الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              2628 [ ص: 305 ] 35 - باب: قول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إلى قوله : والله لا يهدي القوم الفاسقين [المائدة : 106 - 108]

                                                                                                                                                                                                                              2780 - وقال لي علي بن عبد الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس -رضي الله عنهما -قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا من ذهب ، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وجد الجام بمكة فقالوا : ابتعناه من تميم وعدي . فقام رجلان من أوليائه ، فحلفا : لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم [المائدة :106] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وقال لي علي بن عبد الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جبير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بذهب ، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وجد الجام بمكة فقالوا : ابتعناه من تميم وعدي . فقام رجلان من أوليائه ، فحلفا : لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 306 ] الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم
                                                                                                                                                                                                                              [المائدة : 106] .

                                                                                                                                                                                                                              الشرح :

                                                                                                                                                                                                                              علي بن عبد الله هذا هو : ابن المديني ، ولعله أخذه عنه مذاكرة أو عرضا . ويجوز أن يكون علقه ; لأن محمد بن أبي القاسم (د . ت ) ليس على شرطه ، فإن عمر بن بجير ذكر عنه أنه قال : لا أعرفه كما أشتهي .

                                                                                                                                                                                                                              قيل له : فرواه غيره ؟ قال : لا ، وكان ابن المديني يستحسن هذا الحديث ، حديث محمد بن أبي القاسم قال : وقد روى عنه أبو أسامة إلا أنه غير مشهور .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : وأخرجه أبو داود في : القضاء عن الحسن بن علي ، والترمذي في : التفسير عن سفيان بن وكيع كلاهما عن يحيى بن آدم ، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة به ، قال الترمذي : حديث حسن غريب .

                                                                                                                                                                                                                              ومحمد بن أبي القاسم : الطويل . وقيل فيه : الأسدي ، قال فيه ابن المديني : لا أعرفه ، ونقل الحميدي عن ابن المديني أنه قال فيه : حديث غريب لا نعرفه إلا بهذا الإسناد .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن طاهر : ليس لمحمد ولا لعبد الملك في "صحيح البخاري " غير هذا الحديث الواحد .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الواحدي من حديث الحارث بن شريح ، عن يحيى بن زكريا به .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 307 ] وفيه : فأوصى لهما بتركته فدفعاها إلى أهله ، وكتما جاما . وفيه : فأحلفهما ما كتما ، ولا اطلعا وخلى سبيلهما .

                                                                                                                                                                                                                              وفي الترمذي من حديث ابن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس عن تميم في هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم [المائدة : 106] قال : (برئ منها ) الناس غيري وغير عدي وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام ، وقدم عليهما مولى لبني هاشم يقال له : بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظم تجارته ، وفيه : فلما مات أخذنا الجام فبعناه بألف درهم . قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت لهم خمسمائة درهم فأمرهم أن يستحلفوه مما يعظم به على أهل دينه فحلف ، فنزلت فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا ، فنزعت الخمسمائة من عدي .

                                                                                                                                                                                                                              قال الترمذي : حديث غريب وليس إسناده بصحيح ، وأبو النضر هو عندي : محمد بن السائب الكلبي ، وقد تركه أهل الحديث ، وقال محمد : محمد بن السائب يكنى أبا النضر ولا يعرف لسالم بن أبي النضر المدني رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "تفسير مقاتل " : خرج بديل بن أبي مارية -وفي كتاب النحاس : (بريل ) ، وقال ابن ماكولا : بالزاي . وفي "الصحابة "

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 308 ] للذهبي : بديل بن سارية كذا قال ابن منده ، وأبو نعيم : وإنما هو بزيل مولى العاصي بن وائل - مسافرا في البحر إلى النجاشي ، فمات بديل في السفينة وكان كتب وصية وجعلها في متاعه ثم دفعه إلى تميم وصاحبه عدي فأخذا منه ما أعجبهما وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب ، فلما ردا بقية المتاع إلى ورثته نظروا في الوصية ففقدوا بعض متاعه فكلموا تميما وعديا فقالا : ما لنا به علم . وفيه : فقام عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا فاعترف تميم بالخيانة ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : "ويحك يا تميم ، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان في شركك " فأسلم وحسن إسلامه ومات عدي بن بداء نصرانيا .

                                                                                                                                                                                                                              وفي "تفسير الثعلبي " : كان بديل بن أبي ماوية وقيل : ابن أبي مارية وقيل : ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاصي وكان بديل مسلما ومات بالشام .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن بطال عن ابن جريج ، عن عكرمة في هذه الآية قال : كان تميم الداري وأخوه نصرانيين وهما من لخم وكان متجرهما إلى مكة ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فقدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي المدينة وهو يريد الشام تاجرا فخرجوا جميعا حتى إذا كانوا ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية ، فكتب وصيته بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما ، فلما مات فتحا متاعه (فوجدا ) فيه أشياء فأخذاها فلما قدما على أهله الحديث .

                                                                                                                                                                                                                              فنزلت هذه الآية إلى قوله : إنا إذا لمن الآثمين [المائدة : 106] فاستحلفهما فحلف ثم ظهر على إناء من فضة منقوش بذهب معهما

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 309 ] فقالوا : هذا من متاعه فقالا : اشتريناه منه فارتفعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت : فإن عثر إلى قوله : مقامهما من أولياء الميت فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أهل الميت فكان يقول : صدق الله ورسوله وبلغ ، إني لأنا أخذت الإناء . والجام : إناء يشرب به . كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم هي : الشهادة بالحقوق عند الحكام ، أو شهادة الحضور للوصية وإليه الإشارة بقوله : ولا نكتم شهادة الله أي أمانته ، أو أيمان ، عبر عنها بلفظ الشهادة كاللعان أقوال

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( حين الوصية ) أي : شهادة هذا الحال شهادة اثنين ويحتمل ليكن أن يشهد اثنان .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله تعالى : ( اثنان ذوا عدل منكم ) قال ابن عباس : تجوز شهادة أهل الكفر على المسلمين في الوصية في السفر ، وأخذ في ذلك بالحديث الشعبي وابن المسيب وجماعة التابعين ، ورأوا الآية محكمة غير منسوخة .

                                                                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : إنها منسوخة بقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم وهو قول زيد بن أسلم ومالك والكوفيين والشافعي واحتجوا بقوله تعالى : ممن ترضون من الشهداء وأهل الكتاب ليسوا بعدول ، ولا ممن ترضى شهادتهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن زيد : لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب ، واليوم طبق الإسلام الأرض .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 310 ] وقوله : منكم أيها المسلمون ، وقال عكرمة وعبيدة من حي الموصي أو آخران من غيركم من قبلتكم .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : من غير ملتكم من أهل الكتاب قاله سعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر ، وأبو مجلز وحكاه ابن التين عن أحمد ، قالوا : فإن لم يجد مسلمين فليشهد كافرين إذا كان في سفر و أو هنا للتخيير .

                                                                                                                                                                                                                              وهل هو في المسلم والكتابي أو الكتابي مرتب على المسلم قاله ابن عباس : تحبسونهما توقفونهما للأيمان خطاب للورثة فأصابتكم مصيبة أي : وقد أصبتم إليها الصلاة العصر ، أو الظهر والعصر أو صلاة أهل دينهما من أهل الذمة قاله ابن عباس ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر إن ارتبتم في الوصيتين بالخيانة أحلفهما الورثة ، أو بعدالة الشاهدين أحلفهما الحاكم لتزول الريبة ، وهذا في السفر فقط ثمنا رشوة أو لا يعتاض عليه بحقير ولو كان ذا قربى أي : وإن عثر اطلع على أنهما كذبا وخانا عبر عنهما بالإثم لحدوثه عنهما استحقا الشاهدان أو الوصيان فآخران من الورثة يقومان مقامهما في اليمين .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 311 ] قال الزجاج : وهذا موضع مشكل الإعراب والمعنى وفيه أقوال منها : إن (على ) بمعنى : في كما قامت في مقام على في قوله : في جذوع النخل فالمعنى : استحق فيهم الأوليان وقيل بمعنى منهم مثل : إذا اكتالوا على الناس أي : منهم قال : والمختار عندي أن المعنى : ليقم الأولى بالميت فالأولى . والأوليان بدل من الألف في يقومان فالمعنى : من الذين استحق عليهم الإيصاء ، وأنكر ابن عباس هذه القراءة ، وقرأ "الأولين " . وقال : أرأيت إن كان الأوليان صغيرين .

                                                                                                                                                                                                                              وحكى الماوردي قولين في المراد بالأوليان : الأوليان بالميت من الورثة ، أو بالشهادة من المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : ( ذلك أدنى ) أي أقرب ولما ذكر الطحاوي حديث أبي داود أن رجلا من المسلمين توفي بدقوقاء ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب نصرانيين فقدما الكوفة على أبي موسى فقال أبو موسى : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأحلفهما بعد العصر ما خانا وكذبا ولا بدلا ، وأمضى شهادتهما قال : هذا يدل على أن الآية محكمة عند أبي موسى وابن عباس ، ولا أعلم لهما مخالفا من الصحابة في ذلك ، وعلى ذلك أكثر التابعين . ونقل النحاس عن النعمان أنه أجاز شهادة الكفار بعضهم على بعض ، وأن الزهري والحسن قالا : إن الآية كلها في المسلمين ، وذهب غيرهما إلى الشهادة هنا بمعنى الحضور ، وقد أسلفناه .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 312 ] قال : وتكلموا في معنى استحلاف الشاهدين هنا فمنهم من قال : لأنهما ادعيا وصية من الميت ، وهو قول يحيى بن يعمر قال : وهذا لا يعرف في حكم الإسلام أن يدعي رجل وصيته فيحلف ويأخذها ، ومنهم من قال : يحلفان إذا شهدا أن الميت أوصى بما لا يجوز أو بماله كله ، وهذا أيضا لا يعرف في الأحكام ، ومنهم من قال : يحلفان إذا اتهما ثم ينقل اليمين عنهما إذا اطلع على الخيانة .

                                                                                                                                                                                                                              وزعم ابن زيد : أن ذلك كان في أول الإسلام كان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت الوصية وقررت الفرائض ، وقد سلف .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي : ذهبت عائشة إلى أن هذه الآية ثابتة غير منسوخة ، وروي ذلك عن الحسن والنخعي وهو قول الأوزاعي قال : وكان تميم وعدي وصيين لا شاهدين والشهود لا يحلفون ، وإنما عبر بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها في قبول الوصية .

                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها : انتزع ابن شريح من هذه الآية الشاهد واليمين فيما حكاه ابن التين عنه ، قال عنه : ومعنى عثر بين على أنهما يعني : الوصيين فآخران يريدوا وارثي الميت ، ثم قال : وقوله : فإن عثر على أنهما لا يخلو من أربعة أوجه : إما أن يقرا ، أو يشهدا أو يشهد عليهما شاهدان ، أو شاهد وامرأتان ، أو شاهد واحد قال : وأجمعنا أن الإقرار بعد الإنكار لا يوجب يمينا على الطالبين وكذلك مع الشاهدين ، والشاهد والمرأتين فلم يبق إلا شاهد واحد وكذلك استحلف الطالبان ورويت القصة بنحو ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 313 ] ثانيها : قوله (مخوص بالذهب ) قال ابن الجوزي : صيغت فيه صفائح مثل الخوص من الذهب . وقال ابن بطال : نقش فيه صفة الخوص ، وطلي بالذهب . والخوص : ورق النخل والمقل . وقال ابن التين : والجام الإناء المخوص المقلت ، وأغرب بعضهم فرواه بضاد معجمة حكاه المنذري والمشهور بمهملة وخاء معجمة .

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها : الحالفان قيل : هما عبد الله بن عمرو بن العاصي والمطلب ، وقد أسلفنا من طريق الترمذي أن أحدهما عمرو بن العاصي ومن طريق غيره : عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة . والسهمي في رواية البخاري هو : بديل بن أبي مريم كذا قاله ابن التين وقد قدمنا فيه أقوالا أخر .

                                                                                                                                                                                                                              رابعها : ما قدمناه عن ابن عباس من قبول شهادة الكفار على المسلمين في الوصية في السفر أخذا من هذا الحديث هو ما ذكره ابن بطال ، وأما ابن المنير فرده عليه بأن الشهادة كانت عبارة عن اليمين .

                                                                                                                                                                                                                              قال : ولا خلاف أن يمينه مقبولة إذا ادعى عليه فأنكر ، ولا بينة ، ولعل تميما اعترف أن الجام كان ملكه من الميت بشراء أو غيره ، فكان ولي الكافر مدعى عليه فحلف واستحق وفي بعض الحديث التصريح بهذا ، ولو لم يكن لكان الاحتمال كافيا في إسقاط (الاستبدال ) لأنها واقعة عين .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : سلف ذكر بديل بن مارية في الصحابة .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية