الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1218 39 - حدثنا عبد الله بن مسلمة قال : حدثنا ابن أبي حازم ، عن أبيه ، عن سهل رضي الله عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فيها حاشيتها ، أتدرون ما البردة ؟ قالوا : الشملة ، قال : نعم ، قالت : نسجتها بيدي ، فجئت لأكسوكها ، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ، فخرج إلينا ، وإنها إزاره ، فحسنها فلان ، فقال : اكسنيها ما أحسنها ، قال القوم : ما أحسنت ، لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم [ ص: 62 ] سألته ، وعلمت أنه لا يرد ، قال : إني والله ما سألته لألبسها ، إنما سألته لتكون كفني ، قال سهل : فكانت كفنه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة ; لأن الرجل الذي سأل تلك البردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنكرت الصحابة عليه سؤاله ، قال : " سألته لتكون تلك البردة كفني " ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إياها ، واستعدها ليكفن فيها ، فكفن فيها ، وأخبر بذلك سهل حيث قال : فكانت كفنه .

                                                                                                                                                                                  ذكر رجاله :

                                                                                                                                                                                  وهم أربعة الأول عبد الله بن مسلمة القعنبي . الثاني : عبد العزيز بن أبي حازم . الثالث : أبوه أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج القاضي من عباد أهل المدينة وزهادهم . الرابع : سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه .

                                                                                                                                                                                  ذكر لطائف إسناده :

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في موضع واحد ، وفيه أن رواته مدنيون غير أن عبد الله بن مسلمة سكن البصرة ، وهو من رباعيات البخاري . وأخرجه ابن ماجه أيضا في اللباس عن هشام بن عمار به .

                                                                                                                                                                                  ذكر معناه : قوله : " أن امرأة " ، لم يعرف اسمها . قوله : " ببردة " ، هي كساء كانت العرب تلتحف به فيه خطوط ، ويجمع على برد كغرفة وغرف ، وقال ابن قرقول : هي النمرة . قوله : " حاشيتها " ، مرفوع بقوله : " منسوجة " ، واسم المفعول يعمل عمل فعله كاسم الفاعل قاله الداودي يعني أنها لم تقطع من ثوب فتكون بلا حاشية . وقيل : حاشية الثوب هدبه ، فكأنه أراد أنها جديدة لم تقطع هدبها ، ولم تلبس بعد ، وقال القزاز : حاشيتا الثوب ناحيتاه اللتان في طرفيهما الهدب ، قال الجوهري : الحاشية واحدة حواشي الثوب ، وهي جوانبه . قوله : " تدرون " ، ويروى : " أتدرون " بهمزة الاستفهام ، ويروى: " هل تدرون " وعلى كل حال هذه الجملة قول سهيل بن سعد بينه أبو غسان عن أبي حازم ، كما أخرجه البخاري في الأدب ، ولفظه: " فقال سهل للقوم أتدرون ما البردة قالوا الشملة " . انتهى .

                                                                                                                                                                                  والشملة كساء يشتمل به ، وهي أعم لكن لما كان أكثر اشتمالهم بها أطلقوا عليها اسمها قوله: " تدرون " إلى قوله : " قالت : نسجتها " جمل معترضة في كلام المرأة المذكورة قوله: " فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها " ، أي حال كونه محتاجا إلى تلك البردة ، ويروى: " محتاج إليها " بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي أخذها ، وهو محتاج إليها ، وإن شئت تقول وهو محتاج إليها ، وقد علم أن الجملة الاسمية إذا وقعت حالا يجوز فيها الأمران الواو وتركها . فإن قلت : من أين عرفوا احتياج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك . قلت : يمكن أن يكون ذلك بصريح القول من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بقرينة حالية دلت على ذلك . قوله : " فخرج إلينا وإنها إزاره " ، أي فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ، وإن البردة المذكورة إزاره ، يعني متزرا بها ، يدل على ذلك رواية الطبراني عن هشام بن سعد عن أبي حازم : " فاتزر بها ثم خرج " ، وفي رواية ابن ماجه عن هشام بن عمار عن عبد العزيز: " فخرج إلينا فيها " ، قوله : " فحسنها فلان " ، أي نسبها إلى الحسن وهو ماض من التحسين في الروايات كلها ، وفي رواية للبخاري في اللباس من طريق يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم: " فجسها " بالجيم وتشديد السين بغير نون ، وكذا وقع في رواية الطبراني من طريق أخرى عن ابن أبي حازم .

                                                                                                                                                                                  وقال المحب الطبري : فلان هو عبد الرحمن بن عوف ، وفي الطبراني عن قتيبة هو سعد بن أبي وقاص ، وقد أخرج البخاري في اللباس والنسائي في الزينة عن قتيبة ، ولم يذكرا ذلك عنه ، وفي رواية ابن ماجه : " فجاء فلان ابن فلان رجل سماه يومئذ " ، وهذا يدل على أن الراوي سماه ونسبه ، وفي رواية أخرى للطبراني أن السائل المذكور أعرابي ، ولكن في سنده زمعة بن صالح وهو ضعيف . قوله: " ما أحسنها " ، كلمة ما هنا للتعجب ، وهو بنصب النون ، وفي رواية ابن ماجه : : " فقال : يا رسول الله ما أحسن هذه البردة اكسنيها ، قال : نعم فلما دخل طواها وأرسل بها إليه " ، قوله : " ما أحسنت " كلمة ما هنا نافية . قوله : " لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها " ، أي لبس البردة المذكورة النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه محتاجا إليها ، وفي رواية ابن ماجه : " والله ما أحسنت كساها النبي صلى الله عليه وسلم محتاج إليها " ، أي وهو محتاج إليها . قوله : " أنه لا يرد " ، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلا ، وكذا وقع في رواية ابن ماجه بتصريح المفعول ونحوه وقع في رواية يعقوب في البيوع ، وفي رواية أبي غسان في الأدب : " لا يسأل شيء [ ص: 63 ] فيمنعه " ، أي يعطي كل من طلب ما يطلبه . قوله : " ما سألته لألبسها " ، أي ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن ألبسها ، وأن المقدرة مصدرية ، وفي رواية أبي غسان : " فقال رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم " ، وفي رواية للطبراني عن زمعة بن صالح: " أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يصنع له غيرها فمات قبل أن تفرغ " .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستفاد منه : فيه حسن خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وسعة جوده وقبوله الهدية قال المهلب : فيه جواز ترك مكافأة الفقير على هديته ، وفيه نظر ; لأن المكافأة كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم مستمرة ; فلا يلزم من السكوت عنها هنا أن لا يكون فعلها على أنه ليس في الحديث الجزم يكون ذلك هدية لاحتمال عرضها إياها عليه لأجل الشراء ، ولئن سلمنا أنها كانت هدية فلا يلزم أن تكون المكافأة على الفور . قال : وفيه جواز الاعتماد على القرائن ، ولو تجردت لقولهم : فأخذها محتاجا إليها ، وفيه نظر أيضا لاحتمال سبق القول منه بذلك كما ذكرناه . قال : وفيه الترغيب في المصنوع بالنسبة إلى صانعه إذا كان ماهرا ، وفيه نظر أيضا لاحتمال إرادتها بنسبتها إليها إزالة ما يخشى من التدليس . وفيه جواز استحسان الإنسان ما يراه على غيره من الملابس إما ليعرفه قدرها ، وإما ليعرض له بطلبه منه حيث يسوغ له ذلك ، وفيه مشروعية الإنكار عند مخالفة الأدب ظاهرا ، وإن لم يبلغ المنكر درجة التحريم ، وفيه التبرك بآثار الصالحين ، وفيه جواز إعداد الشيء قبل وقت الحاجة إليه كما قد ذكرناه ، وفيه جواز المسألة بالمعروف ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يرد سائلا . وفيه بركة ما لبسه مما يلي جسده ، وفيه قبول السلطان الهدية من الفقير ، وفيه جواز السؤال من السلطان ، وفيه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعطي حتى لا يجد شيئا فيدخل بذلك في جملة المؤثرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية