن فرض الكفاية إنما يجب على المسلمين العالمين به سواء كانوا كل المسلمين شرقا ومغربا أو بعضهم قال القهستاني . وفيه رمز إلى أن فرض الكفاية على كل واحد من العالمين به بطريق البدل ، وقيل : إنه فرض على بعض غير معين والأول المختار ; لأنه لو وجب على البعض ، لكان الآثم بعضا مبهما ، وذا غير مقبول وإلى أنه قد يصير بحيث لا يجب على أحد ، وبحيث يجب على بعض دون بعض ، فإن ظن كل طائفة من المكلفين أن غيرهم قد فعلوا سقط الواجب عن الكل ; وإن لزم منه أن لا يقوم به أحد وإن ظن كل طائفة أن غيرهم لم يفعلوا وجب على الكل ، وإن ظن البعض أن غيرهم أتى به وظن آخرون أن غيرهم ما أتى به وجب على الآخرين دون الأولين ، وذلك لأن الوجوب ههنا منوط بظن المكلف ; لأن تحصيل العلم بفعل الغير وعدمه في أمثال ذلك في حيز التعسر ، فالتكليف به يؤدي إلى الحرج وتمامه في مناهج العقول وإلى أنه لم يجب على الجاهل به وما في حواشي الكشاف للفاضل التفتازاني إنه يجب عليه أيضا فمخالف للمتداولات ا هـ .

( قوله في زمن ما ) مفهومه أنه إذا قام به البعض في أي زمن سقط عن الباقين مطلقا ، وليس كذلك ط لما تقدم من أنه يجب على الإمام في كل سنة مرة أو مرتين وحينئذ فلا يكفي فعله في سنة عن سنة أخرى ( قوله من المكلفين ) أي العالمين به كما مر ونظيره أنه لو مات واحد من جماعة مسافرين في مفازة ، فإنما يجب تكفينه والصلاة عليه كفاية على باقي رفقائه [ ص: 124 ] العالمين به دون غيرهم ( قوله وإياك إلخ ) كذا في شرح ابن كمال ومثله في الحواشي السعدية ( قوله بقيام أهل الروم مثلا ) إذ لا يندفع بقتالهم الشر عن الهنود المسلمين نهر عن الحواشي السعدية ثم قال فيها وقوله تعالى - { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } - يدل على أن الوجوب على أهل كل قطر ، ثم قال في موضع آخر - والآية تدل على أن الجهاد فرض على كل من يلي الكفار من المسلمين ، على الكفاية فلا يسقط بقيام الروم عن أهل الهند ، وأهل ما وراء النهر مثلا كما أشرنا إليه ا هـ قال في النهر : ويدل عليه ما في البدائع .

ولا ينبغي للإمام أن يخلي ثغرا من الثغور من جماعة من المسلمين فيهم غناء وكفاية ، لقتال العدو فإن قاموا به سقط عن الباقين ، وإن ضعف أهل ثغر عن مقاومة الكفرة وخيف عليهم من العدو ، فعلى من وراءهم من المسلمين الأقرب فالأقرب أن ينفروا إليهم ، وأن يمدوهم بالسلاح والكراع والمال لما ذكرنا إنه فرض على الناس كلهم ممن هو من أهل الجهاد ، ولكن سقط الفرض عنهم لحصول الكفاية بالبعض فما لم يحصل لا يسقط ا هـ .

قلت : وحاصله أن كل موضع خيف هجوم العدو منه فرض على الإمام أو على أهل ذلك الموضع حفظه وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو ولا يخفى أن هذا غير مسألتنا وهي قتالنا لهم ابتداء فتأمل ( قوله بل يفرض على الأقرب فالأقرب إلخ ) أي يفرض عليهم عينا وقد يقال كفاية بدليل أنه لو قام به الأبعد حصل المقصود فيسقط عن الأقرب ، لكن هذا ذكره في الدرر فيما لو هجم العدو وعبارة الدرر وفرض عين إن هجموا على ثغر من ثغور الإسلام ، فيصير فرض عين على من قرب منهم ، وهم يقدرون على الجهاد ونقل صاحب النهاية عن الذخيرة أن الجهاد إذا جاء النفير إنما يصير فرض عين على من يقرب من العدو ، فأما من وراءهم ببعد من العدو فهو فرض كفاية عليهم ، حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليهم فإن احتيج إليهم بأن عجز من كان يقرب من العدو عن المقاومة مع العدو أو لم يعجزوا عنها ، لكنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصلاة والصوم ، لا يسعهم تركه ثم وثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا على هذا التدريج ونظيره الصلاة على الميت ، فإن من مات في ناحية من نواحي البلد فعلى جيرانه وأهل محلته أن يقوموا بأسبابه ، وليس على من كان ببعد من الميت أن يقوم بذلك ، وإن كان الذي ببعد من الميت يعلم أن أهل محلته يضيعون حقوقه أو يعجزون عنه كان عليه أن يقوم بحقوقه كذا هنا ا هـ .




الخدمات العلمية