الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  6978 42 - حدثنا مسدد، سمع يحيى بن سعيد، عن سفيان، حدثني منصور وسليمان، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، أن يهوديا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: وما قدروا الله حق قدره

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله: "والخلائق على إصبع" على ما لا يخفى على المتأمل.

                                                                                                                                                                                  ويحيى بن سعيد القطان، وسفيان هو الثوري، ومنصور هو ابن المعتمر، وسليمان هو الأعمش، وإبراهيم هو النخعي، وعبيدة بفتح العين هو ابن عمرو السلماني، أسلم في حياة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وعبد الله هو ابن مسعود، وقد تابع سفيان الثوري عن منصور على قوله: "عبيدة" شيبان بن عبد الرحمن عن منصور كما مضى في تفسير سورة الزمر، وفضيل بن عياض بعده، وجرير بن عبد الحميد عند مسلم، وخالفه عن الأعمش في قوله: "عبيدة" حفص بن غياث المذكور في الباب، وجرير، وأبو معاوية، وعيسى بن يونس عند مسلم، فكلهم قالوا: عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة بدل "عبيدة" ويعلم من تصرف الشيخين أنه عند الأعمش على الوجهين.

                                                                                                                                                                                  والحديث مضى في تفسير سورة الزمر في باب قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره عن آدم، عن شيبان، ومضى الكلام فيه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أن يهوديا جاء" وفي رواية علقمة عن ابن مسعود: "جاء رجل من أهل الكتاب" وفي رواية فضيل بن عياض عند مسلم: "جاء حبر" وزاد شيبان في روايته: "من الأحبار".

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: يا محمد" وفي رواية علقمة: يا أبا القاسم، وجمع بينهما في رواية فضيل بن عياض.

                                                                                                                                                                                  قوله: إن الله يمسك السماوات " وفي رواية شيبان: "يجعل" بدل "يمسك" وزاد فضيل: يوم القيامة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والشجر على إصبع" زاد في رواية علقمة: والثرى، وفي رواية شيبان: الماء والثرى، وفي رواية فضيل بن عياض: الجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "والخلائق" وفي رواية فضيل وشيبان "وسائر الخلق" وروى الترمذي من حديث ابن عباس : مر يهودي بالنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقال: يا يهودي حدثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، وأشار أبو جعفر يعني أحد رواته بخنصره أولا، ثم تابع حتى بلغ الإبهام ، قال الترمذي : حسن غريب صحيح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فضحك رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " وفي رواية علقمة عن ابن مسعود: فرأيت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ضحك.

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى بدت" أي: ظهرت نواجذه جمع ناجذ بنون وجيم مكسورة، ثم ذال معجمة، وهو ما يظهر عند الضحك من الأسنان، وقيل: هي الأنياب، [ ص: 108 ] وقيل: الأضراس، وقيل: الدواخل من الأضراس التي في أقصى الحلق، وزاد شيبان بن عبد الرحمن: "تصديقا لقول الحبر" وفي رواية فضيل: "تعجبا وتصديقا له" وعند مسلم: "تعجبا مما قال الحبر تصديقا له" وفي رواية جرير عنده: "وتصديقا له" بزيادة واو، وأخرجه ابن خزيمة من رواية إسرائيل عن منصور: "حتى بدت نواجذه تصديقا له".

                                                                                                                                                                                  ثم الكلام هنا في مواضع:

                                                                                                                                                                                  (الأول) في أمر الإصبع، قال ابن بطال: لا يحمل الإصبع على الجارحة، بل يحمل على أنه صفة من صفات الذات لا يكيف ولا يحدد، وهذا ينسب إلى الأشعري، وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمل ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان، وقال الخطابي: لم يقع ذكر الإصبع في القرآن ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست جارحة حتى يتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع فلا يكيف ولا يشبه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهود، فإن اليهود مشبهة، وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين، ورد عليه إنكاره ورود الإصبع لوروده في عدة أحاديث، منها حديث مسلم: "إن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن" قيل: هذا لا يرد عليه; لأنه إنما نفى القطع، وفيه نظر لا يخفى، أقول: لا يمنع ثبوت الإصبع الذي هو غير الجارحة، فكما ثبت اليد أنها غير جارحة فكذلك الإصبع.

                                                                                                                                                                                  (الموضع الثاني) في تصديق النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إياه، قال الخطابي: قول الراوي: "تصديقا له" ظن منه وحسبان، وروى هذا الحديث غير واحد من أصحاب عبد الله فلم يذكروا فيه تصديقا له، وقال القرطبي في المفهم : وأما من زاد: تصديقا له فليس بشيء، فإن هذه الزيادة من قول الراوي وهي باطلة; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصدق المحال، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال، وطول الكلام فيه، ثم قال: ولئن سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بتصديقه لم يكن ذلك تصديقا في المعنى بل في اللفظ الذي نقله من كتابه عن نبيه، ويقطع بأن ظاهره غير مراد.

                                                                                                                                                                                  (الموضع الثالث) في ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال القرطبي: وضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو للتعجب من جهل اليهودي، فظن الراوي أن ذلك التعجب تصديق، وليس كذلك، وقال ابن بطال: حاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات وأخبر عن قدرة الله جميعا فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجبا من كونه يستعظم ذلك في قدرة الله تعالى.

                                                                                                                                                                                  (الموضع الرابع) في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يضحك إلا تبسما، وهنا ضحك حتى بدت نواجذه، وهو قهقهة، قال الكرماني: كان التبسم هو الغالب وهذا كان نادرا، أو المراد بالنواجذ الأضراس مطلقا.

                                                                                                                                                                                  (الموضع الخامس) في الحكمة في قراءته - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره فقيل: أشار بهذا إلى أن الذي قاله اليهودي يسير في جنب ما يقدر عليه، أي: ليس قدرته بالحد الذي ينتهي إليه الوهم أو يحيط به الحد والبصر، وقال الخطابي: الآية محتملة للرضاء والإنكار، وقال القرطبي: ضحكه - صلى الله عليه وسلم - تعجبا من جهل اليهودي، فلذلك قرأ هذه الآية: وما قدروا الله حق قدره أي: ما عرفوه حق معرفته وما عظموه حق عظمته.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية