الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              5559 [ ص: 122 ] 67 - باب: الخضاب

                                                                                                                                                                                                                              5899 - حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، عن أبي سلمة وسليمان بن يسار، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم". [انظر: 3462 - مسلم: 2103 - فتح: 10 \ 354]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم".

                                                                                                                                                                                                                              اختلف السلف في تغيير الشيب، وروى شعبة عن الركين بن الربيع قال: سمعت (القاسم بن حسان) يحدث، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن مسعود أنه - عليه السلام - كان يكره تغيير الشيب .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه - عليه السلام - قال: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة، إلا أن ينتفها أو يخضبها" فرأى بعضهم أن أمره - عليه السلام - بصبغه أمر ندب، وأن تغييره أولى من تركه أبيض.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 123 ] وروي عن قيس بن أبي حازم قال: كان أبو بكر الصديق يخرج إلينا وكأن لحيته ضرام العرفج من الحناء والكتم ، وكان الشعبي وابن أبي مليكة يخضبان كذلك أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن عمر بن الخطاب أنه كان يأمر بالخضاب بالسواد ويقول: هو تسكين للزوجة وأهيب للعدو.

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن أبي مليكة أن عثمان (كان) يخضب به.

                                                                                                                                                                                                                              وعن عقبة بن عامر والحسن والحسين أنهم كانوا يخضبون به .

                                                                                                                                                                                                                              ومن التابعين: علي بن عبد الله بن عباس، وعروة بن الزبير وابن سيرين، وأبو بردة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن وهب عن مالك قال: لم أسمع في صبغ الشعر بالسواد نهيا معلوما، وغيره أحب إلي .

                                                                                                                                                                                                                              وممن كان يصبغ بالصفرة: علي وابن عمر والمغيرة وجرير البجلي وأبو هريرة وأنس - رضي الله عنهم - .

                                                                                                                                                                                                                              ومن التابعين: عطاء وأبو وائل والحسن وطاوس وسعيد بن المسيب - رحمهم الله - .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 124 ] واعتل مغيرو الشيب من حديث أبي هريرة (وغيره) بما رواه مطر الوراق عن أبي رجاء، عن جابر قال: جيء بأبى قحافة - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه ولحيته كأنهما ثغامة بيضاء، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغيروه فحمروه ، والثغامة مثلثة مفتوحة ثم غين معجمة، قال أبو عبيد: هو نبت أبيض الزهر والثمر يشبه بياض الشيب به . وقال ابن الأعرابي: هي شجرة بيضاء كأنها الملح.

                                                                                                                                                                                                                              ورأى آخرون تركه أبيض أولى من تغييره وأن الصحيح عنده نهيه عن تغييره وقالوا: توفي وقد بدا في عنفقته (ورأسه) الشيب ولم يغيره بشيء ولو كان تغييره الاختيار كان قد آثر الأفضل.

                                                                                                                                                                                                                              قال: أبو إسحاق الهمداني: رأيت عليا - رضي الله عنه - أبيض الرأس واللحية، قاله الشعبي .

                                                                                                                                                                                                                              وكان أبي بن كعب أبيض اللحية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أنس ومالك بن أوس وسلمة بن الأكوع أنهم كانوا لا يغيرون الشيب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 125 ] وعن أبي الطفيل وأبي بردة الأسلمي مثله.

                                                                                                                                                                                                                              وكان أبو مجلز وعكرمة (وسعيد بن جبير) وعطاء بن السائب لا يخضبون، واعتلوا بما روى أبو إسحاق عن أبي جحيفة قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عنفقته بيضاء .

                                                                                                                                                                                                                              قال المحب الطبري: والصواب عندنا أن الآثار التي رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتغييره والنهي عنه صحاح، ولكن بعضها عام وبعضها خاص بقوله: "خالفوا اليهود وغيروا الشيب" المراد منه الخصوص أي: غيروا الشيب الذي هو نظير شيب أبي قحافة، وأما من كان أشمط فهو الذي أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يغيره، وقال: "من شاب شيبة .. " الحديث ; لأنه لا يجوز أن يكون من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول متضاد، ولا نسخ فتعين الجمع، فمن غيره من الصحابة محمول على الأول ومن لم يغيره فالثاني مع أن تغييره ندب لا فرض، ولا أرى بغير ذلك - وإن كان قليلا - حرجا بتغيره إذ كان النهي عن ذلك نهي كراهة لا تحريما; لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وكذلك الأمر فيما أمر به على وجه الندب ولو لم يكن كذلك كان تاركو التغيير قد أنكروا على المغيرين، أو أنكر المغيرون على تاركي التغيير، وبنحو معناه قال (النووي) .

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              يصبغ بضم الباء وفتحها حكاها في "المشارق" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 126 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روينا في كتاب: "الخضاب" تأليف ابن أبي عاصم من حديث هشام، عن أبيه، عن الزبير بن العوام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود" قال: وفيه: عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الأوزاعي قال: "اخضبوا فإن اليهود والنصارى لا يخضبون" ثم أسند عن عتبة بن عبد قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتغيير الشعر مخالفة الأعاجم .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا الاختلاف في سببه، وأن أنسا أنكره وأن أم سلمة أخرجته: أحمر. وروى ابن سعد قال ربيعة: رأيت شعرا من شعره أحمر فسألت عنه فقالوا: أحمر من الطيب .

                                                                                                                                                                                                                              وهذا يؤيد ما تأولناه فيما مضى من الحديثين السالفين وعن عبد الرحمن اليماني: كان - عليه السلام - يغير لحيته بماء السدر، وعن عبد الرحمن ابن حرملة عن عبد الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره (تغيير لحيته) .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 127 ] قال الطحاوي: وحديث ابن مسعود في العشرة الأشياء التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهها ومنها تغيير الشيب، ما حضرنا فيه أنا قد روينا أنه - عليه السلام - قال: "إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم" فعقلنا بذلك أنه كان في البداء على مثل ما كانوا عليه; لما روي أنه كان فيما لم يؤمر فيه بشيء يحب موافقة أهل الكتاب، فكان على ذلك حتى أحدث الله له شريعته ما يخالف ذلك من الخضاب فأمر به، وبخلاف ما عليه أهل الكتاب من تركه، وعقلنا بذلك أن جميع ما روي عنه في الأمر باستعمال الخضاب متأخر عن ذلك .

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال الإسماعيلي في "صحيحه": حديث الشعر الذي أخرجته أم سلمة لم يبين فيه أنه - عليه السلام - هو الذي خضب، ولعله لون بعده أو وضع في طيب فيه صفرة تعلقته، فإن حديث أنس أصح، فإن بعضهم حكى عن أنس أن شعره أحمر ولم يخبر عن أم سلمة أنه - عليه السلام - خضب.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              ذكر غير واحد أن عقبة بن عامر كان يخضب بالسواد، فإذا اتصل قال: (تسود) أعلاها وتأبى أصولها .

                                                                                                                                                                                                                              وبه قال مالك وجماعة من أهل المدينة استدلالا بحديث: "غيروا الشيب" وهو حديث حسن الإسناد - كما قاله أبو عمر - وتغييره عام بالسواد أو بغيره، وأفرده ابن الجوزي بالتأليف، وسنذكر قطعة منه بعد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 128 ] فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن أبي عاصم من حديث الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبي الأسود الديلي، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم"، وفي رواية: "أفضل" .

                                                                                                                                                                                                                              وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، وأنس وعبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنهم - مثله.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث الضحاك بن حمرة، عن غيلان بن جامع وإياد بن لقيط، عن أبي رمثة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وله شعر مخضوب بالحناء والكتم .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - رأى رجلا خضب بالحناء، فقال: "ما أحسن هذا" وآخر خضب بالحناء والكتم فقال: "هذا أحسن من هذا كله" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 129 ] ومن حديث رجاء، عن عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن مالك، وشعيب بن عمرو، وناجية بن عمرو يقولون: رأينا رسول الله يخضب بالحناء والكتم.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عبد الله بن العلاء بن زبر، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم، فقال: "صفروا أو حمروا" .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث (حذيفة) عن أبي يوسف: سمعت حسان بن أبي جابر السلمي قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطواف، فرأى رجالا من أصحابه قد صفروا; فقال: "مرحبا بالمصفرين" .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حديث مطر، عن أبي رجاء، عن (جابر) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في أبي قحافة: "اذهبوا به إلى بعض نسائه يغير شيبه" قال: فذهبوا به فحمروه ، وكان - عليه السلام - أمرهم بتجنب السواد.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 130 ] وفي حديث عبد الكريم، عن ابن جبير، عن ابن عباس مرفوعا: "يكون في آخر الزمان (قوم) يخضبون بالسواد لا يجدون ريح الجنة" ومن حديث أنس بن مالك مرفوعا: "غيروا ولا تغيروا بالسواد" فيه ابن لهيعة .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "من خضب بالسواد لم ينظر الله إليه" .

                                                                                                                                                                                                                              وللطبراني من حديث الوضين، عن جنادة، عن أبي الدرداء مرفوعا: "من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة" .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن أبي عاصم بأسانيده أن حسنا وحسينا كانا يخضبان به، وكذلك ابن شهاب، وقال: أحبه إلينا أحلكه ، وكذلك شرحبيل بن السمط، وقال عنبسة بن سعيد: إنما شعرك بمنزلة ثوبك فاصبغه بأي لون شئت، وأحبه إلينا أحلكه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 131 ] وكان إسماعيل بن أبي عبد الله يخضب بالسواد، وقال ابن الأجلح: رأيت ابن أبي ليلى والحجاج بن أرطاة كانا يخضبان بالوسمة ، ثم قال: إن قال قائل: صبغ الرأس واللحية بالسواد غير جائز بل مكروه، واحتج بالأخبار السالفة، قيل له: ليست حجة في النهي ولا زجرا عنه، وذلك أنه - عليه السلام - إنما أخبر عن قوم علامتهم الخضاب بالسواد، وليس - وإن كان الخضاب به علامة لهم - منهي منه عن الخضاب به، وقد أخبر - عليه السلام - أن علامة الخوارج حلق الرءوس، ولم يقل قائل بالنهي عن حلقها كذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله لأبي قحافة: "جنبوه السواد" فإنما أمر بذلك لما رأى من هيئته; لأن الخضاب بالسواد إنما يكون لمن يليق به من نضارة الوجه، فأما في صفة أبي قحافة فهو شين; لأنه غير ملائم (لمثله) ولا مشاكل، وقال الزهري: كنا نخضب بالسواد إذ كان الوجه جديدا، فلما نغص الوجه والأسنان تركناه.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لو (ضعفت) أحاديث النهي كان أولى. قال: وفي قوله: "وجنبوه السواد" دليل على أن العرب كانت تخضب به وأنه من فعلهم، قلت: وأول من صبغ به فيما ذكره الكلبي عبد المطلب بن (هاشم) .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 132 ] قال ابن أبي عاصم: وفيما ثبت عنه أنه - عليه السلام - قال: "اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم" إباحة.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: أن يغير الشيب بكل ما شاء المغير له إذ لم يتضمن قوله: "خالفوهم" أن اصبغوا بكذا وكذا دون كذا وكذا، وقد ثبت عن الحسن والحسين - وهما هما وفيهما القدوة - الخبر ما قدمناه ، وكذلك محمد بن الحنفية .

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله: " (إن أحسن) ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم" ; دليل على أن تغيير الشيب بكل ما غير به حسن.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              قال: فإن قلت: اختلاف الأخبار في خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما اختضب به، وفي إخبار من أخبر من أصحابه أنه لم يختضب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية من روى تيسير شيبه ومواضع الشيب منه ما يوجب التوقف عن القطع بها، وقد أثبتوا الشيب، فإن الشيب ثابت والخضاب غير ثابت حتى يتفقوا منه على مثل ما اتفقوا على الشيب، فحكي عن بعضهم أنه كان (سبع) عشرة شعرة بيضاء، وقال آخرون: عشرون.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وذكر العلامة أبو القاسم في كتاب "الشيب" عن أنس

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 133 ] خمس عشرة، وعند ابن سعد: سبع عشرة أو ثماني عشرة، وفي حديث الهيثم بن دهر: ثلاثون شعرة عددا، وفي حديث جابر بن سمرة: ما كان في رأسه ولحيته من الشيب إلا شعرات في مفرق رأسه إذا ادهن واراهن الدهن ، وكان قد اتفق على أنه كان شيبة، وقال أبو بكر وأبو جحيفة - رضي الله عنهما - : نراك يا رسول الله قد شبت قال: "وما لي لا أشيب". وذكر القصة .

                                                                                                                                                                                                                              قلت: هذا التجلي إنما كان في النوم - كما بينه الدارقطني وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن أبي عاصم: فهذا ما اعتل به من وصفنا قوله الموهن في الأخبار المروجة في ذلك بزعمه أنها متناقضة; متنافية إذ الحناء والكتم ضد الحمرة، والحمرة ضد الصفرة. فأما خبر أنس أنه لم يخضب فقد عارضه ما روى عائذ بن شريح عن أنس أنه - عليه السلام - خضب; ومع ذلك فليس قول أنس أنه - عليه السلام - لم يخضب بحجة على من قال: إنه خضب، لأن هذا مثبت ومشاهد لما رأى، وذلك ناف، والنافي لا يكون حجة على المثبت. وأما خبر ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه - عليه السلام - خضب بالصفرة فالمحفوظ عن ابن عمر أنه كان يخضب، ولا حجة في ذلك الخبر. إنما رواه شريك عن عبيد الله عن نافع، عنه. وهذا خبر قد اتفق أهل العلم منه على معنى ليس هذا موضع ذكره، وليس فيما اختلف من خضابه بالحناء والكتم، وبالحناء دون الكتم، وبالصفرة تضاد، وذلك أنه جائز أن يخضب بالصفرة في وقت، فيحكي الرائي له ما رأى، وفي وقت آخر خضب بالحناء والكتم فحكى الرائي [ ص: 134 ] ذلك. وغير مستنكر لخضاب الحناء إذا أتت عليه مدة أن تزول عنه شدة الصبغ حتى تصير إلى الحمرة. فمن رآه في هذه الحالة حكى حمرة، وغير مستنكر إذا خضب بحناء رقيقا أن يقول (قائل) : هذه صفرة، ويقول آخر: هذه حمرة فلا تضاد إذا.

                                                                                                                                                                                                                              فصل:

                                                                                                                                                                                                                              روى أبو القاسم موسى بن عيسى بن مهدي في كتاب "الشيب" الراوي عن الكريمي وشبهه أن إبراهيم الخليل - صلوات الله وسلامه عليه - أول من شاب، وذلك أنه كان يشبه ابنه إسحاق، فكان الناس يقولون له: يا أبا يعقوب فعلنا كذا وكذا، فدعا الله أن يفرق بين شبههما ففرقه بالشيب. وقيل: إنه لما شاب قال: يا رب ما هذا؟ قال: وقار. فقال: رب (زدني) فأصبح وقد امتلأ شيبا.

                                                                                                                                                                                                                              وعن أبي أمامة: بينا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى إذ خرجت كف من السماء بين أصبعين من أصابعه شعرة بيضاء فجعلت تدنو حتى ألقيت في رأسه، وقالت: اشتعل وقارا، قال: فاشتعل رأسه منها شيبا، فكان أول من شاب. وعن عبد الله بن عبيدة قال: لما رأى إبراهيم - عليه السلام - الشيب قال: مرحبا بالعلم والحلم، الحمد لله الذي أخرجني من الشباب سالما. وفي حديث ابن جريج عن نافع، عن ابن عمر مرفوعا: "من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة" .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 135 ] وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رواية: الشيب نور الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                              وعن عمرو بن عنبسة يرفعه: "من شاب شيبة في الإسلام فهي له نور يوم القيامة" .

                                                                                                                                                                                                                              ولفظ عبد الرحمن بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله، ومن حديث نوح بن ذكوان، عن أخيه أيوب، عن الحسن، عن أنس يرفعه: "إن الله تعالى يقول: إني لأستحيي من عبدي أو أمتي يشيبان في الإسلام ثم أعذبهما بعد ذلك" .

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث أبي الهيثم بن التيهان مرفوعا: "من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة".

                                                                                                                                                                                                                              وعن عامر السلمي مرفوعا مثله، وكذا عن أبي أمامة، وفيه فرج بن فضالة .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 136 ] فرع:

                                                                                                                                                                                                                              ينعطف على ما (مضى) الخضاب بالسواد يحرم على الأصح لا كراهة تنزيه. وقال عياض: ترك الخضاب أفضل. وقال بعضهم: الخضاب أفضل .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطحاوي: ولا تناقض بل الأمر به لمن كان شيبه كأبي قحافة، والنهي لمن له شمط فقط. والأمر في ذلك ليس للوجوب إجماعا، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ.

                                                                                                                                                                                                                              قال عياض: وقال غيره هو على حالين، فمن كان في موضع عادة أهله الصبغ أو تركه فخروجه عن العادة مكروه، والثاني يختلف باختلاف نطاق الشيب، فمن كانت شيبته نقية أحسن منها مصبوغة فالترك أولى وبالعكس .




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية