الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4 3 - حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه [ ص: 47 ] وسلم أومخرجي هم؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة ابن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر إلى قوله: والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، وتابعه هلال بن رداد، عن الزهري، وقال يونس ومعمر: بوادره.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فإن عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي، وقال ابن الصلاح وغيره: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من أحداث الصحابة مما لم يحضروه ولم يدركوه فهو في حكم الموصول المسند; لأن روايتهم عن الصحابة وجهالة الصحابي غير قادحة، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: لا يحتج به إلا أن يقول: إنه لا يروى إلا عن صحابي.

                                                                                                                                                                                  قال النووي: والصواب الأول وهو مذهب الشافعي والجمهور، وقال الطيبي: الظاهر أنها سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم لقولها: "قال فأخذني فغطني" فيكون قولها: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم" حكاية ما تلفظ به عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون بالتاء والياء قلت: لم لا يجوز أن يكون هذا بطريق الحكاية، عن غيره عليه الصلاة والسلام فلا يكون سماعها منه عليه الصلاة والسلام وعلى كل تقدير فالحديث في حكم المتصل المسند.

                                                                                                                                                                                  (بيان رجاله) وهم ستة:

                                                                                                                                                                                  الأول: أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن بكير بضم الباء الموحدة القرشي المخزومي المصري نسبه البخاري إلى جده يدلسه ولد سنة أربع، وقيل: خمس وخمسين ومائة، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد روى البخاري عنه في مواضع وروى عن محمد بن عبد الله هو الذهلي عنه في مواضع قاله أبو نصر الكلاباذي، وقال المقدسي: تارة يقول حدثنا محمد، ولا يزيد عليه، وتارة محمد بن عبد الله، وإنما هو محمد بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي، وتارة ينسبه إلى جده فيقول محمد بن عبد الله، وتارة محمد بن خالد بن فارس، ولم يقل في موضع حدثنا محمد بن يحيى، وروى مسلم حدثنا، عن أبي زرعة، عن يحيى وروى ابن ماجه، عن رجل عنه قال أبو حاتم: كان يفهم هذا الشأن ولا يحتج به يكتب حديثه، وقال النسائي: ليس بثقة ووثقه غيرهما، وقال الدارقطني: عندي ما به بأس وأخرج له مسلم، عن الليث وعن يعقوب بن عبد الرحمن ولم يخرج له، عن مالك شيئا ولعله والله أعلم لقول الباجي وقد تكلم أهل الحديث في سماعه الموطأ، عن مالك مع أن جماعة قالوا: هو أحد من روى الموطأ عن مالك.

                                                                                                                                                                                  الثاني: الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث الفهمي مولاهم المصري عالم أهل مصر من تابعي التابعين مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي، وقيل: مولى خالد بن ثابت، وفهم من قيس غيلان ولد بقلقشندة على نحو أربع فراسخ من القاهرة سنة ثلاث أو أربع وتسعين، ومات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، وقبره في قرافة مصر يزار وكان إماما كبيرا مجمعا على جلالته وثقته وكرمه، وكان على مذهب الإمام أبي حنيفة قاله القاضي ابن خلكان، وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه، نعم في الرواة ثلاثة غيره أحدهم مصري وكنيته أبو الحارث أيضا، وهو ابن أخي سعيد بن الحكم، والثاني: يروي عن ابن وهب ذكرهما ابن يونس في تاريخ مصر، والثالث: تنيسي حدث عن بكر بن سهل.

                                                                                                                                                                                  الثالث: أبو خالد عقيل بضم العين المهملة وفتح القاف ابن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي بالمثناة تحت القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان الحافظ مات سنة إحدى وأربعين ومائة، وقيل: سنة أربع بمصر فجأة وليس في الكتب الستة من اسمه عقيل بضم العين غيره.

                                                                                                                                                                                  الرابع: هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث [ ص: 48 ] ابن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري المدني سكن الشام، وهو تابعي صغير سمع أنسا وربيعة بن عباد، وخلقا من الصحابة ورأى ابن عمر، وروى عنه، ويقال سمع منه حديثين وعنه جماعات من كبار التابعين منهم عطاء، وعمر بن عبد العزيز ومن صغارهم ومن الأتباع أيضا مات بالشام وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها شغب، وبدا في رمضان سنة أربع وعشرين ومائة وهو ابن اثنين وسبعين سنة قلت: شغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين وفي آخره باء موحدة، وبدا بفتح الباء الموحدة.

                                                                                                                                                                                  الخامس: عروة بن الزبير بن العوام.

                                                                                                                                                                                  السادس: عائشة أم المؤمنين وقد مر ذكرهما.

                                                                                                                                                                                  (بيان لطائف إسناده) منها أن هذا الإسناد على شرط الستة إلا يحيى فعلى شرط البخاري ومسلم.

                                                                                                                                                                                  ومنها أن رجاله ما بين مصري ومدني، ومنها أن فيه رواية تابعي عن تابعي وهما الزهري وعروة.

                                                                                                                                                                                  (بيان تعدد الحديث ومن أخرجه غيره) هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في التفسير والتعبير، عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق، عن معمر وفي التفسير، عن سعيد بن مروان، عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، عن أبي صالح سلمويه، عن ابن المبارك، عن يونس وفي الإيمان، عن أبي رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الملك، عن أبيه، عن جده، عن عقيل وعن أبي الطاهر، عن أبي وهب، عن يونس كلهم، عن الزهري وأخرجه مسلم في الإيمان والترمذي والنسائي في التفسير.

                                                                                                                                                                                  (بيان اللغات) قوله: "أول ما بدئ به" قد ذكر بعضهم أول الشيء في باب أول وبعضهم في باب وأل وذكره الصغاني في هذا الباب، وقال الأول: نقيض الآخر، وأصله أوأل على وزن أفعل مهموز الوسط قلبت الهمزة واوا وأدغمت الواو في الواو، ويدل على هذا قولهم: هذا أول منك، والجمع الأوائل، والأوالئ على القلب، وقال قوم: أصله وول على وزن فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وإنما لم يجمع على أواول لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع، وهو إذا جعلته صفة لم تصرفه تقول لقيته عاما أول وإذا لم تجعله صفة صرفته تقول لقيته عاما أولا قال ابن السكيت: ولا تقل عام الأول، وقال أبو زيد: يقال: لقيته عام الأول، ويوم الأول بجر آخره، وهو كقولك: أتيت مسجد الجامع، وقال الأزهري: هذا من باب إضافة الشيء إلى نعته.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بدئ به" من بدأت بالشيء بدءا ابتدأت به، وبدأت الشيء فعلته ابتداء، وبدأ الله الخلق وأبدأهم بمعنى، قوله: "من الوحي" قد مر تفسير الوحي مستوفى، قوله: "الرؤيا" على وزن فعلى كحبلى، يقال: رأى رؤيا بلا تنوين وجمعها رؤى بالتنوين على وزن دعى، قوله: "فلق الصبح" بفتح الفاء واللام وهو ضياء الصبح، وكذلك فرق الصبح بفتح الفاء والراء، وإنما يقال هذا في الشيء البين الواضح، ويقال الفرق أبين من فلق الصبح، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: فالق الإصباح ضوء الشمس وضوء القمر بالليل، حكاه البخاري في كتاب التعبير، ويقال: الفلق مصدر كالانفلاق، وفي المطالع قال الخليل: الفلق الصبح قلت: فعلى هذا تكون الإضافة فيه للتخصيص والبيان، ويقال: الفلق الصبح لكنه لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه إضافة العام إلى الخاص، كقولهم: عين الشيء ونفسه، وفي العباب يقال: هو أبين من فلق الصبح، ومن فرق الصبح، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" أي مبينة مثل مجيء الصبح، قال الكرماني: والصحيح أنه بمعنى المفلوق، وهو اسم للصبح فأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين، وقد جاء الفلق منفردا عن الصبح قال تعالى: قل أعوذ برب الفلق قلت: تنصيصه على الصحيح غير صحيح بل الصحيح أنه إما اسم للصبح وجوزت الإضافة فيه لاختلاف اللفظين، وإما مصدر بمعنى الانفلاق، وهو الانشقاق من فلقت الشيء أفلقه بالكسر فلقا إذا شققته، وأما الفلق في الآية فقد اختلف الأقوال فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الخلاء" بالمد وهو الخلوة يقال: خلا الشيء يخلو خلوا، وخلوت به خلوة وخلاء والمناسب هاهنا أن يفسر الخلاء بمعنى الاختلاء أو بالخلاء الذي هو المكان الذي لا شيء به على ما لا يخفى على من له ذوق من المعاني الدقيقة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بغار حراء" الغار بالغين المعجمة فسره جميع شراح البخاري بأنه النقب في الجبل، وهو قريب من معنى الكهف قلت: الغار هو الكهف، وفي العباب الغار كالكهف في الجبل، ويجمع على غيران، ويصغر على غوير فتصغيره يدل على أنه واوي فلذلك ذكره في العباب في فصل غور، وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء بالمد وهو مصروف على الصحيح، ومنهم من منع صرفه، ويذكر على الصحيح أيضا، ومنهم من أنثه، ومنهم من قصره أيضا فهذه ست لغات قال القاضي: [ ص: 49 ] عياض يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف، والتذكير أكثر فمن ذكره صرفه، ومن أنثه لم يصرفه يعني على إرادة البقعة أو الجهة التي فيها الجبل، وضبطه الأصيلي بفتح الحاء، والقصر وهو غريب، وقال الخطابي: العوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع يفتحون الحاء، وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة ويقصرون الألف وهي ممدودة، وقال التيمي: العامة لحنت في ثلاثة مواضع فتح الحاء، وقصر الألف، وترك صرفه، وهو مصروف في الاختيار لأنه اسم جبل، وقال الكرماني: إذا جمعنا بين كلاميهما يلزم اللحن في أربعة مواضع، وهو من الغرائب إذ بعدد كل حرف لحن، ولقائل أن يقول: كسر الراء ليس بلحن لأنه بطريق الإمالة، وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال، عن يسارك إذا سرت إلى منى له قلة مشرفة إلى الكعبة منحنية، وذكر الكلبي أن حراء وثبير سميا باسمي ابني عم عاد الأولى قلت: ثبير بفتح الثاء المثلثة، وكسر الباء الموحدة بعدها الياء آخر الحروف، وهو جبل يرى من منى والمزدلفة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فيتحنث" بالحاء المهملة ثم النون ثم الثاء المثلثة، وقد فسره في الحديث بأنه التعبد وقال الصغاني: التحنث إلقاء الحنث، يقال: تحنث أي تنحى عن الحنث، وتأثم أي تنحى عن الإثم، وتحرج أي تنحى عن الحرج، وتحنث اعتزل الأصنام مثل تحنف، وفي المطالع: يتحنث معناه يطرح الإثم عن نفسه بفعل ما يخرجه عنه من البر، ومنه قول حكيم: أشياء كنت أتحنث، وفي رواية: كنت أتبرر بها أي أطلب البر بها، وأطرح الإثم، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: "ولا أتحنث إلى نذري" أي أكتسب الحنث، وهو الذنب وهذا عكس ما تقدم، وقال الخطابي: ونظيره في الكلام التحوب والتأثم، أي ألقى الحوب والإثم عن نفسه قالوا: وليس في كلامهم تفعل في هذا المعنى غير هذه، وقال الكرماني: هذه شهادة نفي كيف وقد ثبت في الكتب الصرفية أن باب تفعل يجيء للتجنب كثيرا نحو تحرج، وتخون أي اجتنب الحرج، والخيانة وغير ذلك قلت: جاءت منه ألفاظ نحو تحنث وتأثم، وتحرج، وتحوب، وتهجد، وتنجس وتقذر، وتحنف، وقال الثعلبي: فلان يتهجد إذا كان يخرج من الهجود، وتنجس إذا فعل فعلا يخرج به عن النجاسة، وقال أبو المعالي في المنتهى: تحنث تعبد مثل تحنف وفلان يتحنث من كذا بمعنى يتأثم فيه، وهو أحد ما جاء تفعل إذا تجنب وألقى عن نفسه، وقال السهيلي: التحنث التبرر تفعل من البر، وتفعل يقتضي الدخول في الشيء وهو الأكثر فيها مثل تفقه، وتعبد وتنسك، وقد جاءت ألفاظ يسيرة تعطي الخروج عن الشيء وإطراحه كالتأثم، والتحرج والتحنث بالثاء المثلثة; لأنه من الحنث، والحنث الحمل الثقيل وكذلك التقذر إنما هو تباعد عن القذر، وأما التحنف بالفاء فهو من باب التعبد، وقال المازري: يتحنث يفعل فعلا يخرج به من الحنث، والحنث: الذنب وقال التيمي: هذا من المشكلات ولا يهتدي له سوى الحذاق وسئل ابن الأعرابي عن قوله: "يتحنث" فقال: لا أعرفه، وسألت أبا عمرو الشيباني فقال: لا أعرف يتحنث إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قلت: قد وقع في سيرة ابن هشام يتحنف بالفاء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قبل أن ينزع إلى أهله" بكسر الزاي أي قبل أن يرجع، وقد رواه مسلم كذلك يقال: نزع إلى أهله إذا حن إليهم فرجع إليهم يقال: هل نزعك غيره أي هل جاء بك وجذبك إلى السفر غيره أي غير الحج، وناقة نازع إذا حنت إلى أوطانها ومرعاها، وهو من نزع ينزع بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل وقال صاحب الأفعال: والأصل في فعل يفعل إذا كان صحيحا وكانت عينه أو لامه حرف حلق أن يكون مضارعه مفتوحا إلا أفعالا يسيرة جاءت بالفتح والضم مثل: جنح يجنح ودبغ يدبغ، وإلا ما جاء من قولهم: نزع ينزع بالفتح والكسر، وهنأ يهنئ وقال غيره: هنأني الطعام يهنأني ويهنأني بالفتح والكسر قلت: قاعدة عند الصرفيين أن كل مادة تكون من فعل يفعل بالفتح فيهما يلزم أن يكون فيها حرف من حروف الحلق، وكل مادة من الماضي والمضارع فيهما حرف من حروف الحلق لا يلزم أن يكون من باب فعل يفعل بالفتح فيهما فافهم.

                                                                                                                                                                                  والأهل في اللغة العيال، وفي العباب آل الرجل أهله وعياله وآله أيضا أتباعه وقال أنس رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آل محمد قال: كل تقي" والفرق بين الآل والأهل أن الآل يستعمل في الأشراف بخلاف الأهل فإنه أعم، وأما قوله تعالى: كدأب آل فرعون فلتصوره بصورة الأشراف، وقال ابن عرفة: أراد من آل فرعون من آل إليه بدين أو مذهب أو نسب، ومنه قوله تعالى: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب

                                                                                                                                                                                  قوله: "ويتزود" من التزود وهو اتخاذ الزاد، والزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر يقال: زودته فتزود، قوله: "فغطني" بالغين المعجمة والطاء المهملة أي [ ص: 50 ] ضغطني وعصرني، يقال: غطني وغشيني وضغطني وعصرني وغمزني وخنقني كله بمعنى قال الخطابي: ومنه الغط في الماء، وغطيط النائم ترديد النفس إذا لم يجد مساغا عند انضمام الشفتين، والغت حبس النفس مرة وإمساك اليد أو الثوب على الفم والأنف والغط الخنق وتغييب الرأس في الماء، قال الخطابي: والغط في الحديث الخنق، قوله: "الجهد" بضم الجيم وفتحها ومعناه الغاية والمشقة، وفي المحكم: الجهد والجهد الطاقة، وقيل: الجهد المشقة والجهد الطاقة، وفي الموعب: الجهد ما جهد الإنسان من مرض أو من مشاق، والجهد بلوغك غاية الأمر الذي لا تألو عن الجهد فيه، وجهدته بلغت مشقته وأجهدته على أن يفعل كذا، وقال ابن دريد: جهدته حملته على أن يبلغ مجهوده، وقال ابن الأعرابي: جهد في العمل وأجهد، وقال أبو عمرو: أجهد في حاجتي وجهد، وقال الأصمعي: جهدت لك نفسي وأجهدت نفسي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم أرسلني" أي أطلقني من الإرسال، قوله: "علق" بتحريك اللام وهو الدم الغليظ والقطعة منه علقة، قوله: "يرجف فؤاده" أي يخفق ويضطرب، والرجفان شدة الحركة والاضطراب، وفي المحكم رجف الشيء يرجف رجفا ورجوفا ورجفانا ورجيفا، وأرجف خفق واضطرب اضطرابا شديدا، والفؤاد هو القلب، وقيل: إنه عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب، وسمي القلب قلبا لتقلبه، وقال الليث: القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط، وسمي قلبا لتقلبه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "زملوني زملوني" هكذا هو في الروايات بالتكرار وهو من التزميل وهو التلفيف، والتزمل الاشتمال والتلفف، ومنه التدثر ويقال لكل ما يلقى على الثوب الذي يلي الجسد دثار، وأصل المزمل والمدثر المتزمل والمتدثر أدغمت التاء فيما بعدها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الروع" بفتح الراء وهو الفزع، وفي المحكم: الروع والرواع والتروع الفزع، وقال الهروي: هو بالضم موضع الفزع من القلب، قوله: "كلا" معناه النفي والردع عن ذلك الكلام والمراد هاهنا التنزيه عنه، وهو أحد معانيها، وقد يكون بمعنى حقا أو بمعنى ألا التي للتنبيه يستفتح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن على أقسام جمعها ابن الأنباري في باب من كتاب الوقف والابتداء له وهي مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه، ولا النافية قال: وإنما شددت لامها لتقوية المعنى، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره هي بسيطة، وعند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر لا معنى لها عندهم إلا ذلك حتى يجيزون أبدا الوقف عليها والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت كلا في سورة فاحكم بأنها مكية لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة لأن أكثر العتو كان بها قالوا: وقد تكون حرف جواب بمنزلة إي ونعم وحملوا عليه كلا والقمر فقالوا: معناه أي والقمر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما يخزيك الله" بضم الياء آخر الحروف وبالخاء المعجمة من الخزي وهو الفضيحة والهوان، وأصل الخزي على ما ذكره ابن سيده الوقوع في بلية وشهوة بذلة، وأخزى الله فلانا أبعده قاله في الجامع، وفي رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري يحزنك بالحاء المهملة وبالنون من الحزن، ويجوز على هذا فتح الياء وضمها يقال: حزنه وأحزنه لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع، وقال اليزيدي: أحزنه لغة تميم وحزنه لغة قريش، قال تعالى: لا يحزنهم الفزع الأكبر من حزن وقال: ليحزنني أن تذهبوا به من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء والحزن خلاف السرور يقال: حزن بالكسر يحزن حزنا إذا اغتم، وحزنه غيره وأحزنه مثل شكله وأشكله، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: إذا جاء الحزن في موضع نصب فتحت الحاء، وإذا جاء في موضع رفع وجر ضممت وقرئ وابيضت عيناه من الحزن وقال: تفيض من الدمع حزنا قال الخطابي: وأكثر الناس لا يفرقون بين الهم والحزن، وهما على اختلافهما يتقاربان في المعنى إلا أن الحزن إنما يكون على أمر قد وقع والهم إنما هو فيما يتوقع، ولا يكون بعد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لتصل الرحم" قال القزاز: وصل رحمه صلة وأصله وصلة فحذفت الواو كما قالوا: زنة من وزن وأصل صل هو أمر من وصل أوصل حذفت الواو تبعا لفعله فاستغني عن الهمزة فحذفت فصار صل على وزن عل، ومعنى لتصل الرحم تحسن إلى قراباتك على حسب حال الواصل والموصول إليه، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة بالزيارة، والسلام، وغير ذلك، والرحم القرابة، وكذلك الرحم بكسر الراء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتحمل الكل" بفتح الكاف وتشديد اللام، وأصله الثقل، ومنه قوله تعالى: وهو كل على مولاه وأصله من الكلال وهو الإعياء أي ترفع الثقل أراد تعين الضعيف المنقطع، ويدخل في حمل الكل الإنفاق [ ص: 51 ] على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك; لأن الكل من لا يستقل بأمره، وقال الداودي: الكل المنقطع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتكسب المعدوم" بفتح التاء هو المشهور الصحيح في الرواية والمعروف في اللغة، وروي بضمها، وفي معنى المضموم قولان: أصحهما معناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه له تبرعا.

                                                                                                                                                                                  ثانيهما: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من معدومات الفوائد، ومكارم الأخلاق يقال: كسبت مالا وأكسبت غيري مالا، وفي معنى المتفق حينئذ قولان: أصحهما أن معناه كمعنى المضموم، يقال: كسبت الرجل مالا وأكسبته مالا، والأول أفصح وأشهر ومنع القزاز الثاني وقال: إنه حرف نادر وأنشد على الثاني:


                                                                                                                                                                                  وأكسبني مالا وأكسبته حمدا

                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  وقول الآخر:


                                                                                                                                                                                  يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حمدا

                                                                                                                                                                                  روي بفتح التاء وضمها، والثاني: أن معناه تكسب المال وتصيب منه ما يعجز غيرك عن تحصيله، ثم تجود به، وتنفقه في وجوه المكارم، وكانت العرب تتمادح بذلك وعرفت قريش بالتجارة وضعف هذا بأنه لا معنى لوصف التجارة بالمال في هذا الموطن إلا أن يريد أنه يبذله بعد تحصيله، وأصل الكسب طلب الرزق يقال: كسب يكسب كسبا، وتكسب، واكتسب وقال سيبويه فيما حكاه ابن سيده: تكسب أصاب، وتكسب تصرف، واجتهد وقال صاحب المجمل: يقال كسبت الرجل مالا فكسبه، وهذا مما جاء على فعلته ففعل، وفي العباب الكسب طلب الرزق، وأصله الجمع والكسب بالكسر لغة، والفصيح فتح الكاف تقول: كسبت منه شيئا، وفلان طيب الكسب والمكسب، والمكسب والمكسبة، مثال المغفرة والكسبة مثل الجلسة، وكسبت أهلي خيرا، وكسبت الرجل مالا فكسبه، وقال ثعلب: كل الناس يقولون كسبك فلان خيرا، إلا ابن الأعرابي فإنه يقول: أكسبك فلان خيرا قال: والأفصح في الحديث تكسب بفتح التاء والمعدوم عبارة عن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب، وسماه معدوما لكونه كالميت حيث لم يتصرف في المعيشة، وذكر الخطابي أن صوابه المعدم بحذف الواو أي: تعطي العائل وترفده لأن المعدوم لا يدخل تحت الأفعال، وقال الكرماني التيمي: لم يصب الخطابي إذ حكم على اللفظة الصحيحة بالخطأ فإن الصواب ما اشتهر بين أصحاب الحديث، ورواه الرواة وقال بعضهم: لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له قلت: الصواب ما قاله الخطابي وكذا قال الصغاني في العباب الصواب: وتكسب المعدم أي تعطي العائل وترفده نعم المعدوم له وجه على معنى غير المعنى الذي فسروه، وهو أن يقال: وتكسب الشيء الذي لا يوجد تكسبه لنفسك أو تملكه لغيرك، وإليه أشار صاحب المطالع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتقري الضيف" بفتح التاء تقول: قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف والقصر، وقراء بفتح القاف والمد ويقال للطعام الذي تضيفه به: قرى بالكسر والقصر وفاعله قار كقضى فهو قاض، وقال ابن سيده: قرى الضيف قرى وقراء أضافه، واستقراني واقتراني وأقراني طلب مني القرى، وأنه لقري للضيف والأنثى قرية عن اللحياني وكذلك إنه لمقر للضيف، ومقراء والأنثى مقرأة ومقراء الأخيرة عن اللحياني، وفي أمالي الهجري: ما اقتريت الليلة يعني لم آكل من القرى شيئا أي لم آكل طعاما.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتعين على نوائب الحق" النوائب: جمع نائبة وهي الحادثة والنازلة خيرا أو شرا، وإنما قال: نوائب الحق لأنها تكون في الحق والباطل قال لبيد رضي الله عنه:


                                                                                                                                                                                  نوائب من خير وشر كلاهما فلا الخير ممدود ولا الشر لازب

                                                                                                                                                                                  تقول: ناب الأمر نوبة نزل وهي النوائب والنوب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قد تنصر" أي صار نصرانيا وترك عبادة الأوثان، وفارق طريق الجاهلية، والجاهلية المدة التي كانت قبل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كانوا عليه من فاحش الجهالات، وقيل: هو زمان الفترة مطلقا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية" أقول: لم أر شارحا من شراح البخاري حقق هذا الموضع بما يشفي الصدور فنقول بعون الله وتوفيقه قوله: الكتاب مصدر تقول: كتبت كتبا وكتابا وكتابة والمعنى: وكان يكتب الكتابة العبرانية، ويجوز أن يكون الكتاب اسما وهو الكتاب المعهود ومنه قوله تعالى: ألم ذلك الكتاب والعبراني بكسر العين وسكون الباء نسبة إلى العبر وزيدت الألف والنون في النسبة على غير القياس، وقال ابن الكلبي: ما أخذ على غربي الفرات إلى برية العرب يسمى العبر، وإليه ينسب العبريون من اليهود لأنهم لم يكونوا عبروا الفرات، وقال محمد بن جرير: إنما نطق إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالعبرانية حين عبر النهر فارا من النمرود وقد كان النمرود [ ص: 52 ] قال للذين أرسلهم خلفه: إذا وجدتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه فلما أدركوه استنطقوه فحول الله لسانه عبرانيا، وذلك حين عبر النهر فسميت العبرانية لذلك، وفي العباب: والعبرية والعبرانية لغة اليهود والمفهوم من قوله: "فيكتب من الإنجيل بالعبرانية" أن الإنجيل ليس بعبراني لأن الباء في قوله: "بالعبرانية" تتعلق بقوله: "فيكتب" والمعنى فيكتب باللغة العبرانية من الإنجيل، وهذا من قوة تمكنه في دين النصارى ومعرفة كتابتهم كان يكتب من الإنجيل بالعبرانية إن شاء، وبالعربية إن شاء، وقال التيمي: الكلام العبراني هو الذي أنزل به جميع الكتب كالتوراة والإنجيل ونحوهما، وقال الكرماني: فهم منه أن الإنجيل عبراني قلت: ليس كذلك بل التوراة عبرانية، والإنجيل سرياني، وكان آدم عليه الصلاة والسلام يتكلم باللغة السريانية، وكذلك أولاده من الأنبياء وغيرهم غير أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حولت لغته إلى العبرانية حين عبر النهر أي: الفرات كما ذكرنا وغير ابنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإنه كان يتكلم باللغة العربية فقيل: لأن أول من وضع الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان يعلم سائر اللغات، وكتبها في الطين وطبخه فلما أصاب الأرض الغرق أصاب كل قوم كتابهم فكان إسماعيل عليه الصلاة والسلام أصاب كتاب العرب، وقيل: تعلم إسماعيل عليه الصلاة والسلام لغة العرب من جرهم حين تزوج امرأة منهم، ولهذا يعدونه من العرب المستعربة لا العاربة، ومن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كان يتكلم باللغة العربية هو صالح، وقيل: شعيب أيضا عليه الصلاة والسلام، وقيل: كان آدم عليه الصلاة والسلام يتكلم باللغة العربية فلما نزل إلى الأرض حولت لغته إلى السريانية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لما تاب الله عليه رد عليه العربية، وعن سفيان أنه ما نزل وحي من السماء إلا بالعربية فكانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تترجمه لقومها، وعنكعب أول من نطق بالعربية جبريل عليه السلام، وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه الصلاة والسلام فألقاها نوح عليه الصلاة والسلام على لسان ابنه سام، وهو أبو العرب والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ما أصل السريانية؟ قلت: قال ابن سلام: سميت بذلك; لأن الله سبحانه وتعالى حين علم آدم الأسماء علمه سرا من الملائكة، وأنطقه بها حينئذ.

                                                                                                                                                                                  قوله: "هذا الناموس" بالنون والسين المهملة، وهو صاحب السر كما ذكره البخاري في أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال صاحب المجمل، وأبو عبيد في غريبه: ناموس الرجل صاحب سره، وقال ابن سيده: الناموس السر، وقال صاحب الغريبين هو صاحب سر الملك، وقيل: إن الناموس والجاسوس بمعنى واحد حكاه القزاز في جامعه، وصاحب الواعي وقال الحسن في شرح السيرة: أصل الناموس صاحب سر الرجل في خيره وشره، وقال ابن الأنباري في زاهره: الجاسوس الباحث عن أمور الناس، وهو بمعنى التجسس سواء، وقال بعض أهل اللغة: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، وبالحاء المهملة الاستماع لحديث القوم، وقيل: هما سواء، وقال ابن ظفر في شرح المقامات: صاحب سر الخير ناموس، وصاحب سر الشر جاسوس، وقد سوى بينهما رؤبة ابن العجاج، وقال بعض الشراح: وهو الصحيح، وليس بصحيح بل الصحيح الفرق بينهما على ما نقل النووي في شرحه عن أهل اللغة الفرق بينهما بأن الناموس في اللغة صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر وقال الهروي: الناموس صاحب سر الخير، وهو هنا جبريل عليه الصلاة والسلام سمي به لخصوصه بالوحي والغيب، والجاسوس صاحب سر الشر وقال الصغاني في العباب: ناموس الرجل صاحب سره الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصه به ويستره عن غيره، وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر، والناموس أيضا الحاذق، والناموس الذي يلطف مدخله قال الأصمعي: قال رؤبة:


                                                                                                                                                                                  لا تمكن الخناعة الناموسا وتخصب اللعابة الجاسوسا
                                                                                                                                                                                  بعشر أيديهن والضغبوسا خصب الغواة العومج المنسوسا

                                                                                                                                                                                  والناموس أيضا قترة الصائد، والناموسة عريسة الأسد، ومنه قول عمرو بن معدي كرب: أسد في ناموسته والناموس، والنماس: النمام، والناموس الشرك لأنه يوارى تحت الأرض، والناموس: ما التمس به الرجل من الاختيال تقول: نمست السر أنمسه بالكسر نمسا كتمته، ونمست الرجل ونامسته أي ساررته، وقال ابن الأعرابي: لم يأت في الكلام فاعول لام الكلمة فيه سين إلا الناموس صاحب سر الخير والجاسوس للشر، والجاروس الكثير الأكل، والناعوس [ ص: 53 ] الحية، والبابوس: الصبي الرضيع والراموس: القبر، والقاموس: وسط البحر، والقابوس: الجميل الوجه والعاطوس: دابة يتشاءم بها، والناموس: النمام، والجاموس: ضرب من البقر وقيل: أعجمي تكلمت به العرب، وقيل: الحاسوس بالحاء غير المعجمة قلت: قال الصغاني: الحاسوس بالحاء المهملة الذي يتحسس الأخبار مثل الجاسوس يعني بالجيم، وقيل: الحاسوس في الخير، والجاسوس في الشر، وقال ابن الأعرابي: الحاسوس المشئوم من الرجال، ويقال: سنة حاسوس وحسوس إذا كانت شديدة قليلة الخير والقابوس: قيل لفظ أعجمي عربوه وأصله كاووس فأعرب فوافق العربية ولهذا لا ينصرف للعجمة والتعريف، وأبو قابوس: كنية النعمان بن المنذر ملك العرب، والعاطوس: بالعين المهملة والبابوس: بالباءين الموحدتين، قال ابن عباد: هو الولد الصغير بالرومية والناموس بالنون والميم: وقد جاء فاعول أيضا آخره سين فاقوس بلدة من بلاد مصر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "جذعا" بالذال المعجمة المفتوحة يعني شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك، ويكون لي كفاية تامة لذلك، والجذع في الأصل للدواب فاستعير للإنسان قال ابن سيده: قيل: الجذع الداخل في السنة الثانية، ومن الإبل فوق الحق، وقيل: الجذع من الإبل لأربع سنين، ومن الخيل لسنتين، ومن الغنم لسنة، والجمع جذعان، وجذاع بالكسر، وزاد يونس: جذاع بالضم وأجذاع، قال الأزهري: والدهر يسمى جذعا لأنه شاب لا يهرم، وقيل: معناه يا ليتني أدرك أمرك فأكون أول من يقوم بنصرك كالجذع الذي هو أول الإنسان، قال صاحب المطالع: والقول الأول أبين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قط" بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات، وهي ظرف لاستغراق ما مضى فيختص بالنفي، واشتقاقه من قططته أي: قطعته فمعنى ما فعلت قط ما فعلته فيما انقطع من عمري; لأن الماضي منقطع، عن الحال والاستقبال، وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى; لأن المعنى مذ أن خلقت إلى الآن، وعلى حركة لئلا يلتقي ساكنان وبالضمة تشبيها بالغايات، وقد يكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد تتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه مع ضمها أو إسكانها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "مؤزرا" بضم الميم، وفتح الهمزة بعدها زاي معجمة مشددة ثم راء مهملة أي: قويا بليغا من الأزر وهو القوة والعون ومنه قوله تعالى: فآزره أي قواه، وفي المحكم آزره ووازره أعانه على الأمر الأخير على البدل، وهو شاذ، وقال ابن قتيبة: مما تقوله العوام بالواو، وهو بالهمز آزرته على الأمر أي أعنته، فأما وازرته فبمعنى صرت له وزيرا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم لم ينشب" أي لم يلبث وهو بفتح الياء آخر الحروف، وسكون النون، وفتح الشين المعجمة، وفي آخره باء موحدة، وكأن المعنى فجاءه الموت قبل أن ينشب في فعل شيء، وهذه اللفظة عند العرب عبارة عن السرعة والعجلة، ولم أر شارحا ذكر باب هذه المادة غير أن شارحا منهم قال: وأصل النشوب التعلق أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وبابه من نشب الشيء في الشيء بالكسر نشوبا إذا علق فيه، وفي حديث الأحنف بن قيس: أنه قال: خرجنا حجاجا فمررنا بالمدينة أيام قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقلت لصاحبي: قد أفل الحج، وإني لا أرى الناس إلا قد نشبوا في قتل عثمان، ولا أراهم إلا قاتليه أي: وقعوا فيه وقوعا لا منزع لهم عنه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وفتر الوحي" معناه احتبس قاله الكرماني قلت: معناه احتبس بعد متابعته وتواليه في النزول، وقال ابن سيده: فتر الشيء يفتر ويفتر فتورا وفتارا سكن بعد حدة ولان بعد شدة وفتر هو والفتر الضعف.

                                                                                                                                                                                  (بيان اختلاف الروايات)

                                                                                                                                                                                  قوله: "من الوحي الرؤيا الصالحة" وفي صحيح مسلم: "الصادقة" وكذا رواه البخاري في كتاب التعبير أيضا ووقع هنا أيضا "الصادقة" في رواية معمر ويونس وكذا ساقه الشيخ قطب الدين في شرحه ومعناهما واحد، وهي التي لم يسلط عليه فيها ضغث ولا تلبس شيطان، وقال المهلب: الرؤيا الصالحة هي تباشير النبوة; لأنه لم يقع فيها ضغث فيتساوى مع الناس في ذلك بل خص صلى الله عليه وسلم بصدقها كلها وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكان يخلو بغار حراء" وقال بعضهم: وكان يجاور بغار حراء ثم فرق بين المجاورة والاعتكاف بأن المجاورة قد تكون خارج المسجد بخلاف الاعتكاف، ولفظ الجوار جاء في حديث جابر الآتي في كتاب التفسير في صحيح مسلم فيه: "جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي" الحديث، وحراء بكسر الحاء وبالمد في الرواية الصحيحة، وفي رواية الأصيلي: بالفتح والقصر، وقد مر الكلام فيه مستوفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فيتحنث" قال أبو أحمد العسكري: رواه بعضهم يتحنف بالفاء وكذا وقع في سيرة ابن هشام بالفاء، قوله: "قبل أن ينزع" وفي رواية مسلم: "قبل أن يرجع" ومعناهما [ ص: 54 ] واحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى جاءه الحق" ورواه البخاري في التفسير: "حتى فجئه الحق" وكذا في رواية مسلم أي أتاه بغتة يقال: فجئ يفجأ بكسر الجيم في الماضي، وفتحها في الغابر، وفجأ يفجأ بالفتح فيهما.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما أنا بقارئ" وقد جاء في رواية: "ما أحسن أن أقرأ" وقد جاء في رواية ابن إسحاق: "ماذا أقرأ" وفي رواية أبي الأسود في مغازيه أنه قال: "كيف أقرأ".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فغطني" وفي رواية الطبري: "فغتني" بالتاء المثناة من فوق، والغت حبس النفس مرة، وإمساك اليد والثوب على الفم والأنف، والغط الخنق وتغييب الرأس في الماء، وعبارة الداودي معنى غطني صنع بي شيئا حتى ألقاني إلى الأرض كمن تأخذه الغشية، وقال الخطابي: وفي غير هذه الروايات: فسأبني من سأبت الرجل سأبا إذا خنقته ومادته سين مهملة وهمزة وباء موحدة، وقال الصغاني رحمه الله: ومنه حديث النبي عليه الصلاة والسلام وذكر اعتكافه بحراء فقال: فإذا أنا بجبريل عليه الصلاة والسلام على الشمس وله جناح بالمشرق وجناح بالمغرب فهلت منه، وذكر كلاما ثم قال: "أخذني فسلقني بحلاوة القفاء، ثم شق بطني فاستخرج القلب" وذكر كلاما ثم قال لي: اقرأ فلم أدر ما أقرأ فأخذ بحلقي فسأبني حتى أجهشت بالبكاء، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فهلت" أي خفت من هاله إذا خوفه ويروى فسأتني بالسين المهملة والهمزة، والتاء المثناة من فوق قال الصغاني: قال أبو عمر: وسأته يسأته سأتا إذا خنقه حتى يموت مثل سأبه، وقال أبو زيد: مثله إلا أنه لم يقل حتى يموت، ويروى: "فدعتني" من الدعت بفتح الدال وسكون العين المهملتين، وفي آخره تاء مثناة من فوق قال ابن دريد: الدعت الدفع العنيف عربي صحيح يقال: دعته يدعته إذا دفعه بالدال، وبالذال المعجمة زعموا قلت: ومنه حديث الآخر: "إن الشيطان عرض لي وأنا أصلي فدعته حتى وجدت برد لسانه، ثم ذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: رب هب لي ملكا" الحديث، قلت: بمعناه ذأته بالذال المعجمة، قال أبو زيد: ذأته إذا خنقه أشد الخنق حتى أدلع لسانه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يرجف فؤاده" وفي رواية مسلم: "بوادره" وهو بفتح الباء الموحدة اللحمة التي بين المنكب والعنق ترجف عند الفزع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والله ما يخزيك" من الخزيان كما ذكرناه، وهكذا رواه مسلم من رواية يونس وعقيل عن الزهري، ورواه من رواية معمر عن الزهري: "يحزنك" من الحزن وهو رواية أبي ذر أيضا هاهنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وتكسب" بفتح التاء هو الرواية الصحيحة المشهورة، وفي رواية الكشميهني بالضم، قوله: "المعدوم" بالواو وهي الرواية المشهورة، وقال الخطابي: الصواب المعدم وقد ذكرناه وذكر البخاري في هذا الحديث في كتاب التفسير "وتصدق الحديث" وذكره مسلم هاهنا وهو من أشرف خصاله، وذكر في السيرة زيادة أخرى: "إنك لتؤدي الأمانة" ذكرها من حديث عمرو بن شرحبيل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فكان يكتب الكتاب العبراني ويكتب من الإنجيل بالعبرانية" وفي رواية يونس ومعمر: "ويكتب من الإنجيل بالعربية" ولمسلم: "وكان يكتب الكتاب العربي" والجميع صحيح; لأن ورقة كان يعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني، كما كان يكتب الكتاب العربي لتمكنه من الكتابين واللسانين، وقال الداودي: يكتب من الإنجيل الذي هو بالعبرانية بهذا الكتاب العربي فنسبه إلى العبرانية إذ بها كان يتكلم عيسى عليه السلام قلت: لا نسلم أن الإنجيل كان عبرانيا، ولا يفهم من الحديث ذلك، والذي يفهم من الحديث أنه كان يعلم الكتابة العبرانية ويكتب من الإنجيل بالعبرانية، ولا يلزم من ذلك أن يكون الإنجيل عبرانيا; لأنه يجوز أن يكون سريانيا، وكان ورقة ينقل منه باللغة العبرانية، وهذا يدل على علمه بالألسن الثلاثة، وتمكنه فيها حيث ينقل السريانية إلى العبرانية.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يا ابن عم" كذا وقع هاهنا وهو الصحيح; لأنه ابن عمها، ووقع في رواية لمسلم: "يا عم" وقال بعضهم: هذا وهم; لأنه وإن كان صحيحا لإرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين فتعين الحمل على الحقيقة قلت: هذا ليس بوهم بل هو صحيح; لأنها سمته عمها مجازا، وهذا عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بيا عم احتراما له ورفعا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها يا ابن عم فعلى هذا تكون تكلمت باللفظين، وكون القصة متحدة لا تنافي التكلم باللفظين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الذي نزل الله" وفي رواية الكشميهني: "أنزل الله" وفي التفسير: "أنزل" على ما لم يسم فاعله والفرق بين أنزل ونزل أن الأول يستعمل في إنزال الشيء دفعة واحدة والثاني: يستعمل في تنزيل الشيء [ ص: 55 ] دفعة بعد دفعة وقتا بعد وقت ولهذا قال الله تعالى في حق القرآن: نـزل عليك الكتاب بالحق وفي حق التوراة والإنجيل: وأنـزل التوراة والإنجيل فإن قلت: قال: إنا أنـزلناه في ليلة القدر قلت: معناه أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا دفعة واحدة، ثم نزل على الرسول عليه السلام من بيت العزة في عشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث.

                                                                                                                                                                                  قوله: "على موسى عليه السلام" هكذا هو في الصحيحين، وجاء في غير الصحيحين نزل الله على عيسى وكلاهما صحيح، أما عيسى فلقرب زمنه وأما موسى فلأن كتابه مشتمل على الأحكام بخلاف كتاب عيسى فإنه كان أمثالا ومواعظ، ولم يكن فيه حكم، وقال بعضهم: لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد النبي عليه الصلاة والسلام بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه قلت: هذا بعيد لأن ورقة ما كان يعلم بوقوع النقمة على أبي جهل في ذلك الوقت كما كان في علمه بوقوع النقمة على فرعون على يد موسى عليه السلام حتى يذكر موسى ويترك عيسى، وقال آخرون: ذكر موسى تحقيقا للرسالة; لأن نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته، وقال السهيلي: إن ورقة كان تنصر والنصارى لا يقولون في عيسى إنه نبي يأتيه جبريل عليه السلام، وإنما يقولون: إن أقنوما من الأقانيم الثلاثة اللاهوتية حل بناسوت المسيح على اختلاف بينهم في ذلك الحلول وهو أقنوم الكلمة والكلمة عندهم عبارة عن العلم فلذلك كان المسيح في زعمهم يعلم الغيب ويخبر بما في الغد في زعمهم الكاذب فلما كان هذا مذهب النصارى عدل عن ذكر عيسى إلى ذكر موسى لعلمه ولاعتقاده أن جبريل عليه السلام كان ينزل على موسى عليه السلام ثم قال: لكن ورقة قد ثبت إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم قلت: لا يحتاج إلى هذا التمحل فإنه روى عنه مرة ناموس موسى، ومرة ناموس عيسى فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة بإسناد حسن إلى هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصة: " إن خديجة أولا أتت ابن عمها ورقة فأخبرته فقال: لئن كنت صدقت إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل " وروى الزبير بن بكار أيضا من طريق عبد الله بن معاذ، عن الزهري في هذه القصة: " أن ورقة قال: ناموس عيسى " وعبد الله بن معاذ ضعيف، فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها: ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي عليه الصلاة والسلام له قال له: ناموس موسى، والكل صحيح فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يا ليتني فيها جذعا" هكذا رواية الجمهور، وفي رواية الأصيلي جذع بالرفع، وكذا وقع لابن ماهان بالرفع في صحيح مسلم، والأكثرون فيه أيضا على النصب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إذ يخرجك" وفي رواية للبخاري في التعبير: "حين يخرجك"، قوله: "إلا عودي" وذكر البخاري في التفسير: "إلا أوذي" من الأذى وهو رواية يونس، قوله: "وإن يدركني يومك" وزاد في رواية يونس: "حيا" وفي سيرة ابن إسحاق: "إن أدركت ذلك اليوم" يعني يوم الإخراج، وفي سيرة ابن هشام: ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه يقبل يافوخه.

                                                                                                                                                                                  وقيل: ما في البخاري هو القياس لأن ورقة سابق بالوجود والسابق هو الذي يدركه من يأتي بعده كما جاء: "أشقى الناس من أدركته الساعة وهو حي" ثم قيل: ولرواية ابن إسحاق وجه لأن المعنى إن أر ذلك اليوم فسمى رؤيته إدراكا، وفي التنزيل: لا تدركه الأبصار أي لا تراه على أحد القولين قلت: هذا تأويل بعيد فلا يحتاج إليه لأنه لا فرق بين إن يدركني، وبين إن أدركت في المعنى لأن إن تقرب معنى الماضي من المستقبل، وهو ظاهر لا يخفى.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وفتر الوحي" وزاد البخاري بعد هذا في التعبير: " وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي عليه الصلاة والسلام فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه حتى يرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك ".

                                                                                                                                                                                  وهذا من بلاغات معمر ولم يسنده ولا ذكر راويه ولا أنه قاله ولا يعرف هذا من النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه قد يحمل على أنه كان أول الأمر قبل رؤية جبريل عليه الصلاة والسلام كما جاء مبينا، عن ابن إسحاق، عن بعضهم أو أنه فعل ذلك لما أحرجه تكذيب قومه كما قال تعالى: فلعلك باخع نفسك أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب فخشي أن يكون عقوبة من ربه ففعل ذلك بنفسه، ولم يرد بعد شرع بالنهي عن [ ص: 56 ] ذلك فيعترض به ونحو هذا فرار يونس عليه السلام حين تكذيب قومه، والله أعلم.

                                                                                                                                                                                  (بيان الصرف)

                                                                                                                                                                                  قوله: "يحيى" فعل مضارع في الأصل فوضع علما، قوله: "بكير" تصغير بكر بفتح الباء وهو من الإبل بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة بمنزلة الفتات، والليث: اسم من أسماء الأسد والجمع الليوث، وفلان أليث من فلان أي أشد وأشجع، وعقيل: تصغير عقل المعروف أو عقل بمعنى الدية، وشهاب: بكسر الشين المعجمة شعلة نار ساطعة، والجمع شهب وشهبان بالضم عن الأخفش مثال حساب وحسبان، وشهبان بالكسر عن غيره، وأن فلانا لشهاب حرب إذا كان ماضيا فيها شجاعا وجمعه شهبان، والشهاب بالفتح اللبن الممزوج بالماء، وعروة في الأصل عروة الكوز والقميص والعروة أيضا من الشجر الذي لا يزال باقيا في الأرض لا يذهب وجمعه عرى، والعروة الأسد أيضا، وبه سمي الرجل عروة، والزبير: تصغير زبر وهو العقل، والزبر الزجر والمنع أيضا، والزبر الكتابة، وعائشة: من العيش وهو ظاهر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بدئ به" على صيغة المجهول، قوله: "الرؤيا" مصدر كالرجعى مصدر رجع ويختص برؤيا المنام كما اختص الرأي بالقلب والرؤية بالعين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم حبب" على صيغة المجهول أيضا والخلاء مصدر بمعنى الخلوة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فيتحنث" من باب التفعل وهو للتكلف هاهنا كتشجع إذا استعمل الشجاعة وكلف نفسه إياها لتحصل وكذلك، قوله: "وهو التعبد" من هذا الباب وهو استعمال العبادة لتكليف نفسه إياه وكذلك قوله: "ويتزود" من هذا الباب وكذلك، قوله: "تنصر" من هذا الباب، قوله: "أو مخرجي" أصله مخرجون جمع اسم الفاعل فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت نونه للإضافة فانقلبت واوه ياء وأدغمت في ياء المتكلم.

                                                                                                                                                                                  (بيان الإعراب) قوله: "أول ما بدئ" كلام إضافي مرفوع بالابتداء وخبره، قوله: "الرؤيا الصالحة" وكلمة من في قوله: "من الوحي" لبيان الجنس قاله القزاز كأنها قالت من جنس الوحي، وليست الرؤيا من الوحي حتى تكون للتبعيض، وهذا مردود بل يجوز أن يكون للتبعيض لأن الرؤيا من الوحي كما جاء في الحديث: "إنها جزء من النبوة"، قوله: "الصالحة" صفة للرؤيا إما صفة موضحة للرؤيا; لأن غير الصالحة تسمى بالحلم كما ورد: "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان" وإما مخصصة أي الرؤيا الصالحة لا الرؤيا السيئة أو لا الكاذبة المسماة بأضغاث الأحلام، والصلاح إما باعتبار صورتها، وإما باعتبار تعبيرها قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى الرؤيا الصالحة والحسنة حسن ظاهرها، ويحتمل أن المراد صحتها، ورؤيا السوء تحتمل الوجهين أيضا سوء الظاهر وسوء التأويل.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في النوم" لزيادة الإيضاح والبيان وإن كانت الرؤيا مخصوصة بالنوم كما ذكرنا عن قريب، أو ذكر لدفع وهم من يتوهم أن الرؤيا تطلق على رؤية العين.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وكان لا يرى رؤيا" بلا تنوين لأنه كحبلى، قوله: "مثل" منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف والتقدير إلا جاءت مجيئا مثل فلق الصبح أي شبيهة لضياء الصبح، وقال أكثر الشراح: إنه منصوب على الحال وما قلنا أولى لأن الحال مقيدة، وما ذكرنا مطلق فهو أولى على ما يخفى على النابغة من التراكيب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الخلاء" مرفوع بقوله: "حبب" لأنه فاعل ناب عن المفعول والنكتة فيه التنبيه على أن ذلك من وحي الإلهام، وليس من باعث البشر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حراء" بالتنوين والجر بالإضافة كما ذكرنا، قوله: "فيتحنث" عطف على قوله: "يخلو" ولا يخلو عن معنى السببية لأن اختلاءه هو السبب للتحنث، قوله: "فيه" أي في الغار محله النصب على الحال، قوله: "وهو التعبد" الضمير يرجع إلى التحنث الذي يدل عليه، قوله: "فيتحنث" كما في قوله تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى أي العدل أقرب للتقوى، وهذه جملة معترضة بين قوله: "فيتحنث فيه" وبين قوله: "الليالي" لأن الليالي منصوب على الظرف والعامل فيه "يتحنث" لا قوله: "التعبد" وإلا يفسد المعنى فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل هو مطلق التعبد، وأشار الطيبي بأن هذه الجملة مدرجة من قول الزهري لأن مثل ذلك من دأبه، ويدل عليه ما رواه البخاري في التفسير من طريق يونس، عن الزهري، قوله: "ذوات العدد" منصوب لأنه صفة الليالي، وعلامة النصب كسر التاء وأراد بها الليالي مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، قال الطيبي: وذوات العدد عبارة عن القلة نحو: دراهم معدودة وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بها الكثرة إذ الكثير يحتاج إلى العدد لا القليل وهو المناسب للمقام قلت: أصل مدة الخلوة معلوم وكان شهرا وهو شهر رمضان كما رواه ابن إسحاق في السيرة، وإنما أبهمت عائشة رضي الله عنها العدد هاهنا لاختلافه بالنسبة إلى المدة التي يتخللها مجيئه إلى أهله، قوله: "ويتزود" بالرفع عطف على قوله: "يتحنث" [ ص: 57 ] وليس هو بعطف على "أن ينزع" لفساد المعنى، قوله: "لذلك" أي للخلو أو للتعبد، قوله: "لمثلها" أي لمثل الليالي، قوله: "حتى جاءه الحق" كلمة حتى هاهنا للغاية، وهاهنا محذوف، والتقدير حتى جاءه الأمر الحق وهو الوحي الكريم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فجاءه الملك" الألف واللام فيه للعهد أي جبريل عليه السلام، وهذه الفاء هاهنا الفاء التفسيرية نحو قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم إذ القتل نفس التوبة على أحد التفاسير، وتسمى بالفاء التفصيلية أيضا لأن مجيء الملك تفصيل للمجمل الذي هو مجيء الحق، ولا شك أن المفصل نفس المجمل، ولا يقال: إنه تفسير الشيء بنفسه لأن التفسير وإن كان عين المفسر به من جهة الإجمال فهو غيره من جهة التفصيل، ولا يجوز أن تكون الفاء هنا الفاء التعقيبية لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى يعقب به بل مجيء الملك هو نفس الوحي هكذا قالت الشراح، وفيه بحث لأنه يجوز أن يكون المراد من قوله: "حتى جاءه الحق" الإلهام أو سماع هاتف، ويكون مجيء الملك بعد ذلك بالوحي فحينئذ يصح أن تكون الفاء للتعقيب، قوله: "فقال اقرأ" الفاء هنا للتعقيب، قوله: "ما أنا بقارئ" قالت الشراح كلمة ما نافية واسمها هو قوله: "أنا" وخبرها هو قوله: "بقارئ" ثم الباء فيه زائدة لتأكيد النفي أي ما أحسن القراءة وغلطوا من قال: إنها استفهامية لدخول الباء في الخبر وهي لا تدخل على ما الاستفهامية ومنعوا استنادهم بما جاء في رواية: "ما أقرأ" بقولهم: يجوز أن يكون ما هاهنا أيضا نافية قلت: تغليطهم ومنعهم ممنوعان أما قولهم: إن الباء لا تدخل على ما الاستفهامية فهو ممنوع لأن الأخفش جوز ذلك، أما قولهم: يجوز أن يكون ما في رواية ما أقرأ نافية فاحتمال بعيد بل الظاهر أنها استفهامية تدل على ذلك رواية أبي الأسود في مغازيه، عن عروة أنه قال: "كيف أقرأ" والعجب من شارح أنه ذكر هذه الرواية في شرحه وهي تصرح بأن ما استفهامية ثم غلط من قال: إنها استفهامية.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الجهد" بالرفع والنصب، أما الرفع فعلى كونه فاعلا لبلغ يعني بلغ الجهد مبلغه فحذف مبلغه، وأما النصب فعلى كونه مفعولا والفاعل محذوف يجوز أن يكون التقدير بلغ مني الجهد الملك أو بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي وقال التوربشتي: لا أرى الذي يروي بنصب الدال إلا قد وهم فيه أو جوزه بطريق الاحتمال فإنه إذا نصب الدال عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوته في ضغطه وجهد جهده بحيث لم يبق فيه مزيد وقال الكرماني: وهذا قول غير سديد فإن البنية البشرية لا تستدعي استنفاد القوة الملكية لا سيما في مبدأ الأمر وقد دلت القصة على أنه اشمأز من ذلك، وتداخله الرعب، وقال الطيبي: لا شك أن جبريل عليه السلام في حالة الغط لم يكن على صورته الحقيقية التي تجلى بها عند سدرة المنتهى وعندما رآه مستويا على الكرسي فيكون استفراغ جهده بحسب صورته التي تجلى له وغطه وإذا صحت الرواية اضمحل الاستبعاد، قوله: "فرجع بها" أي بالآيات وهي قوله: اقرأ باسم ربك إلى آخرهن وقال بعضهم: أي بالآيات أو بالقصة فقوله: "أو بالقصة" لا وجه له أصلا على ما لا يخفى، قوله: "يرجف فؤاده" جملة في محل النصب على الحال وقد علم أن المضارع إذا كان مثبتا ووقع حالا لا يحتاج إلى الواو، قوله: "وأخبرها الخبر" جملة حالية أيضا، قوله: "لقد خشيت" اللام فيه جواب القسم المحذوف أي والله لقد خشيت وهو مقول قال، قوله: "فانطلقت به خديجة" أي انطلقا إلى ورقة لأن الفعل اللازم إذا عدي بالباء يلزم منه المصاحبة فيلزم ذهابهما بخلاف ما عدي بالهمزة نحو أذهبته فإنه لا يلزم ذلك، قوله: "ابن عم خديجة" قال النووي: هو بنصب ابن، ويكتب بالألف لأنه بدل من ورقة فإنه ابن عم خديجة لأنها بنت خويلد بن أسد وهو ورقة بن نوفل بن أسد، ولا يجوز جر ابن ولا كتابته بغير الألف لأنه يصير صفة لعبد العزى فيكون عبد العزى ابن عم خديجة، وهو باطل.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: كتابة الألف وعدمها لا تتعلق بكونه متعلقا بورقة أو بعبد العزى بل علة إثبات الألف عدم وقوعه بين العلمين لأن العم ليس علما ثم الحكم بكونه بدلا غير لازم لجواز أن يكون صفة أو بيانا له قلت: ما ادعى النووي لزوم البدل حتى يخدش في كلامه فإنه وجه ذكره، ومثل ذلك عبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن علي ابن الحنفية، والمقداد بن عمرو ابن الأسود، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، وأبو عبد الله بن يزيد ابن ماجه فبحينة أم عبد الله، والحنفية أم محمد، والأسود ليس بجد المقداد، وإنما هو قد تبناه وعلية أم إسماعيل، وراهويه لقب إبراهيم وماجه لقب يزيد، وكل ذلك يكتب بالألف ويعرب بإعراب الأول، ومثل ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بتنوين أبي، ويكتب ابن سلول بالألف ويعرب إعراب عبد الله في الأصح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ما شاء [ ص: 58 ] الله" كلمة ما موصولة، وشاء صلتها والعائد محذوف، وأن مصدرية مفعول شاء والتقدير ما شاء الله كتابته.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قد عمي" حال، قوله: "اسمع من ابن أخيك" إنما أطلقت الأخوة لأن الأب الثالث لورقة هو الأخ للأب الرابع لرسول الله عليه الصلاة والسلام كأنه قال: ابن أخي جدك على سبيل الإضمار، وفي ذكر لفظ الأخ استعطاف أو جعلته عما لرسول الله عليه الصلاة والسلام أيضا احتراما له على سبيل التجوز.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ماذا ترى" في إعرابه أوجه:

                                                                                                                                                                                  الأول: أن يكون ما استفهاما وذا إشارة نحو ماذا التواني ماذا الوقوف.

                                                                                                                                                                                  الثاني: أن يكون ما استفهاما وذا موصولة كما في قول لبيد رضي الله عنه:

                                                                                                                                                                                  ألا تسألان المرء ماذا يحاول.

                                                                                                                                                                                  فما مبتدأ بدليل إبداله المرفوع منها، وذا موصول بدليل افتقاره للجملة بعده وهو أرجح الوجهين في ويسألونك ماذا ينفقون

                                                                                                                                                                                  الثالث: أن يكون ماذا كله استفهاما على التركيب كقولك لماذا جئت.

                                                                                                                                                                                  الرابع: أن يكون ماذا كله اسم جنس بمعنى شيء أو موصولا.

                                                                                                                                                                                  الخامس: أن يكون ما زائدة وذا للإشارة.

                                                                                                                                                                                  السادس: أن يكون ما استفهاما وذا زائدة أجازه جماعة منهم ابن مالك في نحو ماذا صنعت، قوله: "يا ليتني فيها" أي في أيام النبوة أو في الدعوة، وقال أبو البقاء العكبري: المنادى هاهنا محذوف تقديره يا محمد ليتني كنت حيا نحو يا ليتني كنت معهم تقديره يا قوم ليتني والأصل فيه أن يا إذا وليها ما لا يصلح للنداء كالفعل في نحو (ألا يا اسجدوا) والحرف في نحو يا ليتني، والجملة الاسمية نحو يا لعنة الله والأقوام كلهم، فقيل: هي للنداء والمنادى محذوف وقيل: لمجرد التنبيه لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها، وقال ابن مالك في الشواهد ظن أكثر الناس أن يا التي تليها ليت حرف نداء، والمنادى محذوف وهو عندي ضعيف; لأن قائل ليتني قد يكون وحده فلا يكون معه منادى كقول مريم: يا ليتني مت قبل هذا وكأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه مستعملا فيه ثبوته كحذف المنادى قبل أمر أو دعاء فإنه يجوز حذفه لكثرة ثبوته ثمة فمن ثبوته قبل الأمر يا يحيى خذ الكتاب وقبل الدعاء يا موسى ادع لنا ربك ومن حذفه قبل الأمر (ألا يا اسجدوا) في قراءة الكسائي أي يا هؤلاء اسجدوا وقبل الدعاء قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                  ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر

                                                                                                                                                                                  أي يا دار اسلمي فحسن حذف المنادى قبلها اعتياد ثبوته بخلاف ليت فإن المنادى لم تستعمله العرب قبلها ثابتا فادعاء حذفه باطل فتعين كون يا هذه لمجرد التنبيه مثل ألا في نحو:


                                                                                                                                                                                  ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة



                                                                                                                                                                                  قلت: دعواه ببطلان الحذف غير سديدة; لأن دليله لم يساعده أما قوله لأن قائل ليتني قد يكون وحده إلخ. فظاهر الفساد لأنه يجوز أن يقدر فيه نفسي فيخاطب نفسه على سبيل التجريد فالتقدير في الآية يا نفسي ليتني مت قبل هذا، وهاهنا أيضا يكون التقدير يا نفسي ليتني كنت فيها جذعا، وأما قوله: ولأن الشيء إنما يجوز حذفه فظاهر البعد لأنه لا ملازمة بين جواز الحذف، وبين ثبوت استعماله فيه فافهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "جذعا" بالنصب والرفع، وجه النصب أن يكون خبر كان المقدر تقديره ليتني أكون جذعا وإليه مال الكسائي: وقال القاضي عياض: هو منصوب على الحال وهو منقول عن النحاة البصرية، وخبر ليت حينئذ قوله: "فيها" والتقدير ليتني كائن فيها حال شبيبة وصحة وقوة لنصرتك، وقال الكوفيون: ليت أعملت عمل تمنيت فنصب الجزأين كما في قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                  يا ليت أيام الصبا رواجعا



                                                                                                                                                                                  وجه الرفع ظاهر وهو كونه خبر ليت، قوله: "إذ يخرجك قومك" قال ابن مالك: استعمل فيه إذ في المستقبل كإذا وهو استعمال صحيح وغفل عنه أكثر النحويين ومنه قوله تعالى: وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وقوله تعالى: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب وقوله: فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم قال: وقد استعمل كل منهما في موضع الآخر، ومن استعمال إذا موضع إذ نحو قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها لأن الانفضاض واقع فيما مضى، وقال بعضهم هذا الذي ذكره ابن مالك قد أقره عليه غير واحد، وتعقبه شيخنا بأن النحاة لم يغفلوا عنه بل منعوا وروده وأولوا ما ظاهره ذلك، وقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك، وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى لما يبتنى عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك قلت: بل غفلوا عنه لأن التنبيه على مثل [ ص: 59 ] هذا ليس من وظيفتهم وإنما هو من وظيفة أهل المعاني، وقوله: بل منعوا وروده كيف يصح وقد ورد في القرآن في غير ما موضع، وقوله: وأولوا ما ظاهره ينافي قوله منعوا وروده وكيف نسب التأويل إليهم، وهو ليس إليهم وإنما هو إلى أهل المعاني، قوله: ومجازهم أولى إلخ بعيد عن الأولوية لأن التعليل الذي علله لهم هو عين ما عله ابن مالك في قوله: استعمل إذ في المستقبل كإذا وبالعكس فمن أين الأولوية.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أو مخرجي هم" جملة اسمية لأن هم مبتدأ ومخرجي مقدما خبره ولا يجوز العكس لأن مخرجي نكرة فإن إضافته لفظية إذ هو اسم فاعل بمعنى الاستقبال، وقد قلنا: إن أصله مخرجون جمع مخرج من الإخراج فلما أضيف إلى ياء المتكلم سقطت النون وأدغمت الياء في الياء فصار مخرجي بتشديد الياء، ويجوز أن يكون مخرجي مبتدأ وهم فاعلا سد مسد الخبر على لغة أكلوني البراغيث ولو روي مخرجي بسكون الياء أو فتحها مخففة على أنه مفرد يصح جعله مبتدأ، وما بعده فاعلا سد مسد الخبر كما تقول: أو مخرجي بنو فلان لاعتماده على حرف الاستفهام لقوله عليه الصلاة والسلام: أحي والداك، والمنفصل من الضمائر يجري مجرى الظاهر، ومنه قول الشاعر:


                                                                                                                                                                                  أمنجز أنتم وعدا وثقت به أم اقتفيتم جميعا نهج عرقوب

                                                                                                                                                                                  وقال ابن مالك: الأصل في أمثال هذا تقديم حرف العطف على الهمزة كما تقدم على غيرها من أدوات الاستفهام نحو وكيف تكفرون و فأنى تؤفكون و فأين تذهبون والأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كهذا المثال، وكان ينبغي أن يقال وأمخرجي فالواو للعطف على ما قبلها من الجمل والهمزة للاستفهام لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، وهي معطوفة على ما قبلها من الجمل، والعاطف لا يتقدم عليه جزء ما عطف عليه، ولكن خصت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على أنه أصل أدوات الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد خولف هذا الأصل في غير الهمزة فأرادوا التنبيه عليه، وكانت الهمزة بذلك أولى لأصالتها وقد غفل الزمخشري عن هذا المعنى فادعى أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة معطوفا عليها بالعاطف ما بعده قلت: لم يغفل الزمخشري عن ذلك وإنما ادعى هذه الدعوى لدقة نظر فيه وذلك لأن قوله: "أو مخرجي هم" جواب ورد على قوله: "إذ يخرجك" على سبيل الاستبعاد والتعجب فكيف يجوز أن يقدر فيه تقديم حرف العطف على الهمزة ولأن هذه إنشائية وتلك خبرية فلأجل ذلك قدمت الهمزة على أن أصلها أمخرجي هم بدون حرف العطف ولكن لما أريد مزيد استبعاد وتعجب جيء بحرف العطف على مقدر تقديره أمعادي هم ومخرجي هم، وأما إنكار الحذف في مثل هذه المواضع فمستبعد لأن مثل هذه الحذوف من حلية البلاغة لا سيما حيث الإمارة قائمة عليها، والدليل عليها هنا وجود العاطف ولا يجوز العطف على المذكور فيجب أن يقدر بعد الهمزة ما يوافق المعطوف تقريرا للاستبعاد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وإن يدركني" كلمة إن للشرط ويدركني مجزوم بها ويومك مرفوع لأنه فاعل يدركني والمضاف فيه محذوف أي يوم إخراجك أو يوم انتشار نبوتك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أنصرك" مجزوم لأنه جواب الشرط ونصرا منصوب على المصدرية، ومؤزرا صفته، قوله: "ورقة" بالرفع فاعل لقوله: "لم ينشب" وكلمة أن في قوله: "أن توفي" مفتوحة مخففة وهي بدل اشتمال من ورقة أي لم تلبث وفاته.

                                                                                                                                                                                  (بيان المعاني) قوله: "الصالحة" صفة موضحة عند النحاة وصفة فارقة عند أهل المعاني، وقوله: "في النوم" من قبيل أمس الدابر كان يوما عظيما; لأنه ليس للكشف ولا للتخصيص ولا للمدح ولا للذم فتعين أن يكون للتأكيد، قوله: "ما أنا بقارئ" قيل: إن مثل هذا يفيد الاختصاص قلت: قال الطيبي: مثل هذا التركيب لا يلزم أن يفيد الاختصاص بل قد يكون للتقوية والتوكيد أي لست بقارئ البتة لا محالة وهو الظاهر هاهنا والمناسب للمقام، قوله: اقرأ باسم ربك قدم الفعل الذي هو متعلق الباء وإن كان تأخيره للاختصاص كما في قوله عز وجل: بسم الله مجراها ومرساها لكون الأمر بالقراءة أهم وتقديم الفعل أوقع لذلك، وقوله: " اقرأ " أمر بإيجاد القراءة مطلقا لا تختص بمقروء دون مقروء، وقوله: "باسم ربك" حال أي اقرأ مفتتحا " باسم ربك " أي: قل بسم الله الرحمن الرحيم ثم اقرأ، وقال الطيبي: وهذا يدل على أن البسملة مأمور بقراءتها في ابتداء كل قراءة فتكون قراءتها مأمورة في ابتداء هذه السورة أيضا قلت: هذا التقدير خلاف الظاهر فإن جبريل عليه الصلاة والسلام لم يقل له إلا أن يقول: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم قال الواحدي: [ ص: 60 ] أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الفضل التاجر قال: أخبرنا محمد بن الحسن الحافظ، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن صالح، قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني الليث قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي أنه سمع بعض علمائهم يقول: كان أول ما نزل الله عز وجل على رسوله اقرأ باسم ربك الذي إلى قوله: ما لم يعلم قال: هذا صدر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء ثم أنزل آخرها بعد ذلك، وما شاء الله ولئن سلمنا أن البسملة مأمور بها في القراءة فلا يلزم من ذلك الوجوب لأنه يجوز أن يكون الأمر على وجه الندب والاستحباب لأجل التبرك في ابتداء القراءة، قوله: ربك الذي خلق وصف مناسب مشعر بعلية الحكم بالقراءة والإطلاق في خلق أولا على منوال يعطي ويمنع وجعله توطئة لقوله: خلق الإنسان إيذانا بأن الإنسان أشرف المخلوقات ثم الامتنان عليه بقوله: علم الإنسان يدل على أن العلم أجل النعم، قوله: علم بالقلم إشارة إلى العلم التعليمي و علم الإنسان ما لم يعلم إشارة إلى العلم اللدني.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لقد خشيت على نفسي" أشار في تأكيد كلامه باللام وقد إلى تمكن الخشية في قلبه وخوفه على نفسه حتى روى صاحب الغريبين في باب العين والدال والميم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله عنها أظن أنه عرض لي شبه جنون فقالت: "كلا إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل" انتهى، فأجابت خديجة أيضا بكلام فيه قسم وتأكيد بأن واللام في الخبر في صورة الجملة الاسمية وذلك إزالة لحيرته ودهشته وذلك من قبيل قوله تعالى: وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء لأن قوله: وما أبرئ ما أزكي نفسي أورث المخاطب حيرة في أنه كيف لا ينزه نفسه، عن السوء مع كونها مطمئنة زكية فأزال تلك الحيرة بقوله: إن النفس لأمارة بالسوء في جميع الأشخاص أي بالشهوة والرذيلة إلا من عصمه الله تعالى وكذلك قوله تعالى: يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم وقوله تعالى: وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأمثال ذلك في التنزيل كثيرة، وكل هذا من إخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر قوله: "يا ليتني" كلمة ليت للتمني تتعلق بالمستحيل غالبا وبالممكن قليلا، وتمنى ورقة أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن إلى نصره، وإنما قال ذلك على وجه التحسر لأنه كان يتحقق أنه لا يعود شابا، قوله: "أو مخرجي هم" قد ذكرنا أن الهمزة فيه للاستفهام وإنما كان ذلك على وجه الإنكار والتفجع لذلك والتألم منه لأنه استبعد إخراجه من غير سبب لأنها حرم الله تعالى وبلد أبيه إسماعيل ولم يكن منه فيما مضى ولا فيما يأتي سبب يقتضي ذلك بل كان منه أنواع المحاسن والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله ما هو لائق بمحله والعادة أن كل ما أتى للنفوس بغير ما تحب وتألف، وإن كان ممن يحب ويعتقد يعافه ويطرده وقد قال الله تعالى حكاية عنهم فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون

                                                                                                                                                                                  (بيان البيان)، قوله: "مثل فلق الصبح" فيه تشبيه وقد علم أن أداة التشبيه الكاف وكأن ومثل ونحو وما يشتق من مثل وشبه ونحوهما والمشبه هاهنا الرؤيا، والمشبه به فلق الصبح ووجه الشبه هو الظهور البين الواضح الذي لا يشك فيه، قوله: "يا ليتني فيها جذعا" فيه استعارة الحيوان للإنسان ومبناه على التشبيه حيث أطلق الجذع الذي هو الحيوان المنتهي إلى القوة وأراد به الشباب الذي فيه قوة الرجل وتمكنه من الأمور.

                                                                                                                                                                                  (الأسئلة والأجوبة) وهي على وجوه:

                                                                                                                                                                                  الأول: ما قيل لم ابتدئ عليه الصلاة والسلام بالرؤيا أولا وأجيب بأنه إنما ابتدئ بها لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة ولا تحتملها القوى البشرية فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا مع سماع الصوت، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة، ورؤية الضوء ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك في اليقظة وكشف له عن الحقيقة كرامة له.

                                                                                                                                                                                  الثاني: ما قيل ما حقيقة الرؤيا الصادقة أجيب بأن الله تعالى يخلق في قلب النائم أو في حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه فربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام وربما جعل ما رآه علما على أمور أخر يخلقها الله في ثاني الحال، أو كان قد خلقها فتقع تلك كما جعل الله تعالى الغيم علامة للمطر.

                                                                                                                                                                                  الثالث: ما قيل لم حبب إليه الخلوة أجيب بأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكر والبشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فحبب إليه الخلوة لينقطع عن مخالطة البشر فينسى المألوفات من عادته فيجد الوحي منه مرادا سهلا لا حزنا ولمثل هذا المعنى كانت مطالبة الملك له بالقراءة والضغطة ويقال: كان ذلك اعتبارا أو فكرة [ ص: 61 ] كاعتبار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لمناجاة ربه والضراعة إليه ليريه السبيل إلى عبادته على صحة إرادته.

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي: حبب العزلة إليه لأن فيها سكون القلب وهي معينة على التفكر وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه وهي من جملة المقدمات التي أرهصت لنبوته وجعلت مبادي لظهورها.

                                                                                                                                                                                  الرابع: ما قيل إن عبادته عليه الصلاة والسلام قبل البعث هل كانت شريعة أحد أم لا فيه قولان لأهل العلم، وعزي الثاني إلى الجمهور إنما كان يتعبد بما يلقى إليه من نور المعرفة واختار ابن الحاجب والبيضاوي أنه كلف التعبد بشرع واختلف القائلون بالثاني هل ينتفي ذلك عنه عقلا أم نقلا فقيل: بالأول لأن في ذلك تنفيرا عنه ومن كان تابعا فبعيد منه أن يكون متبوعا، وهذا خطأ منه كما قال المازري فالعقل لا يحيل ذلك، وقال حذاق أهل السنة بالثاني لأنه لو فعل لنقل لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله ولافتخر به أهل تلك الشريعة والقائل بالأول اختلف فيه على ثمانية أقوال:

                                                                                                                                                                                  أحدها: أنه كان يتعبد بشريعة إبراهيم.

                                                                                                                                                                                  الثاني: بشريعة موسى، الثالث: بشريعة عيسى، الرابع: بشريعة نوح حكاه الآمدي، الخامس: بشريعة آدم حكي عن ابن برهان، السادس: أنه كان يتعبد بشريعة من قبله من غير تعيين، السابع: أن جميع الشرائع شرع له حكاه بعض شراح المحصول من المالكية. الثامن: الوقف في ذلك وهو مذهب أبي المعالي الإمام واختاره الآمدي فإن قلت: قد قال الله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم قلت: المراد في توحيد الله وصفاته أو المراد اتباعه في المناسك كما علم جبريل عليه السلام إبراهيم عليه السلام.

                                                                                                                                                                                  الخامس: ما قيل ما كان صفة تعبده؟ أجيب بأن ذلك كان بالتفكر والاعتبار كاعتبار أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  السادس: ما قيل هل كلف النبي بعد النبوة بشرع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ أجيب بأن الأصوليين اختلفوا فيه، والأكثرون على المنع، واختاره الإمام والآمدي وغيرهما، وقيل: بل كان مأمورا بأخذ الأحكام من كتبهم ويعبر عنه بأن شرع من قبلنا شرع لنا، واختاره ابن الحاجب وللشافعي فيه قولان: أصحهما الأول، واختاره الجمهور.

                                                                                                                                                                                  السابع: ما قيل متى كان نزول الملك عليه؟ أجيب بأن ابن سعد روى بإسناده أن نزول الملك عليه بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من رمضان ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن أربعين سنة.

                                                                                                                                                                                  الثامن: ما قيل ما الحكمة في غطه ثلاث مرات؟ قلت: ليظهر في ذلك الشدة والاجتهاد في الأمور، وأن يأخذ الكتاب بقوة ويترك الأناة فإنه أمر ليس بالهوينا، وكرره ثلاثا مبالغة في التثبت.

                                                                                                                                                                                  التاسع: ما قيل ما الحكمة فيه على رواية ابن إسحاق أن الغط كان في النوم؟ أجيب بأنه يكون في تلك الغطات الثلاث من التأويل بثلاث شدائد يبتلى بها أولا، ثم يأتي الفرح والسرور.

                                                                                                                                                                                  الأولى: ما لقيه عليه الصلاة والسلام هو وأصحابه من شدة الجوع في الشعب حتى تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم، والثانية: ما لقوا من الخوف والإيعاد بالقتل، والثالثة: ما لقيه عليه الصلاة والسلام من الإجلاء عن الوطن والهجرة من حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

                                                                                                                                                                                  العاشر: ما قيل ما الخشية التي خشيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: لقد خشيت على نفسي؟ أجيب بأن العلماء اختلفوا فيها على اثني عشر قولا: الأول: أنه خاف من الجنون، وأن يكون ما رآه من أمر الكهانة، وجاء ذلك في عدة طرق، وأبطله أبو بكر بن العربي، وأنه لجدير بالإبطال. الثاني: خاف أن يكون هاجسا وهو الخاطر بالبال، وهو أن يحدث نفسه ويجد في صدره مثل الوسواس، وأبطلوا هذا أيضا لأنه لا يستقر، وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة، الثالث: خاف من الموت من شدة الرعب، الرابع: خاف أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يطيق حمل أعباء الوحي، الخامس: العجز عن النظر إلى الملك وخاف أن تزهق نفسه وينخلع قلبه لشدة ما لقيه عند لقائه، السادس: خاف من عدم الصبر على أذى قومه، السابع: خاف من قومه أن يقتلوه حكاه السهيلي، ولا غرو أنه بشر يخشى من القتل والأذى ثم يهون عليه الصبر في ذات الله تعالى كل خشية، ويجلب إلى قلبه كل شجاعة وقوة. الثامن: خاف مفارقة الوطن بسبب ذلك، التاسع: ما ذهب إليه أبو بكر الإسماعيلي أنها كانت منه قبل أن يحصل له العلم الضروري بأن الذي جاءه ملك من عند الله تعالى، وكان أشق شيء عليه أن يقال عنه شيء.

                                                                                                                                                                                  العاشر: خاف من وقوع الناس فيه، الحادي عشر: ما قاله ابن أبي جمرة أن خشيته كانت من الوعك الذي أصابه من قبل الملك، الثاني عشر: هو إخبار عن الخشية التي حصلت له على غير مواطئة بغتة كما يحصل للبشر إذا دهمه أمر لم يعهده، وقال القاضي عياض: هذا أول بادئ التباشير في النوم واليقظة، وسمع الصوت قبل لقاء الملك [ ص: 62 ] وتحقق رسالة ربه فقد خاف أن يكون من الشيطان فأما بعد أن جاءه الملك بالرسالة فلا يجوز الشك عليه فيه، ولا يخشى تسلط الشيطان عليه، وقال النووي: هذا ضعيف لأنه خلاف تصريح الحديث فإن هذا كان بعد غط الملك وإتيانه باقرأ باسم ربك قال: قلت: إلا أن يكون معنى خشيت على نفسي أن يخبرها بما حصل له أولا من الخوف لا أنه خائف في حال الإخبار فلا يكون ضعيفا.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر من الأسئلة: ما قيل: من أين علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الجائي إليه جبريل عليه الصلاة والسلام لا الشيطان، وبم عرف أنه حق لا باطل؟ أجيب بأنه كما نصب الله لنا الدليل على أن الرسول عليه السلام صادق لا كاذب، وهو المعجزة كذلك نصب للنبي صلى الله عليه وسلم دليلا على أن الجائي إليه ملك لا شيطان، وأنه من عند الله لا من غيره.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر: ما قيل ما الحكمة في فتور الوحي مدة؟ أجيب بأنه إنما كان كذلك ليذهب ما كان عليه الصلاة والسلام وجده من الروع وليحصل له التشوق إلى العود.

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر: ما قيل ما كان مدة الفترة؟ أجيب بأنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل، عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع في شهر مولده وهو ربيع الأول، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس فترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهو ما بين نزول" اقرأ " أو " يا أيها المدثر " عدم مجيء جبريل عليه السلام إليه بل تأخر نزول القرآن عليه فقط.

                                                                                                                                                                                  الرابع عشر: ما قيل ما الحكمة في تخصيصه عليه الصلاة والسلام التعبد بحراء من بين سائر الجبال؟ أجيب بأن حراء هو الذي نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: ثبير اهبط عني فإني أخاف أن تقتل على ظهري فاعذرني يا رسول الله فلعل هذا هو السر في تخصيصه به، وقال أبو عبد الله بن أبي جمرة: لأنه يرى بيت ربه منه، وهو عبادة، وكان منزويا مجموعا لتحنثه.

                                                                                                                                                                                  الخامس عشر: ما قيل إن قوله: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي" يعارضه ما روي في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب لما أسلم، وهذا يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام؟ أجيب بأنا لا نسلم المعارضة فإن شرط التعارض المساواة، وما روي في السيرة لا يقاوم الذي في الصحيح ولئن سلمنا فلعل الراوي لما في الصحيح لم يحفظ لورقة بعد ذلك شيئا من الأمور فلذلك جعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى ما علمه منه لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر.

                                                                                                                                                                                  السادس عشر: ما وجه تخصيص ورقة بن نوفل ناموس النبي بالناموس الذي أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام دون سائر الأنبياء مع أن لكل نبي ناموسا؟ أجيب بأن الناموس الذي أنزل على موسى ليس كناموس الأنبياء فإنه أنزل عليه كتاب بخلاف سائر الأنبياء فمنهم من نزل عليه صحف، ومنهم من نبئ بإخبار جبريل عليه السلام، ومنهم من نبئ بإخبار ملك الرصاف.

                                                                                                                                                                                  (استنباط الأحكام) وهو على وجوه: الأول فيه تصريح من عائشة رضي الله تعالى عنها بأن رؤيا النبي عليه الصلاة والسلام من جملة أقسام الوحي وهو محل وفاق.

                                                                                                                                                                                  الثاني: فيه مشروعية اتخاذ الزاد، ولا ينافي التوكل فقد اتخذه سيد المتوكلين.

                                                                                                                                                                                  الثالث: فيه الحض على التعليم ثلاثا بما فيه مشقة كما فتل الشارع أذن ابن عباس في إدارته على يمينه في الصلاة، وانتزع شريح القاضي من هذا الحديث أن لا يضرب الصبي إلا ثلاثا على القرآن كما غط جبريل محمدا عليهما الصلاة والسلام ثلاثا.

                                                                                                                                                                                  الرابع: فيه دليل للجمهور أن سورة اقرأ باسم ربك أول ما نزل، وقول من قال: إن أول ما نزل يا أيها المدثر عملا بالرواية الآتية في الباب فأنزل الله تعالى: يا أيها المدثر محمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، وأبعد من قال: إن أول ما نزل الفاتحة بل هو شاذ، وجمع بعضهم بين القولين الأولين بأن قال: يمكن أن يقال: أول ما نزل من التنزيل في تنبيه الله على صفة خلقهاقرأ وأول ما نزل من الأمر بالإنذار يا أيها المدثر وذكر ابن العربي، عن كريب قال: وجدنا في كتاب ابن عباس أول ما نزل من القرآن بمكة "اقرأ"، "والليل" "ون" "ويا أيها المزمل" "ويا أيها المدثر" "وتبت" "وإذا الشمس" "والأعلى" "والضحى" "وألم نشرح لك" "والعصر" "والعاديات" "والكوثر" "والتكاثر" "والدين" ثم"الفلق" ثم"الناس" ثم ذكر سورا كثيرة ونزل بالمدينة ثمانية وعشرون سورة وسائرها بمكة، وكذلك يروى عن ابن الزبير، وقال السخاوي: ذهبت عائشة رضي الله عنها والأكثرون إلى أن أول ما نزل اقرأ باسم ربك إلى قوله: ما لم يعلم ثم ن والقلم إلى قوله: " ويبصرون " ويا أيها المدثر والضحى، ثم نزل باقي سورة "اقرأ" بعد يا أيها المدثر، ويا أيها المزمل.

                                                                                                                                                                                  الخامس: قال السهيلي في قوله: ( [ ص: 63 ] اقرأ باسم ربك دليل من الفقه على وجوب استفتاح القراءة ببسم الله غير أنه أمر مبهم لم يتبين له بأي اسم من أسمائه يستفتح حتى جاء البيان بعد في قوله: بسم الله مجراها ومرساها ثم في قوله: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ثم بعد ذلك كان ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع من الصحابة على ذلك وحين نزلت بسم الله الرحمن الرحيم سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد الجبال، ذكره النقاش قلت: دعوى الوجوب تحتاج إلى دليل وكذلك دعوى نزول جبريل عليه السلام ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة وثبوتها في سواد المصحف لا يدل على وجوب قراءتها وما ذكره النقاش في تفسيره فقد تكلموا فيه.

                                                                                                                                                                                  السادس: فيه أن الفازع لا ينبغي أن يسأل، عن شيء حتى يزول عنه فزعه حتى قال مالك: إن المذعور لا يلزمه بيع ولا إقرار ولا غيره.

                                                                                                                                                                                  السابع: فيه أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب للسلامة من مصارع الشر والمكاره فمن كثر خيره حسنت عاقبته ورجى له سلامة الدين والدنيا.

                                                                                                                                                                                  الثامن: فيه جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة ولا يعارضه قوله عليه الصلاة والسلام: (احثوا في وجوه المداحين التراب) لأن هذا فيما يمدح بباطل أو يؤدي إلى باطل.

                                                                                                                                                                                  التاسع: فيه أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة وتبشيره وذكر أسباب السلامة له.

                                                                                                                                                                                  العاشر: فيه أبلغ دليل على كمال خديجة رضي الله تعالى عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظم فقهها وقد جمعت جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فيه عليه السلام لأن الإحسان إما إلى الأقارب وإما إلى الأجانب، وإما بالبدن، وإما بالمال، وإما على من يستقل بأمره، وإما على غيره.

                                                                                                                                                                                  الحادي عشر: فيه جواز ذكر العاهة التي بالشخص ولا يكون ذلك غيبة قلت: ينبغي أن يكون هذا على التفصيل فإن كان لبيان الواقع أو للتعريف أو نحو ذلك فلا بأس ولا يكون غيبة وإن كان لأجل استنقاصه أو لأجل تعييره فإن ذلك لا يجوز.

                                                                                                                                                                                  الثاني عشر: فيه أن من نزل به أمر يستحب له أن يطلع عليه من يثق بنصحه وصحة رأيه.

                                                                                                                                                                                  الثالث عشر: فيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.

                                                                                                                                                                                  (فوائد الأولى) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة وهي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فمن مارية، ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقيل: بخمس، وقيل: بأربع فأقامت معه أربعا وعشرين سنة وستة أشهر ثم توفيت وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام واسم أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم من بني عامر بن لؤي وهي أول من آمن من النساء باتفاق بل أول من آمن مطلقا على قول ووقع في كتاب الزبير بن بكار، عن عبد الرحمن بن زيد قال آدم عليه السلام: مما فضل الله به ابني علي أن زوجته خديجة كانت عونا له على تبليغ أمر الله عز وجل وأن زوجتي كانت عونا لي على المعصية.

                                                                                                                                                                                  الثانية: ورقة بفتح الراء بن نوفل بفتح النون والفاء بن أسد بن عبد العزى، وقال الكرماني: فإن قلت: ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه؟ قلت: لا شك أنه كان مؤمنا بعيسى عليه السلام وأما الإيمان بنبينا عليه السلام فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا، ولئن ثبت أنه كان منسوخا في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق وهو قد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه قلت: قال ابن منده: اختلف في إسلام ورقة وظاهر هذا الحديث وهو قوله فيه: "يا ليتني كنت فيها جذعا" وما ذكر بعده من قوله: يدل على إسلامه وذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أخبره قال له ورقة بن نوفل: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان " ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين وروى الترمذي من حديث عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة: "إنه كان صدقك ولكنه مات قبل أن تظهر فقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيته في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك " ثم قال هذا حديث غريب، وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي، وقال السهيلي : في إسناده ضعف لأنه يدور على عثمان هذا ولكن يقويه قوله عليه الصلاة والسلام: "رأيت الفتى" يعني "ورقة وعليه ثياب حرير لأنه أول من آمن بي وصدقني" ذكره ابن إسحاق، عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وقال المرزباني: كان ورقة من علماء قريش وشعرائهم وكان يدعى [ ص: 64 ] القس وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "رأيته وعليه حلة خضراء يرفل في الجنة" وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه فمن ذلك قوله:


                                                                                                                                                                                  لقد نصحت لأقوام وقلت لهم أنا النذير فلا يغرركم أحد
                                                                                                                                                                                  لا تعبدن إلها غير خالقكم فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
                                                                                                                                                                                  سبحان ذي العرش سبحانا نعود له وقبله سبح الجودي والجمد
                                                                                                                                                                                  مسخر كل ما تحت السماء له لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
                                                                                                                                                                                  لا شيء مما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد
                                                                                                                                                                                  لم تغن عن هرمز يوما خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
                                                                                                                                                                                  ولا سليمان إذ تجري الرياح له والإنس والجن فيما بينها برد
                                                                                                                                                                                  أين الملوك التي كانت لعزتها من كل أوب إليها وافد يفد
                                                                                                                                                                                  حوض هنالك مورود بلا كدر لا بد من ورده يوما كما وردوا

                                                                                                                                                                                  نسبه أبو الفرج إلى ورقة، وفيه أبيات تنسب إلى أمية بن أبي الصلت ومن شعره قوله:


                                                                                                                                                                                  فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي حديثك إيانا فأحمد مرسل
                                                                                                                                                                                  وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل

                                                                                                                                                                                  .

                                                                                                                                                                                  (الثالثة) أنه قد عرفت أن خديجة هي التي انطلقت بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقد جاء في السيرة من حديث عمرو بن شرحبيل أن الصديق رضي الله عنه دخل على خديجة وليس رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ثم ذكرت خديجة له ما رآه فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة فلما دخل عليه السلام أخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة فقال: ومن أخبرك فقال: خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض فقال له: لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول: ثم ائتني فأخبرني فلما خلا ناداه يا محمد قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين قل: لا إله إلا الله فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة: أبشر ثم أبشر فأنا أشهد بأنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك نبي مرسل، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذاك لأجاهدن معك فلما توفي ورقة قال عليه الصلاة والسلام: لقد رأيت القس في الجنة، وعليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني، يعني ورقة.

                                                                                                                                                                                  وفي سير سليمان بن طرخان التيمي أنها ركبت إلى بحيرا بالشام فسألته عن جبريل عليه السلام فقال لها قدوس يا سيدة قريش أنى لك بهذا الاسم فقالت: بعلي وابن عمي أخبرني أنه يأتيه فقال: ما علم به إلا نبي فإنه السفير بين الله وبين أنبيائه وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا أن يتسمى باسمه، وفي الأوائل لأبي هلال من حديث سويد بن سعيد حدثنا الوليد بن محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن خديجة رضي الله عنها خرجت إلى الراهب ورقة وعداس فقال ورقة أخشى أن يكون أحد شبه بجبريل عليه السلام فرجعت وقد نزل ن والقلم وما يسطرون فلما قرأ عليه الصلاة والسلام هذا على ورقة قال: أشهد أن هذا كلام الله تعالى فإن قلت: ما التوفيق بين هذه الأخبار؟ قلت: بأن تكون خديجة قد ذهبت به مرة وأرسلته مع الصديق أخرى وسافرت إلى بحيرا أو غيره مرة أخرى، وهذا من شدة اعتنائها بسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية