الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2583 2733 - وقال عقيل ، عن الزهري : قال عروة : فأخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمتحنهن ، وبلغنا أنه لما أنزل الله تعالى أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم ، وحكم على المسلمين ، أن لا يمسكوا بعصم الكوافر ، أن عمر طلق امرأتين : قريبة بنت أبي أمية ، وابنة جرول الخزاعي ، فتزوج قريبة معاوية ، وتزوج الأخرى أبو جهم ، فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم ، أنزل الله تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم [الممتحنة : 11] والعقب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار ، فأمر أن يعطى من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللائي هاجرن ، وما نعلم أحدا من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها . وبلغنا أن أبا بصير بن أسيد الثقفي قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا مهاجرا في المدة ، فكتب الأخنس بن شريق إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله أبا بصير ، فذكر الحديث . [انظر : 2713 - مسلم: 1866 - فتح: 5 \ 333]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث المسور بن مخرمة ، ومروان ، وساق حديث الحديبية .

                                                                                                                                                                                                                              وهو أتم ما جاء في سياقته ، وقد شرحناه في باب كيف يكتب الصلح تعجيلا .

                                                                                                                                                                                                                              ونذكر هنا ما أهملناه هناك ، وتكلمنا هناك على قوله : ("ما خلأت القصواء" ) والقصواء -ممدودة- ناقته - عليه السلام - .

                                                                                                                                                                                                                              قال الخطابي : وكانت مقصوة الأذن ; وهو قطع طرفها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 145 ] وقال الداودي : سميت بذلك ; لأنها كانت لا تكاد أن تسبق ، وكأنهم لها يقولون : أفضل السبق والجري ; لأن آخر كل شيء أقصاه ، ويقال لها : العضباء لأن طرف أذنها كان مقطوعا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس : العضباء : لقب ناقته ، وهي لغة : المشقوقة الأذن ، والذي قاله أهل اللغة -كما ذكره ابن التين- أن القصواء مأخوذة من القصا وهو صدف في أذن الناقة ، وجاء بلفظ فاعل ، ومعناه : مقصوة

                                                                                                                                                                                                                              قال الأصمعي : ولا يقال : بعير أقص ، قال : وضبط القصوى بضم القاف والقصر في بعض النسخ ، وفي بعضها بالفتح والمد وهو الصحيح في اللغة .

                                                                                                                                                                                                                              قال في "أدب الكاتب" : القصوى -بالضم والقصر- شذ من بين نظائره وحقه أن يكون بالياء مثل : الدنيا والعليا ; لأن الدنيا من دنوت ، والعليا من علوت .

                                                                                                                                                                                                                              قوله : (من أهل تهامة ) . قال الداودي : تهامة مكة وما حولها من البلد ، وحدها من جهة المدينة العرج ومنتهاها إلى أقصى اليمن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن فارس : التهم : شدة الحر وركود الريح . قال : وبذلك سميت تهامة . يقال : أتهم : أتى تهامة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فقال : إني تركت عامر بن لؤي ، وكعب بن لؤي ) هما قبيلان من قريش .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 146 ] وقوله : (وهو من قوم يعظمون البدن ) أي : ليسوا ممن يستحلها ، ومنه قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله [المائدة : 2] فكانوا يعلمون شأنها ، ولا يصدون من أم البيت الحرام فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإقامتها لهم من أجل علمه بتعظيمه لها ليخبر بذلك قومه فيخلوا بينه وبين البيت .

                                                                                                                                                                                                                              والبدن : من الإبل ، والبقر ، وقيل : لها بدن لسمنها وهي الهدايا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ) فيه دلالة على جواز ذلك ، وخالف فيه أبو حنيفة كما سلف حيث قال : لا يجوز الإشعار ، وصفته أن يكون عرضا من العنق إلى الذنب ، وفي كتاب ابن حبيب : طولا ، ويكون ذلك في الشق الأيسر .

                                                                                                                                                                                                                              هذا مشهور قول مالك . وخالف في "المبسوط" فقال : في الأيمن .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله في مكرز : ("هو رجل فاجر" ) يحتمل أن يكون أخبر بالوحي أو أن يكون ذلك ظاهر حاله ، وأراد مساوئ أفعاله غير الشرك .

                                                                                                                                                                                                                              وأنكر سهيل البسملة ; لأنهم كانوا في الجاهلية يكتبون : باسمك اللهم .

                                                                                                                                                                                                                              وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام يكتب كذلك فلما نزلت : بسم الله مجراها ومرساها [هود : 41] فلما نزلت : أو ادعوا الرحمن [الإسراء : 110] كتب : الرحمن ، فلما نزلت : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [النمل : 30] كتب كذلك ، وأدركتهم حمية الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                              والميم في قوله : ("اللهم" ) بدل من ياء في قول البصريين ، وقال الكوفيون : المعنى يا الله أمنا بخير فهي مضمنة ما يسأل فيها ، وفي إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في ذلك بعض المسامحة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم في أمور الدين ما لم يكن مضرا بأصله .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 147 ] وقوله : (أنا أخذنا ضغطة ) أي : مفاجأة ، قاله الداودي ، وقال الجوهري : يقال : ضغطه يضغطه ضغطا زحمه إلى حائط ونحوه ومنه ضغطة القبر .

                                                                                                                                                                                                                              و (الضغطة ) بالضم : الشدة والمشقة . يقال : ارفع عنا هذه الضغطة ، وأخذت فلانا ضغطة إذا ضيقت عليه لتكرهه على الشيء .

                                                                                                                                                                                                                              وسهيل أسلم بعد وحسن إسلامه ، خرج في خلافة عمر إلى الجهاد فمات هناك ، وكان من المؤلفة قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (يرسف في قيوده ) سلف في باب الصلح مع المشركين وأنه مشي المقيد ، أي : يثب وثبا خفيفا قدر استطاعته .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (أول ما أقاضيك ) أي : أعاقدك .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فعملت لذلك أعمالا ) ، قد أسلفت عن ابن الجوزي أنه إشارة إلى الاستغفار والاعتذار .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (أن عمر طلق امرأتين : قريبة بنت أبي أمية ، وابنة جرول الخزاعي ، فتزوج قريبة معاوية ، وتزوج الأخرى أبو جهم ) . وقال قبله : إنه تزوج إحداهما صفوان بن أمية .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر بكر في كتاب "الأحكام " قولين كما تقدم وهي : بنت جرول ، قيل : بالحاء وقيل بالجيم .

                                                                                                                                                                                                                              و (قريبة ) -بفتح القاف- كذا بخط الدمياطي ، وقال ابن التين : ضبطها بعضهم بالضم ، وبعضهم بالفتح .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 148 ] وقوله : (فضربه حتى برد ) أي : مات . ويقال للسيوف : البوارد ، أي : القواتل .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : إذا مات برد جسمه ، فلم يبق فيه من حر الضرب شيء .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("رأى هذا ذعرا" ) أي : فزعا . يقال : ذعر فهو مذعور .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (معه عصابة ) أي : جماعة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فأرسلت قريش تناشده الله والرحم ) أي : يسألونه بالله . قال الداودي أي : يذكرونه بالله .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (فأنزل الله تعالى : وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم لما أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سؤال قريش من أتاه فهو آمن .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي : ألقي في قلوبهم ، ولكنه - عليه السلام - ترك القتال ، وقال قتادة : كف أيدي المشركين حين خرجوا إلى الحديبية وكف أيديهم عنكم . قال : فطلع رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له : زنيم فرماه المشركون فقتلوه ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا اثني عشر فارسا فأتوا بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : "لكم عهد أو ذمة ؟ " ، قالوا : لا . فأطلقهم فنزلت عليه الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : والهدي معكوفا [الفتح : 25] أي : محبوسا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : أن تطئوهم [الفتح : 25] أي : تقتلوهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : معرة بغير علم أي : عيب .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 149 ] وقوله : (نزلت : وإن فاتكم شيء الآية [الممتحنة : 11] ، والعقب : ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار ، وقيل : أن تغزي في هذه الغزاة غزاة أخرى فيعطوا المؤمنين من الفيء ما فاتهم من أزواجهم من المهور .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الزهري : هذا في المسلم تخرج زوجته إلى بلد الشرك ولا يجيء منهم أحد ، فعلى المسلمين إذا غنموا أن يعطوه صداقها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال مسروق : معنى فعاقبتم أي : غنمتم ، وقال الأعمش : هي منسوخة ، وقيل : هذا كله مما ترك العمل به وهو معنى أو ننسها [البقرة : 106] .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : الحكم على الغائب ، قاله الداودي والمعاقبة بمثل ما يؤتى إلى المرء في الأمانة في المال وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (بلغنا أن أبا بصير بن أسيد ) ، هو بالباء الموحدة المفتوحة ، وكذا بالهمزة المفتوحة في أسيد . وقال ابن التين : ضبطه بعضهم بضم الهمزة ، وبعضهم بفتحها وكسر السين قيل : وهو الصحيح ; لأن أبا بصير مهاجر ، وكل مهاجري أسيد بفتحها ، وفي الأنصار ضمها . واستثنى هذا بعضهم ، وقال : هذا يوافق الأنصار أنه بالضم .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الحديث من الفقه : جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم إذا رأى لذلك الإمام وجها .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : كتابة الشروط التي تنعقد بين المسلمين والمشركين والإشهاد عليها ليكون ذلك شاهدا على من رام نقض ذلك والرجوع فيه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 150 ] وفيه : الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش ، وطلب غرتهم إذا بلغتهم الدعوة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز التنكيب عن الطريق بالجيوش وإن كان في ذلك مشقة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : بركة التيامن في الأمور كلها .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن ما عرض للسلطان وقواد الجيوش وجميع الناس مما هو خارج عن العادة يجب عليهم أن يتأملوه وينظروا الشبهة في قضاء الله في الأمم الخالية ، ويمسكوا صواب الخير فيه ، ويعلموا أن ذلك مثل ضرب لهم ، ونبهوا عليه كما امتثله الشارع في أمر ناقته وبروكها في قصة الفيل ; لأنها كانت إذا وجهت إلى مكة بركت ، وإذا صرفت عنها مشت كما دأب الفيل ، وهذا خارج عن العادة ; فعلم أن الله صرفها عن مكة كالفيل . ولذلك قال : "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ، يريد بذلك موافقة الرب جل جلاله في تعظيم الحرمات ; لأنه فهم عن الله إبلاغ الأعذار إلى أهل مكة فأبقى عليهم لما كان سبق لهم في علمه أنهم سيدخلون في دينه أفواجا ، وقد سبق .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : علامات النبوة وبركته عليه أفضل الصلاة والسلام وبركة السلاح المحمولة في سبيل الله ، ونبع الماء من السهم ، وإنما قدم - عليه السلام - مكة غير مستأمن مما كان بينه وبين أهل مكة من الحرب والمناصبة والعداوة ، ولا أخذ إذنهم في ذلك ; لأنه جرى على العادة من أن مكة غير ممنوعة من الحجاج والمعتمرين ، فلما علم الله تعالى أنهم صادوه ومقاتلوه حبس الناقة عن مكة كما حبس الفيل تنبيها له على الإبقاء عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ("إن قريشا قد نهكتهم الحرب" ) على وجه بذل النصيحة للقرابة التي كانت بينهم ، فقال لهم : "إن شئتم ماددتكم" أي : صالحتكم

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 151 ] مدة تستجمون فيها إن أردتم القتال ، وتدعوني مع الناس ، يعني : طوائف العرب ، فإن ظهرت عليهم دخلتم فيما دخلوا فيه .

                                                                                                                                                                                                                              وإنما نصحهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما فهم عن الله في حبس الناقة أنهم سيدخلون في الإسلام ، فأراد أن يجعل بينهم مدة يقلب الله تعالى فيها قلوبهم ، وفي لين قول بديل وعروة لقريش دليل على أنهم كانوا أهل إصغاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميل إليه كما قال في الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              وقول عروة له : (أرأيت إن استأصلت قومك ) دليل على أنه - عليه السلام - كان يومئذ في جمع يخاف منه عروة على أهل مكة الاستئصال لو قاتلهم وقد سلف ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة : في مواضع مفرقة من الحديث أيضا : تدلكهم بالنخامة منه على وجه التبرك ورجاء نفعها في أعضائهم .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : طهارة النخامة بخلاف من نجسها ونجس الماء بها ، إنما أكثروا من ذلك بحضرة عروة ، وتزاحموا عليه لأجل قوله : (إني لأرى وجوها وأشوابا من الناس . . ) إلى آخره ، فأروه أنهم أشد اغتباطا وتبركا بأمره وتثبتا في نصرته من القبائل التي تراعي الرحم بينهم .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : التفاؤل من الاسم وغيره كما سلف ، وقول سهيل : ما نعرف الرحمن . قد أخبر الرب جل جلاله عن العرب بذلك حيث قال : قالوا وما الرحمن [الفرقان : 60] .

                                                                                                                                                                                                                              وفي يمين المسلمين : (والله لا نكتب إلا البسملة ) أن أصحاب السلاطين [يجب عليهم مراعاة أمره] وعونه وعزة الله تعالى التي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 152 ] بها عزة السلطان ، وتركه إبرار قسمهم مع أنه أمرنا بإبراره ، إنما هو مندوب إليه فيما يحسن ويجمل .

                                                                                                                                                                                                                              وأما من حلف عليه في أمر لا يحسن ولا يجمل في دين ولا مروءة فلا يجيب إليه ، كما لم يجب إلى ما حلف عليه أصحابه ; لأنه كان يئول إلى انخرام المقاضاة بالصلح ، مع أن ما دعا إليه سهيل لم يكن إلحادا في أسمائه تعالى ، وكذلك ما أباه سهيل من كتابة محمد رسول الله ليس فيه إلحاد في الرسالة ; فلذلك أجابه - عليه السلام - إلى ما دعا إليه مع أنه لم يأنف سهيل من هذا إلا أنه كان مساق العقد عن أهل مكة ، وقد جاء في بعض الطرق : (هذا ما قاضى عليه أهل مكة رسول الله ) ، فخشي أن ينعقد في مقالهم الإقرار برسالته ، وقد سلف أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ) يدل أن المقاضاة إنما انعقدت على الرجال دون النساء ، فليس فيه نسخ حكم النساء على هذه الرواية ; لأن النساء لم يردهن كما رد الرجال ; من أجل أن الشرط إنما وقع برد الرجال خاصة ، ثم نزلت الآية في أمر النساء حين هاجرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبينة لما تقدم من حكم ذلك، وقد سلف ذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله لسهيل : ("إنا لم نقض الكتاب بعد" ) ، أراد أن يخلص أبا جندل ، وقد كان تم الصلح بالكلام ، والعقد قبل أن يكتب .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن من صالح أو عاقد على شيء بالكلام ولم يوف له به ، أنه بالخيار في النقض .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قول عمر وما قرر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنهم على الحق : (ولم نعط الدنية في ديننا ) أي : نرد من استجار بنا من المسلمين إلى المشركين . فقال له : "إني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولست أعصيه" تنبيها لعمر كما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 153 ] وفيه : جواز المعارضة في العلم حتى تبين المعاني .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : أن الكلام محمول على العموم حتى يقوم عليه دليل الخصوص .

                                                                                                                                                                                                                              ألا ترى أن عمر حمل كلامه على الخصوص ; لأنه طالبه بدخول البيت في ذلك العام فأخبره أنه لم يعده بذلك في ذلك العام ، بل وعده وعدا مطلقا في الدهر حتى وقع فدل أن الكلام محمول على العموم حتى يأتي دليل الخصوص .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله : (فإنك آتيه ) دليل أنه من حلف على فعل ولم يوقت وقتا أن وقته أيام حياته.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : فإن حلف بالطلاق ليفعلن كذا إلى وقت غير معلوم .

                                                                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : لا يطؤها حتى يفعل الذي حلف عليه فأيهما مات لم يرثه صاحبه ، هذا قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي والنخعي ، وأبي عبيد .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إن مات ورثته وله وطؤها ، روي هذا عن عطاء .

                                                                                                                                                                                                                              وقال يحيى بن سعيد : ترثه إن مات ، وقال مالك : إن ماتت امرأته يرثها ، وقال الثوري : إنما يقع الحنث بعد الموت ، وبه قال أبو ثور ، وقال أبو ثور أيضا : إذا حلف ولم يوقت فهو على يمينه حتى يموت ، ولا يقع حنث بعد الموت ، فإذا مات لم يكن عليه شيء . قال ابن المنذر : وهذا النظر .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : يضرب لها أجل المولى أربعة أشهر . روي هذا عن : القاسم وسالم ، وهو قول ربيعة ومالك والأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة : إن قال : أنت طالق إن لم آت البصرة ، فماتت امرأته قبل أن يأتي البصرة ، فله الميراث ، ولا يضره أن لا يأتي

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 154 ] البصرة بعد ; لأن امرأته ماتت قبل أن يحنث ، ولو مات قبلها حنث ، وكان لها الميراث ; لأنه فار ولأن الطلاق إنما وقع عليها قبل الموت بقليل ، فلها الميراث .

                                                                                                                                                                                                                              ولو قال لها أنت طالق إن لم تأت البصرة أنت ، فماتت فليس له منها ميراث ، وإن مات قبلها فلها الميراث ، ولا يضرها أن لا تأتي البصرة .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه قول سادس ; حكاه أبو عبيد عن بعض أهل النظر قال : إن أخذ الحالف في التأهب لما حلف عليه والسعي فيه حين تكلم باليمين حتى يكون متصلا بالبر ، وإلا فهو حانث عند ترك ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن المنذر : في هذا الحديث دليل أن من لم يحد ليمينه أجلا ، أنه على يمينه ولا يحنث إن وقف عن الفعل الذي حلف يفعله .

                                                                                                                                                                                                                              وتوقف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النحر والحلق لمخالفتهم العادة التي كانوا عليها ، أن لا ينحر أحد حتى يبلغ الهدي محله ، ولا يحلق إلا بعد الطواف والسعي حتى شاور الشارع أم سلمة ، فأراه الله بركة المشورة ففعل ما قالت ، فاقتدى به أصحابه .

                                                                                                                                                                                                                              فكذلك لو فعل في حجة الوداع ما أمر به أصحابه من الحلاق والحل ما اختلف عليه اثنان .

                                                                                                                                                                                                                              معنى هذا من الفقه : أن الفعل أقوى من القول .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه : جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي ، وأما إسلامه - عليه السلام - لأبي بصير وصاحبه إلى رسل مكة هو على ما انعقد في الرجال .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قتل أبي بصير لأحد الرسل بعد أن (أسلمه ) إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس عليه حراسة المشركين ممن يدفعه إليهم ، ولا عليه القود ممن قتل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 155 ] في الله وجاهد ; لأن هذا لم يكن من شرطه ولا طالب أولياء القتيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقود من أبي بصير على ما سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وقول أبي بصير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (قد أوفى الله ذمتك ) أنك رددتني إليهم كما شرطت لهم ، ولا تردني الثانية فلم يرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بما لا شك فيه من الوفاء ، فسكت عنه ، ونبهه على ما ينجو به من كفار قريش بتعريض عرض له به . وذلك قوله : "لو كان له أحد" يعني : من ينصره ويمنعه ، فعلمها أبو بصير وخرج سيف البحر ، وجعل يطلب غرة أهل مكة وأذاهم ، حتى لحق به أبو جندل وجماعة ، فرضي المشركون بحل هذا الشرط ، وأن يكفيهم الشارع نكايته ويكف عنهم عاديته .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : (ما كانوا يؤدونه إلى المشركين عوضا مما أنفقوا على أزواجهم المهاجرات في ذلك الصلح ) فهو منسوخ عن الشعبي وعطاء ومجاهد ، وقد سلف .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية