الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2016 73 - حدثنا علي بن عبد الله قال: حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في طائفة النهار لا يكلمني ولا أكلمه، حتى أتى سوق بني قينقاع، فجلس بفناء بيت فاطمة، فقال: أثم لكع، أثم لكع؟ فحبسته شيئا، فظننت أنها تلبسه سخابا أو تغسله، فجاء يشتد، حتى عانقه وقبله، وقال: اللهم أحببه، وأحب من يحبه.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله: "حتى أتى سوق بني قينقاع" وعلي بن عبد الله هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وعبيد الله بن أبي يزيد - من الزيادة - قد مر في باب وضع الماء عند الخلاء.

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا في اللباس، عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي. وأخرجه مسلم في الفضائل، عن ابن أبي عمر، عن سفيان به، وعن أحمد بن حنبل عنه ببعضه. وأخرجه النسائي في المناقب، عن حسين بن حرب. وأخرجه ابن ماجه في السنة، عن أحمد بن عبدة، عن سفيان نحوه مختصرا.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه):

                                                                                                                                                                                  قوله: "عن عبيد الله" وفي رواية مسلم: "عن سفيان، حدثني عبيد الله".

                                                                                                                                                                                  قوله: "نافع بن جبير" هو المذكور في الحديث الأول، وليس له عن أبي هريرة في البخاري سوى هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الدوسي" بفتح الدال المهملة وسكون الواو وبالسين المهملة: نسبة أبي هريرة إلى دوس بن عدنان بن عبد الله، قبيلة في الأزد.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في طائفة النهار" أي في قطعة منه، قال الكرماني: وفي بعضها "في صائفة النهار" أي حر النهار، يقال: يوم صائف أي حار.

                                                                                                                                                                                  (قلت): هذا هو الأوجه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لا يكلمني ولا أكلمه" أما من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلعله كان مشغول الفكر بوحي أو غيره، وأما من جانب أبي هريرة فللتوقير، وكان ذلك شأن الصحابة إذا لم يروا منه نشاطا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فجلس بفناء بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها " الفناء - بكسر الفاء بعدها نون ممدودة - اسم للموضع المتسع الذي أمام البيت، وقال الداودي: سقط بعض الحديث عن الناقل، وإنما أدخل حديث في حديث; إذ ليس بيت فاطمة في سوق بني قينقاع، إنما بيتها بين بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل: ليس فيه إدخال حديث في حديث، ولكن فيه بعض سقط، ورواية مسلم تبينه، ولفظه عن سفيان: "حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم [ ص: 240 ] انصرف حتى أتى فناء فاطمة رضي الله تعالى عنها". وأخرجه الحميدي في مسنده عن سفيان، فقال فيه: "حتى إذا أتى فناء بيت عائشة، فجلس فيه" والأول أرجح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال: أثم لكع" أي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأراد به الحسن، وقيل: الحسين، على ما سيأتي، والهمزة في "أثم" للاستفهام، و"ثم" بفتح الثاء المثلثة اسم يشار به إلى المكان البعيد، وهو ظرف لا يتصرف; فلذلك غلط من أعربه مفعولا لرأيت في قوله تعالى: وإذا رأيت ثم رأيت و"لكع" بضم اللام وفتح الكاف وبالعين المهملة قال الأصمعي: اللكع العيس الذي لا يتجه لنظر ولا لغيره، مأخوذ من الملاكيع، وهو الذي يخرج مع السلا من البطن، وقال الأزهري: القول قول الأصمعي، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحسن وهو صغير: أين لكع؟ أراد أنه لصغره لا يتجه لمنطق، ولا ما يصلحه، ولم يرد أنه لئيم ولا عبد. وعلم منه أن اللئيم يسمى لكعا أيضا، وكذلك العبد يسمى به، وفي (التلويح): الأشبه والأجود أن يحمل الحديث على ما قاله بلال بن جرير الخطفي - وسئل عن اللكع، فقال -: في لغتنا هو الصغير، قال الهروي: وإلى هذا ذهب الحسن إذا قال الإنسان: يا لكع، يريد: يا صغير، ويقال للمرأة: لكيعة ولكعاء ولكاع وملكعانة، ذكره في (الموعب) وقال سيبويه: لا يقال: ملكعانة إلا في النداء. وعن ابن يزيد: اللكع الفلو، والأنثى لكعة، وفي (المحكم) اللكع المهر، وفي (الجامع) أصل اللكع من الكلع، ولكن قلب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فحبسته شيئا" أي فحبست فاطمة الحسن، أي منعته من المبادرة إلى الخروج إليه قليلا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فظننت" قائله أبو هريرة "أنها" أي أن فاطمة "تلبسه" بضم التاء من الإلباس أي تلبس الصغير "سخابا" بكسر السين المهملة وبالخاء المعجمة الخفيفة وبعد الألف باء موحدة، قال الخطابي: هي قلادة تتخذ من طيب ليس فيها ذهب ولا فضة، وقال الداودي: من قرنفل، وقال الهروي: هي قلادة من خيط فيها خرز، تلبسه الصبيان والجواري، وروى الإسماعيلي، عن ابن أبي عمر أحد رواة هذا الحديث قال: السخاب شيء يعمل من الحنظل كالقميص والوشاح.

                                                                                                                                                                                  قوله: "أو تغسله " بالتشديد. وفي رواية الحميدي "وتغسله" بالواو.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فجاء يشتد" أي يسرع في المشي. وفي رواية عمر بن موسى عند الإسماعيلي "فجاء الحسن أو الحسين" وقد أخرجه مسلم، عن ابن أبي عمر، فقال في روايته: "أثم لكع" يعني حسنا، وكذا قال الحميدي في (مسنده) وسيأتي في اللباس من طريق ورقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ "فقال: أين لكع؟ ادع لي الحسن بن علي، فقام الحسن بن علي يمشي".

                                                                                                                                                                                  قوله: "حتى عانقه" وفي رواية ورقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ: "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده هكذا" أي مدها "فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه".

                                                                                                                                                                                  قوله: "اللهم أحبه" بلفظ الدعاء وبالإدغام. وفي رواية الكشميهني "أحببه" بفك الإدغام، وزاد مسلم عن ابن أبي عمر "فقال: اللهم إني أحبه فأحبه".

                                                                                                                                                                                  قوله: "وأحب" أمر أيضا وقوله: "من يحبه" في محل النصب، مفعوله.

                                                                                                                                                                                  (ذكر ما يستفاد منه): فيه بيان ما كان الصحابة عليه من توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشي معه.

                                                                                                                                                                                  وفيه ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من التواضع من الدخول في السوق، والجلوس بفناء الدار، ورحمته الصغير، والمزاح معه، وقال السهيلي: وكان - صلى الله عليه وسلم - يمزح، ولا يقول إلا حقا، وهاهنا أراد تشبيهه بالفلو والمهر; لأنه طفل، وإذا قصد بالكلام التشبيه لم يكن إلا صدقا.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز المعانقة وفيها خلاف، فقال محمد بن سيرين وعبد الله بن عون وأبو حنيفة ومحمد: المعانقة مكروهة، واحتجوا في ذلك بما رواه الترمذي حدثنا سويد قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا حنظلة بن عبيد الله، عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أفينحني له؟ فقال: لا، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم " قال الترمذي : هذا حديث حسن.

                                                                                                                                                                                  وقال الشعبي وأبو مجلز لاحق بن حميد وعمرو بن ميمون والأسود بن هلال وأبو يوسف: لا بأس بالمعانقة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واحتجوا في ذلك بما رواه الطحاوي حدثنا فهد قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء، وقال: حدثنا أسد بن عمرو، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه قال: لما قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند النجاشي تلقاني، فاعتنقني " ورجاله ثقات، ومجالد بن سعيد وثقه النسائي، وروى له الأربعة. وروى الطحاوي عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يتعانقون، قال: فدل ذلك على أن ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إباحة المعانقة كان متأخرا عما روي عنه من النهي عن ذلك، وفي (التلويح): معانقته - صلى الله عليه وسلم - للحسن إباحة ذلك، [ ص: 241 ] وأما معانقة الرجل للرجل فاستحبها سفيان، وكرهها مالك قال: هي بدعة.

                                                                                                                                                                                  وتناظر مالك وسفيان في ذلك، فاحتج سفيان بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك بجعفر، قال مالك: هو خاص له، فقال: ما يخصه بغير ذلك؟ فسكت مالك.

                                                                                                                                                                                  وقال صاحب (الهداية): الخلاف في المعانقة في إزار واحد، وأما إذا كان على المعانق قميص أو جبة لا بأس باتفاق أصحابنا، وهو الصحيح.

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز التقبيل.

                                                                                                                                                                                  قال الفقيه أبو الليث في (شرح الجامع الصغير): القبلة على خمسة أوجه: قبلة تحية، وقبلة شفقة، وقبلة رحمة، وقبلة شهوة، وقبلة مودة.

                                                                                                                                                                                  فأما قبلة التحية فكالمؤمنين يقبل بعضهما بعضا على اليد، وقبلة الشفقة قبلة الولد لوالده أو لوالدته، وقبلة الرحمة قبلة الوالد لولده والوالدة لولدها على الخد، وقبلة الشهوة قبلة الزوج لزوجته على الفم، وقبلة المودة قبلة الأخ والأخت على الخد. وزاد بعضهم من أصحابنا: "قبلة ديانة" وهي القبلة على الحجر الأسود.

                                                                                                                                                                                  وقد وردت أحاديث وآثار كثيرة في جواز التقبيل، ولكن محل ذلك إذا كان على وجه المبرة والإكرام، وأما إذا كان على وجه الشهوة فلا يجوز، إلا في حق الزوجين، وأما المصافحة فلا بأس بها بلا خلاف; لأنها سنة قديمة، وروى الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: " إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه، تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر".




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية