الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                          [ ص: 13 ] ذكر ما يجب على المرء من الإقراع بين النسوة إذا كن عنده وأراد سفرا .

                                                                                                                          4212 - أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال : حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله عن حديث عائشة ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكل حدثني بطائفة من الحديث ، وبعضهم أوعى لحديثها من بعض وأسد اقتصاصا ، وقد وعيت من كل واحد الحديث الذي حدثني به ، وبعضهم يصدق بعضا .

                                                                                                                          ذكروا أن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعد أن أنزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، ودنونا من المدينة آذن بالرحيل ليلة ، فقمت حين آذنوا في الرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني ، رجعت فلمست صدري ، [ ص: 14 ] فإذا عقد من جزع ظفار قد وقع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين يرحلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحملوا هودجي ورحلوه على البعير الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه .

                                                                                                                          قالت عائشة : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يغشهن اللحم ، فرحلوه ورفعوه ، فلما بعثوا وسار الجيش ، وجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم ، وليس بها داع ولا مجيب ، فأقمت منزلي الذي كنت فيه ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني عرس فأدلج [ ص: 15 ] فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان ، فعرفني حين رآني ، وكان رآني قبل أن ينزل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني بكلمة ، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فركبته ، ثم انطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك في شأني من هلك ، وكان الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي ابن سلول .

                                                                                                                          فقدمت المدينة ، فاشتكيت حين قدمتها شهرا ، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأني لا أرى منه اللطف الذي كنت أراه منه حين أشتكي ، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : كيف تيكم ؟ فيريبني ذلك ، ولا أشعر حتى خرجت بعدما نقهت من مرضي ومعي أم مسطح قبل المناصع ، وهي [ ص: 16 ] متبرزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك أنا نكره أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز ، وكنا نتأذى بالكنف قرب بيوتنا ، فانطلقت ومعي أم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها بنت صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، فأقبلنا حين فرغنا من شأننا لنأتي البيت ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه ، أولم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك .

                                                                                                                          فازددت مرضا إلى مرضي ، ورجعت إلى بيتي ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : كيف تيكم ؟ فقلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ قالت : أي بنية هوني عليك فوالله لقل امرأة وضيئة كانت عند رجل يحبها ، ولها ضرائر ، إلا أكثرن عليها ، قالت : فقلت : سبحان الله ، أوتحدث الناس بذلك ؟ قالت : فمكثت [ ص: 17 ] تلك الليلة لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم أصبح وأبكي .

                                                                                                                          ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد ، وهو حينئذ يريد أن يستشيرهما في فراق أهله ، وذلك حين استلبث الوحي ، فأما أسامة بن زيد ، فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله وما له في نفسه لهم من الود ، فقال : هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، [ ص: 18 ] وإن تسأل الجارية تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : أي بريرة هل رأيت من عائشة شيئا يريبك ؟ قالت بريرة : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيدخل الداجن فيأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقال وهو على المنبر : يا معشر المسلمين ، من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهل بيتي ؟ فوالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت منه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية ، فقال : والله ما تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، فثار الحيان الأوس [ ص: 19 ] والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي .

                                                                                                                          فبينما هما جالسان عندي ، إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست معي ، فبينما نحن على حالنا ذلك ، إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ، ولم يكن جلس قبل يومي ذلك مذ كان من أمري ما كان ، ولبث شهرا لا يوحى إليه ، قالت : فتشهد ثم قال : أما بعد ، فقد بلغني يا عائشة عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي ، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثم تاب تاب الله عليه .

                                                                                                                          فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته ، قلص دمعي حتى ما أحس منه بقطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله لا أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بذاك حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فإن قلت لكم : إني بريئة ، والله يعلم أني بريئة لم تصدقوني ، وإن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم [ ص: 20 ] أني بريئة لتصدقوني ، وإني والله لا أجد مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

                                                                                                                          ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله جل وعلا يبرئني ببراءتي ، ولكن لم أظن أن الله جل وعلا ينزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله جل وعلا في بأمر يتلى ، ولكن أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه رؤيا يبرئني الله بها .

                                                                                                                          قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ، ولا خرج من البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي من ثقل القول الذي أنزل عليه ، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أول كلمة تكلم بها ، أن قال : يا عائشة ، أما والله فقد برأك الله .

                                                                                                                          فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله الذي هو أنزل براءتي ، فأنزل الله إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر الآيات ، قالت : فأنزل الله هذه الآيات في براءتي .

                                                                                                                          [ ص: 21 ] وكان أبو بكر رضوان الله عليه ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ، فقال : والله لا أنفق عليه أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال ، فأنزل الله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي .

                                                                                                                          فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه ، فقال : والله لا أنزعها منه أبدا ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري ما علمت وما رأيت ؟ فقالت : أحمي سمعي [ ص: 22 ] وبصري ما علمت إلا خيرا ، قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك
                                                                                                                          .

                                                                                                                          قال الزهري : فهذا ما انتهى إلي من أمر هؤلاء الرهط .

                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                          الخدمات العلمية