الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
10 - " آفة الظرف الصلف؛ وآفة الشجاعة البغي؛ وآفة السماحة المن؛ وآفة الجمال الخيلاء؛ وآفة العبادة الفترة؛ وآفة الحديث الكذب؛ وآفة العلم النسيان؛ وآفة الحلم السفه؛ وآفة الحسب الفخر؛ وآفة الجود السرف " ؛ (هب)؛ وضعفه؛ عن علي؛ (ض).

التالي السابق


(آفة الظرف الصلف) ؛ أي: عاهة براعة اللسان؛ وذكاء الجنان: التيه؛ والتكبر على الأقران؛ والتمدح بما ليس في الإنسان؛ إذ " الآفة" ؛ بالمد: العاهة؛ أو عرض يفسد ما يصيبه؛ أو نقص؛ أو خلل يلحق الشيء؛ فيفسده؛ والكل متقارب؛ و" الظرف" ؛ كـ " فلس" : الكيس والبراعة والذكاء؛ قال الزمخشري : ومنه قول عمر : " إذا كان اللص ظريفا؛ لم يقطع" ؛ أي: كيسا؛ يدرأ الحد باحتجاجه؛ قال بعضهم: والمراد هنا: الاتصاف بالحسن والأدب والفصاحة والفهم؛ وقال الراغب : " الظرف" ؛ بالفتح: اسم لحالة تجمع عامة الفضائل النفسية والبدنية والخارجية؛ تشبيها بالظرف؛ الذي هو الوعاء؛ ولكونه واقعا على ذلك؛ قيل لمن حصل له علم وشجاعة: " ظريف" ؛ ولمن حسن لباسه ورياشه وأثاثه: " ظريف" ؛ فالظرف أعم من الحرية والكرم؛ انتهى؛ و" الصلف" ؛ محركا: مجاوزة قدر الظرف؛ والادعاء فوق ذلك؛ تكبرا؛ ذكره الخليل؛ وتفسير ابن العربي الظرف هنا بالفعل؛ لا يلائم السياق؛ (وآفة الشجاعة) ؛ بشين معجمة؛ (البغي) ؛ أي: وعاهة شدة القلب عند البأس تجاوز الحد؛ وطلب الإنسان ما ليس له؛ و" الشجاعة" : قوة القلب؛ والاستهانة بالحرب؛ وقال الراغب : إن اعتبرت في النفس فصرامة القلب على الأهوال؛ وربط الجأش؛ وإن اعتبرت بالفعل؛ فالإقدام على موضع الفرصة؛ وهي فضيلة بين التهور والجبن؛ ومن ثم عرفت بأنها ملكة متوسطة بين الجبن؛ والتهور؛ ويتفرع عنها علو الهمة؛ والصبر؛ والنجدة؛ و" البغي" : طلب التطاول بالظلم والإفساد؛ من " بغى الجرح" ؛ إذا ترامى إلى الفساد؛ ذكره الزمخشري ؛ وقال الراغب : " البغي" : طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى تجاوزه؛ وإلا فتارة تعتبر في القدر؛ الذي هو الكمية؛ وتارة في الوصف؛ الذي هو الكيفية؛ ويكون [ ص: 50 ] محمودا؛ وهو تجاوز العدل إلى الإحسان؛ والفرض إلى التطوع؛ ومذموما؛ وهو تجاوز الحق إلى الباطل؛ وهو أكثر استعمالاته؛ ومنه هنا.

(وآفة السماحة) ؛ بفتح السين المهملة؛ وخفة الميم؛ (المن) ؛ أي: وعاهة الجود والكرم تعديد النعمة على المنعم عليه؛ و" السماحة" : المساهلة والجود والاتساع فيه؛ يقال: " عليك بالحق فإن في الحق مسمحا" ؛ أي: متسعا ومندوحة عن الباطل؛ ذكره الزمخشري ؛ و" المن" : الإنعام؛ أو تزيين الفعل؛ وإظهار المعروف؛ وهو منا مذموم؛ ومن الله محمود؛ لأن غيره لا يملك المعطى؛ والعطاء؛ وليس في عطائه شرف؛ بل إهانة؛ والله مالك للكل؛ وعطاؤه تشريف؛ فمنه تشريف وهداية للشكر؛ الجالب للمزيد؛ ومن غيره تكدير؛ وتعيير؛ تنكسر منه الخواطر؛ وتحبط العطايا؛ وإن كانت مواطر؛ قال بعضهم: والتحقيق أنها لما لم تمش من غيره (تعالى)؛ واعتادت أنفس الكرام النفرة عنها؛ لا يفعلها؛ وإن حسنت منه؛ للتحرز عن المنفر؛ انتهى؛ ويرده أنه (تعالى) من صريحا في مواضع من كتابه؛ فإنكاره مكابرة؛ قال ابن عربي: و" المن" ؛ هنا؛ من أمراض النفس التي يجب التداوي منها؛ ودواؤه أنه لا يرى أنه أوصل إليه إلا ما هو له في علم الله؛ وأنه أمانة عنده؛ كانت بيده؛ لم يعرف صاحبها؛ فلما أخرجها بالعطاء لمن عين له عرفا؛ فشكر الله على أدائها؛ فمن استحضر ذلك عند الإعطاء نفعه؛ انتهى؛ وأما من المصطفى على الأنصار في قصة الحديبية؛ فليس من ذلك؛ فإنه من بالهداية إلى الإسلام؛ فهو راجع إلى الله؛ والمصطفى مبلغ؛ وواسطة؛ بدليل قوله لهم في المنة: " ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟" .

(وآفة الجمال الخيلاء) ؛ أي: وعاهة حسن الصور؛ أو المعاني: العجب والكبر؛ ومن ثم كره نكاح ذات الجمال البارع؛ لما ينشأ عنه من شدة التيه والإدلال والعجب والتحكم في المقال؛ وقد قيل: " من بسطه الإدلال؛ قبضه الإذلال" ؛ قال الراغب : و" الجمال" : الحسن الكثير؛ واعتبر فيه معنى الكثرة؛ ولا بد؛ و" الخيلاء" : التكبر عن تخيل فضيلة تتراءى للمرء في نفسه؛ وقال الراغب : أن يظن بنفسه ما ليس فيها؛ من قولهم: " خلت الشيء" ؛ ظننته؛ ولقصور هذا المعنى قال حكيم: إعجاب المرء بنفسه: أن يظن بها ما ليس فيها؛ مع ضعف قوة؛ فيظهر فرحه بها؛ و" الزهو" : الاستخفاف من الفرح بنفسه؛ (وآفة العبادة الفترة) ؛ بفتح فسكون؛ أي: وعاهة الطاعة التواني والتكاسل؛ بعد كمال النشاط والاجتهاد فيها؛ والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل؛ ومنه " طريق معبد" ؛ أي: مذلل بالأقدام؛ و" ثوب ذو عبدة" ؛ إذا كان في غاية الصفاقة؛ ولذلك لا يستعمل إلا في الخضوع لله؛ فمن وفق لإلف العبادة ولزومها فليحذر من فترة الإخلال بها؛ فإن طرقته فترة فليفزع إلى ربه في دفعها؛ و" الفترة" ؛ كما قال الزمخشري : السكون بعد الحدة؛ واللين بعد الشدة؛ ومن المجاز: " فتر البرد" ؛ و" كان الماء حارا ففترته" ؛ و" فتر العامل من عمله" ؛ قصر فيه؛ و" فتر السحاب" ؛ إذا تحير؛ لا يسير.

(وآفة الحديث) ؛ أي: ما يتحدث به وينقل؛ قال الراغب : كل كلام الإنسان يقال له: " حديث" ؛ (الكذب) ؛ أي: الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ فمن أدخل حديثه الكذب؛ عرضه للإعراض عنه؛ وعطل النفع به؛ وهو حرام؛ لتعليقه (تعالى) استحقاق العذاب به؛ حيث رتب عليه في قوله (تعالى): ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ؛ لكن قد يعرض ما يصيره مباحا؛ بل واجبا؛ إن ترتب على عدمه لحوق ضرر بمحترم؛ فقول القاضي كالزمخشري : هو حرام كله؛ أي: أصله ذلك؛ وخروجه عن الحرمة إنما هو العارض؛ كقول الفقهاء: " العارية سنة" ؛ مع أنها قد تجب لدفع مؤذ؛ أو ستر؛ وقول النبي: " إنما البيع عن تراض" ؛ مع أنه قد يجب؛ لنحو مضطر؛ وكم له من نظير؛ وبه يعرف سقوط اعتراض المؤلف عليهما؛ (وآفة العلم النسيان) ؛ أي: وعاهة العلم أن يهمله العالم؛ حتى يذهب عن ذهنه؛ ومن ثم قال الحكماء: لا تخل قلبك من المذاكرة؛ فيعود عقيما؛ ولا تعف طبعك عن المناظرة؛ فيعود سقيما؛ وأعظم آفات العلم النسيان الحادث عن غفلة التقصير؛ وإعمال التواني؛ فعلى من ابتلي به أن يستدرك تقصيره بكثرة الدرس؛ ويوقظ غفلته بإدامة النظر؛ فقد قالوا: لن يدرك العلم من لا يطيل درسه؛ ويكد نفسه؛ وكثرة الدرس كدود لا يصبر عليه إلا من يرى العلم مغنما؛ والجهالة مغرما؛ فيحتمل تعب الدرس؛ ليدرك راحة العلم؛ وتنتفي عنه معرة الجهل؛ وعلى قدر الرغبة يكون الطلب؛ وبحسب الراحة يكون التعب؛ وربما استثقل المتعلم الدرس والحفظ؛ اعتمادا؛ واتكل بعد فهم المعاني على الرجوع إلى الكتب؛ ومطالعتها عند الحاجة؛ [ ص: 51 ] فما هو إلا كمن أطلق ما صاده؛ ثقة بالقدرة عليه؛ بعد الامتناع منه؛ فلا تعقبه الثقة إلا خجلا؛ والتفريط إلا ندما؛ وكان الزهري يسمع على مشايخه إلى الليل؛ ثم يأتي جاريته فيوقظها؛ فيقول لها: حدثني فلان بكذا؛ وفلان بكذا؛ فتقول: وما لي ولهذا؟! فيقول: إنك لا تنتفعين؛ لكني سمعت الآن؛ فأردت أن أستذكره؛ وكان ابن رجاء يأتي صبيان الكتاب فيجمع الغلمان فيحدثهم لئلا ينسى؛ قال النخعي : من سره أن يحفظ العلم فليحدث حتى يسمعه ولو ممن لا يشتهيه؛ فإذا فعل كان كالكتاب في صدره؛ ولا ينافي ذلك الحديث الآتي: " إن إضاعة العلم أن تحدث به غير أهله" ؛ لأن محله إذا كان لغير مصلحة؛ كالتذكر هنا؛ و" النسيان" : ذهول ينتهي إلى زوال المدرك من القوة المدركة والحافظة؛ وحيث يحتاج في حصوله إلى سبب جديد؛ و" السهو" : ذهول عن المدركة؛ بحيث لا ينتهي إلى زواله منها؛ بل ينتبه له بأدنى تنبيه؛ و" التذكر" : استعادة ما أثبته القلب؛ مما تنحى عنه بنسيان؛ أو غفلة.

(وآفة الحلم) ؛ بكسر المهملة؛ فسكون اللام؛ (السفه) ؛ بالتحريك؛ أي: وعاهة الأناة والتثبت وعدم العجلة: الخفة والطيش؛ و" الحلم" : ملكة ورزانة في البدن؛ توجب الصبر على الأذى؛ يورثها وفور العقل؛ و" السفه" : خفة في البدن؛ أو في المعاني؛ يقتضيها نقصان العقل؛ وقال الحراني : هو خفة الرأي؛ في مقابلة ما يراد منه من المتانة؛ والرزانة؛ وقال الراغب : التسرع إلى القول القبيح؛ والفعل القبيح؛ (وآفة الحسب) ؛ بفتح المهملتين؛ (الفخر) ؛ بفتح؛ فسكون؛ وتحرك؛ أي: وعاهة الشرف بالآباء: ادعاء العظم؛ والتمدح بالخصال؛ قيل لبعض الحكماء: ما الذي لا يحسن وإن كان حقا؟ قال: مدح الرجل نفسه؛ وإن كان محقا؛ قال الزمخشري : " الحسب" : ما يعده الشخص من مآثره؛ ومآثر آبائه؛ ومنه قولهم: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب أبيه؛ و" الفخر" ؛ كما في المصباح: المباهاة بالمكارم والمناقب؛ وقال الراغب : المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان؛ وذلك نهاية الحمق؛ فمن نظر بعين عقله؛ وانحسر عنه قناع جهله؛ عرف أن أعراض الدنيا عارية مستردة؛ لا يأمن في كل ساعة أن يسترجع؛ قال بعض الحكماء لمفتخر: إن افتخرت بفرسك فالحسن له؛ دونك؛ أو بثيابك ومتاعك؛ فالجمال لهما؛ دونك؛ أو بآبائك؛ فالفخر فيهم؛ لا فيك؛ ولو تكلمت هذه الأشياء لقالت: هذه محاسننا؛ فأين محاسنك؟!

(وآفة الجود) ؛ بضم الجيم؛ (السرف) ؛ بالتحريك؛ أي: وعاهة السخاء: التبذير والإنفاق في غير طاعة؛ وتجاوز المقاصد الشرعية؛ و" الجود" : إعطاء ما ينبغي؛ لمن ينبغي؛ وهو أعم من الصدقة؛ و" السرف" : صرف الشيء فيما ينبغي؛ زائدا على ما ينبغي؛ و" التبذير" : صرفه فيما لا ينبغي؛ ذكره جمع؛ وقال الماوردي : " الإسراف" : تجاوز في الكمية؛ وهو جهل بمقادير الحقوق؛ و" التبذير" : تجاوز في موضع الحق؛ فهو جهل بمواقعها؛ وكلاهما مذموم؛ والثاني أدخل في الذم؛ إذ المسرف مخطئ بالزيادة؛ والمبذر مخطئ بالكل؛ ومن جهل مواقع الحقوق ومقاديرها بماله؛ وأخطأها؛ فهو كمن جهلها بفعاله؛ وقال الراغب : " التبذير" : التفريق؛ أصله: إلقاء البذر؛ وطرحه؛ فاستعير لكل مضيع ماله؛ فتبذير البذر تضييع في الظاهر؛ لمن لم يعرف مآل ما يلقيه؛ ثم القصد بهذه الجملة الحث على تجنب هذه الأخلاق؛ والتنفير عنها؛ والتحذير منها؛ وأنه ما من خلق كريم إلا وله آفة تنشأ من طمع لئيم؛ فنبه على أن الإنسان يكون بالمرصاد لدفع ما يرد عليه من هذه الآفات؛ (تنبيه) : قد ذكر الحكماء آفات من هذا الجنس؛ فقالوا: آفة العلم الملل؛ وآفة العمل رؤية النفس؛ وآفة العقل الحذر؛ وآفة العارف الظهور من غير وارد من جهة الحق؛ وآفة المحبة الشهوة؛ وآفة التواضع الذلة؛ وآفة الصبر الشكوى؛ وآفة التسليم التفريط في جنب الله؛ وآفة الغنى الطمع؛ وآفة العز البطر؛ وآفة البطالة فقد الدنيا؛ والآخرة؛ وآفة الكشف التكليم به؛ وآفة الصحبة المنازعة؛ وآفة الجهل الجدل؛ وآفة الطالب التسلل دون الإقدام على المكاره؛ وآفة الفتح الالتفات للعمل؛ وآفة الفقير الكشف؛ وآفة السالك الوهم؛ وآفة الدنيا الطلب؛ وآفة الآخرة الإعراض؛ وطلب الأعواض؛ وآفة الكرامات الميل إليها؛ وآفة العدل الانتقام؛ وآفة التعبد الوسوسة؛ وآفة الإطلاق الخروج عن المراسم؛ وآفة الوجود رؤية الكمال؛ وذكروا آفات أخر؛ وفي هذا الكفاية.

(هب)؛ وكذا ابن لال في المكارم؛ وزاد: " وآفة الدين الهوى" ؛ (وضعفه) ؛ قال السخاوي : وفيه مع ضعفه انقطاع؛ (عن) ؛ باب مدينة العلم؛ ربان سفينة الفهم؛ سيد الحنفاء؛ زين الخلفاء؛ ذي القلب العقول؛ [ ص: 52 ] واللسان السؤول؛ بشهادة الرسول؛ أمير المؤمنين؛ (علي ) ؛ ابن أبي طالب؛ القائل فيه المصطفى: " من كنت مولاه؛ فعلي مولاه" ؛ والقائل هو: " لو شئت لأوقرت لكم من تفسير سورة الفاتحة سبعين وقرا" ؛ والقائل: " أنا عبد الله ؛ وأخو رسوله؛ والصديق الأكبر؛ لا يقولها بعدي إلا كاذب" ؛ قتل بالكوفة شهيدا؛ وعمر كالنبي وصاحبيه؛ ثم إن اقتصار المؤلف على عزو تضعيفه للبيهقي يؤذن بأنه غير موضوع؛ وقد رواه الطبراني بتقديم وتأخير؛ عازيا لعلي أيضا؛ وتعقبه الهيتمي بأن فيه أبا رجاء الحبطي؛ وهو كذاب؛ وبما تقرر عرف خطأ من زعم - كبعض شراح الشهاب - أنه حسن.



الخدمات العلمية